نجحت شركة سامسونغ Samsung الكورية الجنوبية في تصدر قائمة منتجي الأجهزة الإلكترونية ورواد التكنولوجيا في العالم، بفضل إنتاجها لمجموعة واسعة من الإلكترونيات الاستهلاكية والصناعية بما في ذلك أجهزة الوسائط الرقمية وأشباه الموصلات ورقائق الذاكرة والأنظمة المتكاملة، ومساهمتها في إجمالي صادرات كوريا الجنوبية (الخمس)، فيما عجزت تجارب أخرى عربية ومنها الأثير التونسية على الصمود وتركيز صناعة إلكترونية رائدة في المنطقة العربية.
قد يتخيل البعض أن سامسونغ ولدت كبيرة أو شركة عملاقة منذ نشأتها الأولى، ولكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا، فالشركة الكورية الجنوبية كانت في مهدها الأول متجرًا للبقالة أُسس في مارس/آذار من العام 1938 بواسطة شخص يدعى لي بيونج شول (Lee Byung-Chull) الذي بدأ نشاطه التجاري في تايجو بكوريا.
بداياتها
بدأت سامسونغ عملها في صناعة الإلكترونيات عام 1969 بتأسيس أقسام تركز على تصنيع وإعداد الأجهزة الإلكترونية، مثل أجهزة الراديو والترانزيستور وغيرها من الأجهزة الأخرى مثل أجهزة التليفزيون والميكروويف وغيرها من المنتجات الاستهلاكية.
وفي عام 1970، أنتجت سامسونغ “سانيو” أول أجهزة تليفزيون أبيض وأسود التي انتشرت بشكل واضح وبدأت بتصديرها إلى بنما، وعلى مدار العشر سنوات التي تلتها أنتجت الشركة العديد من أجهزة التليفزيون الأبيض والأسود (4 ملايين جهاز في 1978) والملونة (1977)، وصنّعت الثلاجات وآلات الغسيل (1974) والآلات الحاسبة وأجهزة الميكروويف (1979).
في عام 1980، فتحت مركز البحث والتطوير في “سوون” وبدأت العمل في صناعة أجهزة التبريد والاتصالات، وفي بداية الأمر صنعت لوحات مفاتيح الهاتف، ثم توسعت في هذا المجال وأنتجت أنظمة الهواتف والفاكس، ومن هنا اتجهت إلى تصنيع الهواتف المحمولة.
الانتشار والتطوير
توسعت أعمال الشركة الكورية لتشمل كل من ألمانيا والبرتغال والولايات المتحدة الأمركية، وأسست في عام 1982 سامسونغ برينتج سوليوشنز المتخصصة في صناعة الطباعة، وفي عام 1983، بدأت الشركة في إنتاج أجهزة الكمبيوتر الشخصية، لتبلغ مبيعاتها في 1984 تريليون وون.
في أواخر الثمانينيات، احتلت الشركة مكانة كبيرة في عالم التصنيع، حيث تم افتتاح معهد سامسونغ المتقدم للتكنولوجيا لأغراض البحث والتطوير في 1987، وبعد وفاة لي بيونج شول، تولى ابنه إدارة الشركة القابضة، وفي عهده اندمجت شركة Samsung Semiconductor and Telecommunications مع شركة Samsung Electronics، وركزت المؤسسة الجديدة على تصنيع الأجهزة المنزلية (20 مليون تليفزيون في 1989) والاتصالات السلكية واللاسلكية.
حققت سامسونغ إنجازات إضافية في الأعوام التالية، وأصبحت منذ 1990 رائدة في مجال إنتاج الرقاقات الإلكترونية بتطويرها أول ذاكرة Dram 64 ميجابايت وأنتجت أكثر من 10 ملايين جهاز روبوت صناعي، وبدأت في إنتاج التليفزيون الرقمي وطورت في 1995 أول تليفزيون مزدوج الشاشة مقاس 33 بوصة.
في عام 2000، سجلت مبيعات تراكمية تزيد على 100 مليون جهاز تليفزيون بالألوان، لتصبح رقم واحد في تصنيع ذاكرة فلاش Nand في 2002، ودخلت عالم تصنيع الهواتف من خلال هاتف إس بي إتش – 1300، وهو نموذج أولي بشاشة تعمل باللمس تم إصداره عام 2001، وطورت الشركة أول هاتف يتعرف على الكلام عام 2005.
وفي بداية 2010، استحوذت سامسونغ على شركات طورت تقنيات للإلكترونيات الخاصة بالأجهزة، وبعد عام أصدرت سامسونغ جالاكسي إس 2، وبعد عام طرحت هواتف جالاكسي إس 3 التي تحولت إلى أحد أشهر الهواتف الذكية وأصبحت بذلك أكبر مُصنّع للهواتف المحمولة في العالم.
