أدت الهجمات الصاروخية التي شنتها فصائل عراقية مسلحة على معسكر التاجي، إلى مقتل ثلاثة جنود من قوات التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، بعد أن أصاب 15 صاروخًا القاعدة العسكرية، وفي هذا الإطار لا بد من القول إن المنشآت العسكرية العراقية شكلت أهدافًا متكررة للهجمات الصاروخية منذ ديسمبر 2019، إذ حاولت الفصائل الموالية لإيران، زيادة الضغط على الولايات المتحدة لسحب قواتها من العراق، بعد مقتل قائد قوة القدس قاسم سليماني مطلع العالم الحاليّ.
إذ اندلع الصراع الحاليّ بين إيران والولايات المتحدة على الساحة العراقية، عندما قتلت غارة أمريكية سليماني رفقة العديد من القادة العسكريين في الحشد الشعبي والحرس الثوري في مطار بغداد الدولي، وردًا على ذلك، أطلقت إيران 12 صاروخًا على قاعدة عين الأسد التي يوجد بها جنود أمريكان، مما أدى إلى وقوع إصابات طفيفة في صفوف الجنود الأمريكان، وبعد ذلك أصدر مجلس النواب العراقي في 5 من يناير، قرارًا نيابيًا يدعو إلى سحب جميع القوات الأجنبية من البلاد وإلغاء الاتفاق الأمني مع الولايات المتحدة، الخاص بنشر قوات قتالية في العراق، في إطار الجهود المشتركة لمكافحة تنظيم داعش.
شكلت الهجمات الصاروخية الأخيرة إحدى علامات الفراغ الأمني الذي يعيشه العراق اليوم، خصوصًا أن الحكومة العراقية بدت عاجزة عن السيطرة على نشاطات الفصائل المسلحة التي بدأت بدورها تكتسب شرعيتها السياسية من مقاومة الوجود الأمريكي في العراق، كما أنها أصبحت قادرة على ضرب أي أهداف داخل العراق، حيث توجد عشرات القواعد العسكرية التي يوجد بها جنود أمريكان وغيرهم، وهو ما يفرض بدوره تحديًا كبيرًا على الحكومة العراقية في الوفاء بالتزاماتها في تأمين وجود هذه القوات وتوفير الحماية لها.
يواجه العراق تحديًا أكثر خطورة، يتعلق بالشراكة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة وما يترتب عليها من استحقاقات سياسية وعسكرية واقتصادية
فالمشكلة الرئيسة اليوم أن العراق أصبح الساحة الرئيسة للصراع بين الولايات المتحدة وإيران، وقد ساعدت الكثير من العوامل على تحقيق هذا الواقع منها الفراغ السياسي والاحتقان الجماهيري والبيئة المساعدة، إلى جانب رغبة الطرفين في تحقيق أهدافهما السياسية والأمنية على هذه الساحة المجانية، وعلى هذا الأساس، أصبحت هناك قناعة راسخة من طرفي الصراع بأن العراق أصبح مهيئًا أكثر من أي وقت مضى لهذه العملية الصراعية.
ورغم محاولات الحكومة العراقية جلب أطراف الصراع إلى طاولة المفاوضات تارةً، والدعوة لاحترام السيادة العراقية تارةً أخرى، فإن جهودها باءت بالفشل، خصوصًا في ظل سعي إيراني واضح للبقاء على العراق كأحد مصدات المواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة.
وفي المقابل يواجه العراق تحديًا أكثر خطورة، يتعلق بالشراكة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة وما يترتب عليها من استحقاقات سياسية وعسكرية واقتصادية، وعلى الرغم من تلويح العراق بعد استهداف سليماني ورفاقه بضرورة أن تسحب الولايات المتحدة قواتها من العراق، جاء الرد الأمريكي بأن هذه الدعوة ستقابلها قائمة طويلة من العقوبات الاقتصادية التي تنتظر العراق، وهو ما تريده الفصائل القريبة من إيران، من أجل أن يكون ذلك سبيلًا لارتماء العراق بأحضان إيران أكثر.
