ترجمة وتحرير: نون بوست
ليس هدف الرئيس الروسي بالضرورة أن يكون رئيسا للبلاد مدى الحياة. ما لم يكن كذلك.
يحب فلاديمير بوتين مفاجأة العالم. ربما يكون فلاديسلاف سوركوف، وهو مسؤول سياسي ومستشار الرئيس الروسي، قد غادر الإدارة، لكن أظهر الرئيس يوم الثلاثاء أنه مازال بإمكانه الكشف عن المزيد من المفاجئات. بعد أن أطلق سلسلة من الإصلاحات الدستورية وسلّم القضية بشكل مبدئي إلى الهيئة التشريعية، ليتم إجراء تصويت عام في وقت لاحق، سمح بوتين لنفسه أن يقع استدعاؤه للتحدث إلى مجلس الدوما، وهو المجلس الأدنى في المجلس التشريعي، حول موضوع إعادة ضبط الفترة الرئاسية، الأمر الذي سيخوّل له البقاء في السلطة إلى غاية سنة 2036. وبعد التفكير، أقر بأنه في حال كان مجلس الدوما يعتقد أنه لابد من إعادة ضبط الساعة إلى الصفر ووافقت المحكمة الدستورية على هذا الأمر، فإنه سيقبل بذلك.
بطبيعة الحال، جرى تصميم كل هذه الأمور مسبقا. فقد قدّمت فالنتينا تريشكوفا البالغة من العمر 83 سنة، وهي أول امرأة في التاريخ سافرت إلى الفضاء وشخصية بارزة ساهمت في الانتصار الروسي، الاقتراح الأولي. وعلى الرغم من عدم رغبته في التوجه إلى موسكو، والساعات الطويلة التي تستغرقها التحضيرات الأمنية عند تنقله، إلا أنه حين وجّه له رئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين الدعوة للتباحث في القضية، تمكّن من الوصول إلى هناك في غضون 90 دقيقة. كما أن فولودين، وهو النائب الأول لرئيس الأركان السابق لبوتين، ليس الرجل الذي يحاول إبعاد الرئيس.
هل هذا يعني أننا نعرف ما الذي سيحدث في سنة 2024، حين تنتهي الفترة الرئاسية الحالية لبوتين ويواصل الحكم إلى حدود سنة 2036 حين يصبح عمره 83 سنة؟ بطبيعة الحال، الإجابة هي لا. ربما الرئيس ذاته لا يعرف ذلك أيضًا. في نهاية المطاف، هذه هي الشخصية الكلاسيكية لبوتين. ومن بين أكثر الأساطير الغربية إثارة للجدل حول بوتين كونه مدبّر مكائد ماكر، أو الأب الروحي في مجال الجغرافيا السياسية الذي يمارس لعبة شطرنج ثلاثية الأبعاد مع العالم.
في حقيقة الأمر، إن بوتين عكس ذلك تماما، حيث يسعى لاعب الجودو إلى الاستفادة من الفرص التي تنشأ ويتفاعل معها. وتتمثل قوته الحقيقية في قدرته على التحرك بسرعة وحزم وبشكل غير متوقع. ويتجلى هذا بشكل خاص في رده على ما يسمى “سؤال 2024”. خلال السنة الماضية، ظهرت حالة من عدم اليقين في صفوف النخبة حول ما يمكن أن يحدث بعد أن شارفت فترة ولايته الدستورية على الانتهاء وما إذا كانت “حقبة بوتين” يمكن أن تستمر دون وجود بوتين، وأصبحت قوة مساعدة على زعزعة الاستقرار.
