“الاستشهاد الصحي” هو المصطلح الذي أطلقه المتحدث العسكري باسم الحرس الثوري الإيراني رمضان شريف، واصفًا حالة موت عدد من كوادر الحرس الثوري الإيراني بعد إصابتهم بفيروس كورونا، الذي يعمل 100 ألف من أفراده اليوم في مكافحة انتشاره في إيران بحسب تصريحه!
وجاء هذا التصريح على خلفية اتهامات عدة من السياسيين والمعارضين الإيرانيين للحرس الثوري بالمسؤولية عن تفشي المرض في البلاد، جراء متابعة الرحلات الجوية مع الصين منشأ المرض.
ولعل هذا التصريح يأتي في سياق سعي الحرس الثوري لإضفاء بُعدٍ ديني على نشاط الحرس الثوري الذي تسبَب أساسًا في نقل المرض من أقصى شرق القارة إلى إيران، حيث تجاوز عدد الحالات المصابة بالفيروس المُعلَن عنها رسميًا الـ9000 شخص، توفي منهم أكثر من 350 مصابًا، وسط شكوك واسعة بالأرقام المُعلَنة رسميًا، إذ يتوقع مراقبون أن العدد الحقيقي للضحايا يصل إلى أضعاف الأرقام الرسمية.
وتأتي المفارقة الحقيقية بالمصطلح الذي أطلقه شريف، في أن الوصف الأفضل لأعضاء الحرس الثوري المتوفين بالفيروس ليس “الشهداء”، بل ربما “الاستشهاديون”! نظرًا لـ”التضحية” التي بذلوها في نقل الوباء عبر دول المنطقة التي يتمدد فيها “نظام الملالي” الحاكم لطهران، عبر ذراعه العسكرية المتمثلة بالحرس الثوري.
حيث سُجِلَت أول حالة إصابة رسميًا بفيروس كورونا في العراق في 24 من فبراير/شباط الماضي، بعد حملة واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي طالبت بإغلاق الحدود مع إيران، متهمة ميليشيات الحشد الشعبي وأفراد الحكومة العراقية بتقديم علاقاتهم الحزبية مع الإيرانيين على مصلحة الشعب العراقي، حتى تمت الاستجابة أخيرًا بإغلاق الحدود، لكن مع مخاوف من عدم جدوى إجراءات شبيهة في ظل تواتر معلومات عن استمرار تحرك تشكيلات عسكرية بين البلدين، في ظل العلاقة الوثيقة التي تجمع الحرس الثوري بالحشد الشعبي، وفي ظل استثمار الإيرانيين للأراضي العراقية كطريق بري إلى سوريا، التي تقاتل فيها ميليشياتها.
أما في لبنان فقد أعلن وزير الصحة اللبناني أول حالة إصابة في 21 من فبراير/شباط الماضي، وهي مواطنة لبنانية قادمة من إيران، لتشتعل مواقع التواصل الاجتماعي بحملة غاضبة على غرار تلك التي في العراق، متهمة السلطات بالتهاون في الحفاظ على صحة المواطنين، وتحت الضغط الشعبي واتهامات طالت حزب الله بتسببه في استمرار تدفق المسافرين من إيران إلى لبنان، أعلن رئيس الوزراء اللبناني الأربعاء الماضي أن بلاده ستوقف رحلات الطيران والسفر من وإلى البلدان الأكثر إصابة بفيروس كورونا، للحد من انتشاره في لبنان، معلنًا عن فرصة 4 أيام أمام المواطنين اللبنانيين الراغبين بالعودة إلى بلادهم من البلدان التي شملها الحظر وضمت إيران والصين وكوريا الجنوبية.
كما أعلنت في الأسابيع الماضية عدد من الدول العربية في منطقة الخليج العربي وصول “كورونا” إليها، قادمًا بشكل أساسي من إيران.
سوريا “خالية” من كورونا!
تزايدت بشكل كبير قوة العلاقات بين النظامين السوري والإيراني منذ انطلاقة الثورة السورية، حيث تحركت إيران مبكرًا لدعم حليفها في سوريا، الذي انتقل إلى الاعتماد الكلي عليها وعلى الميليشيات المرتبطة بها في عام 2013، بعد تمكن الثوار من إخراج أكثر من ثلثي مساحة سوريا عن سيطرته.
وحتى بعد دخول قوات روسيا مباشرة إلى المواجهة في سوريا ضد الثوار بعد تمكن الأخيرين من استعادة زمام المبادرة وتحرير إدلب، وتحركهم باتجاه عمليات تحرير واسعة على غرارها في عدد من المحافظات الأخرى أواخر عام 2015، بقيت إيران صاحبة أكبر وجود عسكري على الأرض السورية دعمًا لنظام الأسد، من خلال أكثر من 66 ميليشيا تتبع لها بشكل مباشر، تحول كثير منها من ميليشيات مقاتلة إلى كتل سكانية مساهمة في التغيير الديمغرافي من خلال استيطان عشرات الألوف منهم مع عوائلهم في المناطق السورية التي سيطروا عليها وهجروا غالبية أهلها.