نجحت إيران في المرة السابقة بمقتل سليماني، في تحويل اهتمام الناس من معارضة إيران إلى معارضة الوجود الأمريكي
وهنا يمكن الإشارة بأن رد الولايات المتحدة وبريطانيا على الهجوم الأخير يوم أمس، أشار بوضوح بأن هناك رغبة أمريكية لشل قدرة الفصائل العراقية للهجوم على القوات الأمريكية وحلفائها مستقبلًا، إذ تم استهداف 5 قواعد عسكرية تابعة لكتائب حزب الله العراقي وفصائل متماهية معه، في بابل وصلاح الدين وكربلاء والنجف والأنبار، وأظهرت طبيعة الضربة أنها إجهاضية إستراتيجية أكثر من كونها ردية تكتيكية، إذ تم استهداف مخازن السلاح ومنصات الصواريخ وطرق الدعم اللوجيستي وغيرها، وهو أمر سيدفع بهذه الجماعات لأن تعيد حساباتها مرة أخرى، إلا أن هذا لا يعني بأن هذا الرد الأمريكي قد يردع إيران ووكلاءها في العراق، والدليل الهجمات الأخيرة على معسكر التاجي.
وقد يكون الجديد في هذه الهجمات تجنب أغلب الفصائل المسلحة تبني هذه العملية والاكتفاء بمباركتها، ما يعني مزيدًا من هذه الهجمات مستقبلًا، مهما كانت شدة أو قسوة الرد الأمريكي، فالفصائل القريبة من إيران ترفض تصديق فكرة أن الولايات المتحدة حليفة ويمكن أن تساعد في حماية العراق من التهديدات الخارجية والداخلية، وستستفيد من استفزاز الولايات المتحدة لتبدو كأنها تهديد للشعب العراقي، فما يدور في أذهانهم هي الدروس المستفادة من التجارب السابقة وتحديدًا في أفغانستان.
فإذا نجحت إيران من خلال وكلائها في التسبب بانسحاب القوات الأمريكية من العراق، فستجد هذه الفصائل نفسها في مواجهة تنظيم داعش مرة أخرى، من دون دعم جوي أو قيادة أو سيطرة موحدة، وكلما زاد عدد الهجمات التي تشنها الفصائل القريبة من إيران على القواعد التي توجد فيها القوات الأمريكية، قل احتمال أن يحل حلف شمال الأطلسي محل القوات الأمريكية، وإذا غادرت الولايات المتحدة، فسوف يغادر حلف شمال الأطلسي أيضًا، ولا يوجد بديل لحلف شمال الأطلسي في هذه الحالة، إذ لا يمكن لروسيا أن تملأ الفراغ والصين لا تريد ذلك أيضًا.
والسؤال المهم هنا: هل القوات المسلحة العراقية مستعدة للوقوف بمفردها ضد تنظيم داعش، من دون دعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؟
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قد تكون هذه المرة مجبرةً على الرد، فمن المتوقع أنها ستكون أكثر ذكاءً، على اعتبار أن الخطأ الذي وقعت فيه خلال عملية اغتيال سليماني لا يمكن أن يتكرر في هذه المناسبة، إذ نجحت إيران في المرة السابقة من تحويل اهتمام الناس من معارضة إيران إلى معارضة الوجود الأمريكي، وقد يشكل البيان المشترك الذي أصدرته الرئاسات الثلاثة والقيادة العامة للقوات المسلحة، من خلال وصفها الهجوم بالعمل الإرهابي، بداية الدخول لإعادة النظر في طبيعة العمل العسكري غير النظامي في العراق، على اعتبار أن هذا البيان قد تكون له تداعيات قانونية وسياسية وأمنية واسعة، وأبرزها تقديم المسؤولين عن هذه الهجمات إلى نوع ما من العدالة.