لفترة من الزمن، ظل بوتين بمعزل عن النقاش. وعلى أحد المستويات، يعكس هذا فك الارتباط على نطاق أوسع مع قدر كبير من العمل الحقيقي الذي تقوم به الرئاسة. ربما لا يزال بوتين نشيطًا على الساحة الدولية، لكنه يهمل جانبا كبيرا من الحوكمة المحلية اليومية التي تتطلب اهتمام الرئيس، في مثل هذا النظام المفرط للرئاسة. بصراحة، كان يبدو عليه التعب والملل، وأنه أكثر حرصًا على التملّص من القيام بالعديد من الواجبات الرئاسية أكثر من الاحتفاظ بها.
مع ذلك، يعتبر هذا أسلوبه المعتاد، وهو الجلوس في الخلف والسماح للآخرين بطرح حلولهم المفضلة للمشكلة المطروحة، وهو ما حدث بالفعل. دافع البعض بشكل صريح على مقترح الرئاسة مدى الحياة في حين تجنب آخرون ذلك باقتراح أن يكون منصب رئيس الوزراء معززا. واقترح آخرون اتحادًا قسريًا مع روسيا البيضاء المجاورة حتى يتمكن بوتين من الانخراط في دور جديد كرئيس لدولته المشتركة الجديدة، على الرغم من أن هذا لم يكن خيارًا جادًا أبدًا.
بأسلوبه المعتاد، ينشئ بوتين مجموعة من الخيارات ويأجّل أي قرار إلى وقت لاحق
ركّز آخرون بدلاً من ذلك على ضمانات للرؤساء السابقين لجعل التقاعد خيارًا أكثر إغراءً. وفي نظام تحتل فيه سيادة القانون المرتبة الثانية ناهيك عن عالم يزخر بالمتعطشين للسلطة، تتمثل أحد التحديات الرئيسية المطروحة في قدرة الشخص على تسليم المركز والوضع الذي تتدفق منه الثروة والأمن. والواقع أن بعض هذه المواقف، التي تقع في منتصف الطريق بين الكرملين والتقاعد، من شأنها أن تمنح بوتين نوعا من النفوذ، والدور الفعال، والحماية.
ما الذي يسعى إليه بوتين؟ الإجابة هي كل هذه الأمور تقريبا. يمكن أن يحدث الكثير في غضون أربع سنوات، ابتداء من إيجاد خليفة يمكن أن يشعر بوتين أنه قادر على منحه الثقة حول حالته الصحية المتدهورة (ذكرت الشائعات بأنه مصاب بمرض خطير على الرغم من عدم وجود أي دليل يثبت صحة ذلك). فضلا عن ذلك، لا يمكن التنبؤ بالجو العام في البلاد. في الوقت الحاضر، أعرب 45 بالمئة من الناخبين عن رغبتهم في بقاء بوتين في السلطة، في حين يدعم 44 بالمئة منهم تخلّيه عن منصبه في سنة 2024.
بأسلوبه المعتاد، ينشئ بوتين مجموعة من الخيارات ويأجّل أي قرار إلى وقت لاحق. من جهتها، ستوافق المحكمة الدستورية على تصفير المدة المقترحة ما لم يكن هذا أيضًا جزءًا من المشهد السياسي، لكي يُسمح لبوتين قبول ذلك بكرامة وإظهار استعداده لاتباع القواعد. لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه سيترشح مرة أخرى في سنة 2024، فقط لأنه باستطاعته فعل ذلك.
تتوفر لبوتين احتمالات أخرى. من المقرر إعادة تشكيل مجلس الدولة، وهو حاليا هيئة استشارية غير محددة بدقة، وذلك كجزء من التغييرات الدستورية الجديدة، على الرغم من أن الأغلبية تجهل صيغته الجديدة. قد يكون رئيسه متمتعا بالصلاحيات والامتيازات والحصانات التي قد تجعله أداة جديدة محتملة لبوتين.