وبعد سيطرة إيران رفقة روسيا أواخر عام 2017 على الضفة اليمنى لنهر الفرات في محافظة دير الزور “منطقة الشامية”، في أقصى شرق سوريا على الحدود السورية العراقية، أُعِيد افتتاح أوتوستراد دمشق بغداد الدولي، الذي يعتبر الطريق الدولي الأكثر حركة في سوريا اليوم، حيث تنطلق عليه القوافل من إيران مرورًا بالعراق باتجاه سوريا، ومنها إلى لبنان، مُكمِلةً صورة “الهلال الشيعي” الذي يعتبَر مشروع إيران المركزي منذ سبعينيات القرن الماضي.
وكما تصور صانع المشروع الإيراني طريقة التحرك ضمن هذا الهلال، ببؤرةٍ مركزية فيه تُصنَع فيها أدوات المشروع وأفكاره وآليات تحركه، وأطراف يتم تصدير ما ينتجه المركز إليها لتكون امتدادًا له وتجليًا لصورته، انتشر فيروس كورونا! فدخل العراق بداية ووصل إلى لبنان نهاية قادمًا من إيران، أما في أكبر نقطة تجمع للميليشيات الإيرانية خارج أراضيها في “سوريا المحتلة”، فما زال نظام الأسد يصر أن الفيروس لم يدخل بعد، بطريقة لا يمكن أن تكون منطقية!
حيث صرح وزير صحة نظام الأسد الثلاثاء الماضي لقناة سما الموالية بعدم تسجيل أي حالة تشخيص لفيروس كورونا في سوريا، مثيرًا زوبعة من ردود الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي بين السوريين، التي لم تقتصر على الثوار بل شملت أيضًا الصفحات والحسابات الموالية للنظام!
وزير صحة نظام الأسد يصرح “لا يوجد كورونا في سوريا”
إشاعات وأخبار غير رسمية
منذ بدء تفشي فيروس كورونا في إيران، تناقلت عدد من وسائل الإعلام المحلية والعالمية أنباءً عن إصابات في عدد من المحافظات السورية التي تشهد الانتشار الأكبر للميليشيات الإيرانية داخل سوريا مثل دير الزور ودمشق واللاذقية وحمص، كان أبرزها الحديث عن سبعة مقاتلين من الحرس الثوري الإيراني ماتوا إثر الإصابة بالفيروس في مدينة البوكمال أقصى شرق سوريا، وذلك ضمن 40 حالة مصابة يرقدون في مشفى البوكمال وفق شبكات محلية، بينما رصد موقع العربية نقلًا عن تقرير نشرته صحيفة “داون” الإنجليزية أن تقريرًا صادرًا عن سلطات إقليم السند جنوب باكستان، أعلن إصابة 9 من الواصلين جوًا إلى عاصمة الإقليم في كراتشي، 6 منهم قدموا من سوريا متوقفين في محطات ترانزيت على الطريق، كما نشر المرصد السوري لحقوق الإنسان تعليمات صارمة وردت للأطباء في مشافي اللاذقية وطرطوس ودمشق وحمص للتكتم على انتشار الفيروس، حيث يؤكد المرصد إصابة عدد من المواطنين السوريين في هذه المحافظات وموت بعضهم.
وجاء تحرك أجهزة المخابرات التابعة للنظام في مدينة البوكمال الجمعة الماضي تأكيدًا لتفشي الفيروس في البلاد، حيث جابت دوريات تابعة لها – بحسب صحيفة جسر الإلكترونية – المدينة آمرة المطاعم والمقاهي ونقاط التجمع بإغلاق أبوابها اعتبارًا من يوم الأحد القادم، بالتزامن مع إغلاق المدارس في المدينة، وذلك بعد أيام من إغلاقها معبر القائم الحدودي مع العراق.
وبحسب أخبار متفرقة نشرتها وسائل إعلام محلية سورية، تم رصد إصابات بفيروس كورونا في أكثر من خمس محافظات سورية خاضعة لسيطرة النظام في الساحل السوري ودمشق ودير الزور وحمص، كما تحدث عدد من السوريين المقيمين خارج البلاد عن إصابة أقرباء لهم في سوريا بالفيروس، دون أي قدرة على تأكيد هذه الأخبار بسبب استمرار نفي النظام وخوف القاطنين في المناطق الخاضعة لسيطرته من مصير أسوأ من الإصابة بالفيروس، في حال تجرأ أي منهم على الحديث علانية.
ولعل أكبر دليل على كذب النظام السوري في نفيه هو إعلان 4 دول عربية حتى الآن إيقافها مختلف الرحلات من وإلى سوريا، ووضع الأشخاص القادمين منها في الحجر الصحي، وهي قطر والأردن والكويت والسعودية.