كما أعلنت الشركة في سبتمبر/أيلول 2014 عن جير في آر، جهاز الواقع الافتراضي الذي تم تطويره ويمكن استخدامه مع سامسونغ جالاكسي نوت 4، وبحلول عام 2015، احتفظت بالمركز الأول في سوق التلفاز العالمي (10 سنوات متتالية)، وحصلت على براءات اختراع أمريكية أكثر من أي شركة أخرى، إذ جرى منحها أكثر من 7500 براءة اختراع قبل نهاية العام.
وفي عام 2017، حصلت سامسونغ على إذن حكومي للبدء في اختبار سيارة ذاتية القيادة، كما أعلنت في 2018، أنها ستوسع خطط الطاقة المتجددة وسوف توظف نحو 40 ألف موظف السنوات الثلاثة المُقبلة.
الأثير التونسية
تأسست الشركة التونسية للإلكترونيك (مؤسسة مملوكة للدولة) عام 1965 تحت علامة طومسون وبدأت في صناعة الترانزيستور، وفي 1968 دخلت في طور إنتاج التلفاز الأسود والأبيض حتى 1974 عندما انتقلت إلى التليفزيون الملون.
انتشر التليفزيون في أوائل الستينيات وكان في ذلك الوقت حكرًا على الميسورين والبورجوازية، إضافة إلى الجالية الإيطالية التي كانت تُتابع برامج التليفزيون الإيطالي Rai الذي يبث في تونس وينقل الألعاب الأولمبية التي نُظمت بروما في 1960.
وفي تلك الفترة، ارتفعت حمى التليفزيون في تونس وسعى المواطنون لامتلاك جهازهم الخاص حتى إذا تطلب الأمر تداين ثمنه المتمثل في 70 دينارًا تونسيًا في ذلك الوقت، لذلك عملت الدولة التونسية الجديدة على توفير الأجهزة من خلال إنشاء مؤسسة الإلكترونيك (الأثير) عوضًا عن استيراده من الخارج.
حرص الدولة الوطنية بزعامة الحبيب البورقيبة على حصول المواطنين على جهاز التليفزيون، كان مرده الوصول إلى بيوت التونسيين لدعم سياساته وتوسيع الحاضنة الشعبية لشخصه، فالتليفزيون في ذلك الوقت كان وسيلة للبروباغندا السياسية وأداة لتطويع الشعوب وتوجيه الرأي العام، وكان بورقيبة يُلقي خطابًا بشكل يومي “توجيهات الرئيس” يُنقل على التليفزيون قبل نشرة الأخبار الرئيسية ويحظى بمتابعة كبيرة.
وعملت الشركة التونسية على إنتاج أجهزة ما زال يتذكرها التونسيون جيدًا كتلفاز قرطاج وAutovox بالأسود والأبيض، وكانت بعض الأحياء الشعبية الفقيرة تعمل على تركيز جهاز في أحد الأزقة يكون موصولًا ببطارية سيارة نظرًا لعدم توافر الكهرباء حينها، للمشاهدة الجماعية، ثم انتقلت تدريجيًا إلى إنتاج أجهزة بالألوان (طومسن).
لم تتواصل تجربة الأثير التونسية، وتم التفريط في مؤسسة الدولة لفائدة القطاع الخاص الذي خيّر فيما بعد التركيز على المناولة والتجميع لفائدة كبرى الشركات العالمية مثل سابا وبوير، إضافةً إلى سامسونغ الكورية التي مكنتها من الإنتاج المحلي لبطاقات التغذية الموجهة لصناعة شاشات LCD وLED، وتعمل الأثير على توريد المكونات في مستوى ما قبل النهائي ثم تركبها محليًا ضمن مشروع SKD (Semi Knocked Down)، إضافة إلى بيع الأجهزة والآلات المنزلية التي تحمل علامات أجنبية.
معوقات تجربة الأثير
على إثر دخول الاستعمار الفرنسي إلى تونس في عام 1881، وفرضه لنمط جديد من النمو الاقتصادي وربطه بمصالحه وحاجياته، حيث عمل الاحتلال جاهدًا على قصر الأنشطة الاقتصادية في مجال استخراج الثروات الباطنية (المناجم) إلى حين جلائه عن البلاد، عرفت تونس عودة تدريجية للصناعة ضمن مشروع الدولة الوطنية في تحديث المجتمع والخروج من التبعية الاستعمارية وبناء اقتصاد مستقل يدعم مشروع الاستقلال السياسي، وعملت على بعث أقطاب صناعية في جميع مناطق البلاد مثل مصنع الفولاذ بمدينة منزل بورقيبة ومصنع التبغ بمحافظة القيروان.
