دخلت المقاومة الفلسطينية المعركة الأخيرة على أصوات التناقضات الخارجية الواسعة، والتجاذب العربي ــ العربي والإسلامي ــ الإسلامي، وعراك المحاور الإقليمية غير المحدود، حتى طغى صوت كل ذلك على ميدان المعركة، وتسبب بالأثر السلبي الكبير على المعركة ككل، وأثر بشكل مباشر على نهايتها السياسية.
تعتبر حركة حماس الأكبر والأوسع في فصائل المقاومة الفلسطينية، وصاحبة الوزن الأكبر داخليًا وخارجيًا؛ ولذلك كان لها أن تتأثر وتؤثر على المعركة نتيجة وجودها ضمن تلك التناقضات والتجاذبات، التي فُرضت بعضها عليها، فيما اختارت هي البعض الآخر.
قد لا نستطيع الحديث في الوقت الحالي عن التناقضات التي فُرضت عليها، ولكن يمكننا الإسهاب في ما اختارته هي نتيجة تحالفها مع جهات معينة، وهذا يدعونا للبحث عن بوادر تحالفات جديدة، فالعمل على توثيقها، وتوزيع الثقل السياسي على أكثر من جهة مستضيفة وداعمة، من شأنه تخفيف الضغط السياسي عليها، وتقليل التزاماتها وتبعات الدعم، وفتح آفاق جديدة لها، وحتى ارتفاع مستوى دعم داعميها بمختلف أنواعه.
إن حاولت حماس البحث عن فرص بناء قواعد جديدة لتضيفها على ما لديها، سنجد تونس في مقدمتها، ليس لتاريخ استقبالها منظمة التحرير الفلسطينية ومقاتليها في الوقت الذي ضاقت عليهم البلاد، ولا لتحملها أعباء تلك الاستضافة على مدار عشر سنوات، بل لأسباب مرتبطة بحاضر أيامنا، منذ بدء الربيع الذي هلّ علينا من هناك، وحتى اللحظة.
نرى هذه الأيام تونس تستكمل ثورتها في طريقها نحو الاستقرار، وتقلّ مع مرور الأيام مخاوف تمكن الثورة المضادة منها، خاصة بعد إنجاز الانتخابات الاخيرة، وبذلك، يمكن التنبؤ بأن تونس مقبلة على تقديم نموذج مستقر للدولة العربية الديمقراطية الحديثة.
لقد كان لتونس ظهورٌ واضحٌ في العدوان الأخير على غزة على جميع المستويات، ولم يكن هذا الموقف مجرد موقف تضامن محدود على تصريحات الاستنكار الرسمية، فقد خرج الرئيس التونسي ليعلن موقفًا رسميًا مؤيدًا لغزة وأهاليها، ومتحدثًا عن المقاومة بكل فخر واعتزاز، ومؤكدًا على مطالبها وشرعيتها، وراح لأبعد من ذلك، ليُنظم ويُوحد الحالة الشعبية التلقائية التي خرجت في شوارع تونس، معلنًا خطوات الانتصار الشعبية لغزة، بعد تنسيقه مع الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، مؤكدًا على أن قضية فلسطين توحدهم وتجمعهم، بغض النظر عن تنوعهم وتنوع توجهاتهم.
لا أحد يختلف على أنّ الحالة الشعبية في تونس بطبيعتها مؤيدة ومنتصرة لفلسطين وأهلها، وأنّ للفلسطينيين في وجدان التوانسة المكان الأكبر عربيًا، وقد رأينا شواهد ذلك متجلية في ثورتهم بالشعارات والصور والأعلام الفلسطينية، التي كانت تعلو مظاهراتهم، ونراه يوميًا في محاربتهم للتطبيع، وترصدهم للمطبّعين.
ولذلك، فإنّ الحديث عن قضية فلسطين كقضية جامعة للشعب والأحزاب والمجتمع المدني التونسي ليس كلامًا رومانسيًا نردده في سياق التمني، بل هو كلام واقعي شهدنا ملامحه مجتمعة في الحرب الأخيرة على غزة.
وعلى ما سبق؛ تونس تطرح نفسها اليوم كقاعدة قوية جديدة لفصائل المقاومة، تُضاف على ما لديها من قواعد، وتنطلق منها لخلق قواعد أخرى، مستغلة فيها أيّ شكل من أشكال التأييد والدعم، وصولاً إلى دول أمريكا اللاتينية.
وفي حال نوت حماس اليوم افتتاح قاعدة لها في تونس، يجدر بها التوجه لها كقاعدة خارجة عن نطاق المحاور التي تتصارع اليوم، وتستخدم المقاومة كورقة وأداة ضغط فيما بينها وعليها، وتعوّل – أي حماس – فيها على الحاضنة الداعمة الشعبية قبل الرسمية، وليس من باب التحليق في فلك الإخوان المسلمين، حتى لو تمكنوا من الحكم أكثر.
تحتاج المقاومة الفلسطينية لأن تُبقي نفسها خارج نطاق المحاور دائمًا، وأن تخلق لنفسها أكثر من قاعدة تتنقل فيما بينها، تجنبًا للتورط في التزامات كل قاعدة أو حتى إثقالها، وحتى لا ترهن نفسها لخلافات القاعدة الداخلية، أو أيّ تغير في مواقفها الخارجية، خاصة في ظل التغيرات الإقليمية المتسارعة التي نشهدها اليوم، فتاريخنا يحكي أنّ أيّ فصيل يرهن نفسه لجهة واحدة، لابد له من التأثر المباشر بسياساتها الداخلية والخارجية ووضعها الاقتصادي، هذا إن لم ينتهي، والتاريخ يملي علينا أنّ الانخراط في صراع المحاور يضر المنخرطين أكثر من الفاعلين.
قضية فلسطين قضية عادلة، ليس لمؤيديها ومناصريها حدود، فمن الطبيعي أن تُبقي المقاومة أمام أعينها العالم أجمع، وأن تسند ظهرها على كل ساحاته، وليس على ساحات محدودة مهما كبرت، وكَبر حجم دعمها، وعَظم شأن نوعه.