في سوريا نظام يكذب بدرجات الحرارة وحال الطقس وكمية هطول الأمطار، فلا عجب ان يكذب عن حقيقة انتشار فايروس الكورونا..
— alia (@aliamansour) March 11, 2020
خارج سيطرة النظام.. خارج رادار كورونا
تُقسَم سوريا اليوم بشكل رئيسي إلى 3 مناطق سيطرة رئيسية: الأولى هي سوريا الخاضعة لسيطرة نظام الأسد وداعميه روسيا وإيران، وتشمل معظم مساحة سوريا في الغرب والجنوب وأجزاء من الشرق، أما الثانية فخاضعة بشكل أساسي لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة أمريكيًا في الشرق والشمال الشرقي السوري، مع وجود نوع من التداخل في تلك المناطق بين قوات قسد وقوات النظام، أما الثالثة فتمتد على أجزاء من الشمال السوري قرب الحدود السورية التركية التي تعتبر آخر معاقل الثوار.
حيث تمتد بين المنطقتين الأولى والثانية عدد من المعابر والطرق الرسمية، التي أنشأَت فيها الإدارة الذاتية (الكيان الحكومي لقوات قسد) عددًا من النقاط الصحية التي تفحص المدنيين المتحركين عبر هذه الطرق بين المنطقتين، بقياس درجات حرارتهم وتطبيق نوع من الحجر الصحي على من يُشَك بحملهم للفيروس، إلا أن عددًا من الشبكات المحلية انتقدت الإجراءات التي تقوم بها قوات قسد واصفةً إياها بغير الكافية.
لكن الخطر الأكبر الذي يهدد شرق وشمالي شرق سوريا اليوم لا يتمثل بالمعابر النظامية، وإنما بالقوات التابعة لنظام الأسد التي تتحرك عبر المنطقة، حيث تمتلك هذه القوات عشرات الحواجز العسكرية فيها، وتحتك بشكل مباشر بقاطني المنطقة من المدنيين، وذلك منذ الاتفاق الأخير بين النظام وقوات قسد بوساطة روسية الذي سمح للأول بالتمدد في المنطقة، وهو ما يدفع إلى التوقع أن ينتشر الفيروس إليها قريبًا!
أما في الشمال السوري المُحرر الذي يمتلك معبرًا واحدًا رسميًا بينها وبين المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في منطقة “أبو الزندين” في ريف مدينة الباب شرقي حلب، والمقتصر على نقل البضائع التجارية، فقد أصدرت إدارة المعبر بيانًا لحد الحركة على المعبر، بمنع اصطحاب سائقي الشاحنات الذي ينقلون البضائع التجارية عبر المعبر لمرافقين، وتطبيق عدد من الإجراءات الصحية للحيلولة دون دخول فيروس كورونا إلى المنطقة.
بيان حد الحركة على معبر أبو الزندين بين شمال سوريا ومناطق النظام
كما تمتلك المنطقة معبرًا آخر بينها وبين مناطق الشرق السوري الخاضعة لسيطرة قوات قسد، في منطقة عون الدادات بين منبج وجرابلس في ريف حلب الشرقي، وهو المعبر الوحيد لحركة المدنيين من وإلى الشمال السوري، وأغلقه الجيش الوطني السوري بشكل نهائي يوم الجمعة الماضي حتى إشعار آخر.
بيان إغلاق معبر عون الدادات بين شمال وشرق سوريا
كما أغلقت الحكومة التركية المعابر بين أراضيها والمناطق المحررة في الشمال السوري أمام المدنيين السوريين الراغبين بالدخول إلى الشمال لقضاء إجازة العيد فيها، في إجراء احترازي للحد من انتشار الفيروس إلى تركيا في حال وصوله إلى الشمال المحرر في الفترة القادمة، وهو ما حول مناطق الشمال المحرر إلى جزيرة معزولة أمام حركة المدنيين، بما يحد من احتمالية انتقال الفيروس إليها.
حتى الآن لم يتم الإعلان عن أي حالة إصابة بفيروس كورونا في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام شمال وشرق سوريا من قبل الجهات الرسمية فيها، وهو ما يمكن التأكد من صحته بسبب وضع المنطقتين الذي يستحيل معه التكتم على وجود إصابات من السلطات فيها، وذلك بسبب نشاط عشرات وسائل الإعلام المحلية في المنطقتين، التي تتمتع بحرية نسبية على خلاف نظيراتها في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، حيث سبق لها في الشمال والشرق مهاجمة وانتقاد قيادات المنطقتين، دون أن يتسبب ذلك في إيقافها، وهو ما يدفع لنوع من الثقة بقدرتها على نقل الحقيقة في حال حدوث إصابات بالفيروس فيها.