ويرى المختصون أن فشل تجربة مؤسسة الأثير التونسية كان سياسيًا بامتياز، حيث اختارت الدولة عقب الاستقلال فرض الحماية على السوق التونسية دون التفكير في بديل أو وضع خطة مستقبلية تقوم على دراسة الواقع ومتطلباته وإمكانات الدولة البشرية والمادية من أجل إرساء صناعة متكاملة، فاقتصرت الإجراءات على التأميم وإنشاء المؤسسات العمومية وحماية السوق.
وفي سياقٍ ذي صلة، قال الخبير الجبائي لسعد الذوادي في تصريح لـ”نون بوست” إنّ تونس دخلت في عهد الوزير أحمد بن صالح في “التعاضد” أي التجربة الاشتراكية (1962-1969) التي كانت منهج كل الدول العربية تقريبًا، وهي سياسة تهدف إلى خلق التوازن بين كل فئات المجتمع وتكون فيها الدولة المحرك الأساسي للاقتصاد من خلال الإشراف والتسيير الكامل، إلا أن هذه التجربة باءت بالفشل وكادت أن تؤدي بالدولة إلى حافة الإفلاس، مضيفًا أنه كان بإمكان مؤسسة الأثير أن تتطور وتُصبح رائدة التكنولوجيا على المستوى الإقليمي لو وفرت لها الدولة الموارد اللازمة وعملت على ولوج أسواق أخرى غير المحلية، إضافة إلى العنصر الأهم وهو توطين التكنولوجيا.
مع بداية السبعينيات، توجهت الدولة بقيادة رجل الاقتصاد الهادي نويرة نحو التجربة الليبيرالية وعملت على تكريس سياسية الانفتاح وتشجيع الاستثمار الخاص التونسي والأجنبي، ودعم الشركات المصدرة كليًا في قطاعات النسيج والصناعات الميكانيكية (مكونات السيارات والكابلات).
ورغم أن هذه الاستثمارات ساهمت في إنعاش الدورة الاقتصادية (التشغيل) فإن قيمتها المضافة كانت ضعيفة، ولم تُسهم في نقل التكنولوجيا والتقنية الكفيلة بإرساء صناعة إلكترونية حقيقية وتنمية القدرات الإنتاجية.
وفي هذا الإطار، أكد الذوادي أنه تحت ضغط التحولات الاقتصادية العالمية وتبعية تونس الاقتصادية للخارج، واضطرارها إلى الانخراط في منظمة التجارة الدولية، إضافة إلى اتفاقية الشراكة مع أوروبا، تخلت تونس تدريجيًا عن الحماية الجمركية (الديوانية)، وفتحت الأجواء أمام المنتجات الأجنبية (الأوروبية) لتدخل السوق التونسية بسهولة وتنافس المنتجات المحلية الأكثر كلفة والأقل جودة، مما هدد النسيج الاقتصادي وخاصة قطاع الصناعة الإلكترونية.
البحث العلمي
كغيرها من البلدان العربية التي لا تهتم بالبحث العلمي والتطور المعرفي، فإن تونس لم تُخصص لهذا المجال الإيرادات اللازمة، فالتطوير العربي لم يبلغ إلا 0.55% من الناتج الإجمالي المحلي وهو مستوى أقل من المتوسط العالمي البالغ 2.31%، وكانت بيانات صادرة عن اليونسكو قد كشفت في وقت سابق أن حصة الناتج الإجمالي المحلي المخصصة للبحث العلمي والتقني تصل إلى 4.3% في كوريا الجنوبية و3.15% في اليابان و3% في ألمانيا و2.8% بالولايات المتحدة الأمريكية و2.2% بالصين.
وأشارت إلى أن مبادرات الأبحاث في بعض الأحيان لا تكون مستجيبة لحاجيات محددة مسبقًا أو معبرة عن إرادة البلد وحاجياته، مؤكدة أن البحث العلمي هو السبيل الوحيد لتدارك التأخر في مجال التنمية الاقتصادية لذلك على الشركات والمؤسسات التكيّف مع التحولات التكنولوجية.
وفي سياقٍ ذي صلة، قال الذوادي في حديثه لـ”نون بوست”: “رغم توافر الكوادر البشرية من مهندسين ومبرمجين أكفاء، فإن الدولة أهملت مراكز البحث العلمي من جانب التمويل والمراقبة”، مضيفًا “أغلب القائمين على تلك المؤسسات لا يُعرف لهم كتابات أو دراسات بحثية في مجال التصنيع الإلكتروني أو التكنولوجيا، فهي مجرد مناصب للترضيات”.