ينطبق الأمر نفسه على مجلس الأمن، الذي منذ أن عيّن بوتين رئيس وزرائه السابق وعضو حزبه المخلص ديمتري ميدفيديف ليصبح نائب رئيسه، أصبح من الممكن إعادة تشكيله ليتناسب مع ذلك. ومن بين الإصلاحات الدستورية مقترح يقضي بأن أي رئيس سابق له الحق في أن يصبح نائبا في مجلس الشيوخ مدى الحياة في المجلس الفيدرالي – المجلس الأعلى للهيئة التشريعية – مع التمتع بالحصانة من المقاضاة. سيكون ذلك شكلا مفيدًا من التقاعد بشرف وأمان.
قد يتطلع جيل جديد من الرجال الذين يطمحون إلى أن يصبحوا مكان الملك أو القيصر إلى إيجاد طرق كفيلة بتسهيل انتقال بوتين من منصبه
من يدري ما الذي سيظهر بعد ذلك؟ ففي سنة 2016، أثار القومي المتمرد فلاديمير جيرينوفسكي الدهشة عندما بدا وكأنه يقترح أن بوتين لابد أن يُتَوج قيصرًا. إن جزءا من دوره كواحد من زعماء المعارضة المزيفين في روسيا يتلخص في الترفيه عن الناس وتشتيتهم، وتبدو الفكرة سخيفة اليوم. لكن ذلك لا ينفي حقيقة كونه مراقبا روسيا جريئا.
بهذه الطريقة، يبقي بوتين الجميع في حيرة من أمرهم بشأن خياراته للمستقبل ومركزيته في النظام. يعد الغموض الاستراتيجي أمرا حاسما بالنسبة له، حيث أنه بمجرد أن تعرف نخبته – أو تعتقد أنها تعرف – ما سيحدث في سنة 2024، فسوف تبحث عن طرق لتحويل ذلك لصالحها. قد لا يصبح بوتين بطة عرجاء – ذلك أن مكانته أرقى من ذلك – لكنه قد يبدأ بخسارة مكانته تدريجيا. والأهم من ذلك، أنه سيفتح ويعمق الانقسامات داخل النخبة في فترة يطغى عليها التوتر وعدم اليقين، خاصة أن أحد الاستنتاجات السريعة التي استخلصها بوتين من انهيار الاتحاد السوفيتي هي أن الدولة المنقسمة دولة ضعيفة.
بالإضافة إلى ذلك، علينا أن نقر بأننا لا نعرف إلا القليل عن المشاورات التي تعقدها الدائرة المقربة من بوتين. فالأشخاص الأقرب إليه ليسوا وزراءه أو حتى تقنييه السياسيين. على العكس من ذلك، إن الكثير منهم الآن من الأوليغارشية فاحشي الثراء، الرجال الذين كان لهم بوتين راعيًا مربحا و”حاميا” لا يتزعزع، أو “كريشا” بلغة المافيا الروسية وهو مصطلح بات يُستعمل في مجال السياسة.
بينما يستطيع بوتين بلا أدنى شك أن يرتب لنفسه حياة آمنة ومريحة في مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية، فإنه لا شك أن الدائرة المقربة منه تخشى من رغبة من سيخلفه في تعزيز مكانة رفاقه، وربما تصفية بعضهم ليكونوا كبش فداء لمدة عقدين من الاختلاس في النطاق الصناعي.
قد يتطلع جيل جديد من الرجال الذين يطمحون إلى أن يصبحوا مكان الملك (أو القيصر) إلى إيجاد طرق كفيلة بتسهيل انتقال بوتين من منصبه، لكن المقربين من بوتين يحاولون إقناعه بالبقاء. ومن المعروف أن بوتين قادر على تغيير رأيه. ربما عدل عن رأيه بشأن انتخابات سنة 2024، مشيرًا في البداية إلى أنه لن يترشح مرة أخرى، ليتبين أنه اختار على ما يبدو ترك هذا الاحتمال واردا. بناء على ذلك، إن المعركة من أجل مستقبل بوتن سوف تستمر ما دام هو يرغب في ذلك.
المصدر: فورين بوليسي