الصناعة الإلكترونية في تونس
بحسب وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي، فإن قطاع الصناعات الكهربائية والإلكترونية يعد أول قطاع من حيث تدفقات الاستثمار الخارجي وأول قطاع على مستوى التصدير، معوضًا بذلك قطاع النسيج الذي تضرر بفعل الأزمة والانكماش الاقتصادي في أوروبا.
ويبلغ معدل تطور قطاع الصناعات الإلكترونية 15% سنويًا، كما تُعد تونس أول بلد مصدر نحو بلدان الاتحاد الأوروبي في قطاعي الصناعة الكهربائية والإلكترونية والصناعة الميكانيكية، ويحتل هذان القطاعان على التوالي المرتبة الأولى والرابعة في الاستثمار الأجنبي المباشر في قطاعات عديدة على غرار تصنيع الكوابل والتجميع الالكتروني ومكونات السيارات والمكونات الإلكترونية ومعدات الإضاءة والقطع الميكانيكية.
وتنشط في قطاع الصناعة الكهربائية والإلكترونية والأجهزة المنزلية نحو 337 شركة تشغل قرابة 100 ألف موطن، من بينها 224 مصدرة كليًا (87842 من مجموع مواطن الشغل) كما يشمل قطاع الإلكتروني على 85 مؤسسة، بقدرة تشغيلية تقدر بأكثر من 20 ألف موطن شغل، منها 69 شركة مصدرة كليًا تشغل نحو 18 ألف عامل.
عدد الشركات المختصة في الصناعات الإلكترونية لا يعني بالضرورة، بحسب الخبير التونسي لسعد الذوادي، توافر البلاد على صناعة محلية رائدة في هذا المجال، فأغلب المؤسسات قائمة على المناولة مثل Sagem وغيرها، تنتفع بالتسهيلات الضريبية التي تُقرها الدولة تشجيعًا للاستثمار وتغنم من رخص اليد العاملة، كما أنها لا تعمل على توطين التكنولوجيا في البلاد.
ما الفرق بين التجربتين؟
أصبحت كوريا الجنوبية قوة عالمية من الحجم المتوسط وتحولت من بلد كان يعيش على المساعدات إلى بلد مانح لها، وذلك باعتمادها على التعليم والتدريب لتحسين القدرة على المنافسة وتحسين الإنتاجية، ومن أسباب تفوقها على تونس ومن ورائها الدول العربية:
كوريا الجنوبية في الخمسينيات والان اقتصاد قوي ديمقراطية تعليم قوي تطور يصرف على البحث العلمي ٤٪ من الدخل القومي pic.twitter.com/VuNm0DKe2C
— فيصل ابراهيم الشمري (@Mr_Alshammeri) July 12, 2015
- اعتمدت كوريا على الاقتصاد الموجه نحو الصادرات مصدر العملة الصعبة وشراء المعدات والتكنولوجيا التي يحتاجها قطاعه الصناعي الناشئ، فيما توجهت تونس نحو إحلال محل الواردات واستقطاب الاستثمار الخارجي
- دعمها التطوير والتشجيع على البحث العلمي، حيث بلغت نفقات سيول في هذا المجال 20% من الإنفاق الوطني سنة 2010، فيما لم يتجاوز التمويل المرصود للبحث العلمي في تونس 0٫066% من الناتج الوطني الخام.
- استثمرت كوريا الجنوبية في الطاقات البشرية وفي قدرات كوادرها عبر التعليم والتدريب لتعزيز القدرة على المنافسة وتحسين الإنتاجية، فيما لم تتدخل الحكومة التونسية لوقف نزيف هجرة الأدمغة عبر تحسين بيئة العمل والتشجيع على الابتكار.
- لعبت الحكومة دورًا كبيرًا وإيجابيًا في عملية التنمية الاقتصادية بفضل الإرادة سياسية الثابتة والمعتمدة على التخطيط بعيد المدى والملائم للواقع الكوري، فيما تنوع تدخل الدولة في تونس بين التسيير التام (الاشتراكية) أو الانفتاح وتحرير السوق دون التركيز على صناعة موجهة للتصدير.
بالمحصلة، يمكن القول إن فشل تونس والدول العربية في تحقيق التنمية الشاملة رغم توافر بعضها على موارد طبيعية، لا يُمكن تعليقه على شماعة الاستعمار، فكوريا الجنوبية لم تكن في أحسن حال بعد الاحتلال الياباني والحرب الكورية، وبالتالي فإن الإرادة السياسية القائمة على التخطيط بعيد المدى والاستشراف والتطوير أهم الركائز التي تُقام على أساسها أي نهضة اقتصادية.