بعد أن سحبت الولايات المتحدة جزءًا من “قوات الدعم” الموجودة في الكويت التي أرسلتها بعد اغتيال قاسم سليماني على إثر زيادة احتمالية المواجهة الشاملة مع إيران، قصفت ميليشيات موالية لإيران “حزب الله العراقي” قاعدة التاجي شمال بغداد بـ18 صاروخ “كاتيوشا” أوقع جنديين أمريكيين وجندي بريطاني و15 جريحًا، في يوم 11 من مارس الذي كان يصادف ميلاد عراب الميليشيات سليماني.
تسعى إيران إلى مشاغلة القوات الأمريكية بشكل دائم عبر ميليشياتها بهجمات صاروخية غير مميتة، لتجعلها تحت الضغط وتحت تأثير القلق المستمر والرد المحدود غير الشامل، لكن بدأت إدارة ترامب بإستراتيجية صارمة وذكية في التعامل مع الميليشيات الولائية بدءًا باتهام طهران بشكل مباشر وليس ميليشياتها فحسب بإعطاء أوامر الهجمات ضد مصالحها، والفصل بين الميليشيات الولائية التي تتبع مرجعية قم وولاية الفقيه بشكل علني عن الميليشيات التي تتبع الدولة العراقية ومرجعية النجف، وهو تطور مهم سيفضي في النهاية إلى التعامل مع هذه الميليشيات (حزب الله العراقي والنجباء وسيد الشهداء وفاطميون وغيرهم) كما تتعامل واشنطن مع داعش إن لم يرضخوا لسلطة الدولة ويتم تحييدهم عن الصراعات الإقليمية وولائهم لطهران.
للدولة العراقية خطابان!
إن بيانات القيادة العسكرية الأمريكية وتصريحاتها بعد الهجمات التي طالت مقرات ميليشيات حزب الله العراقي وغيرها من الميليشيات الولائية في عدد من المحافظات العراقية التي أدت لسقوط 27 عنصرًا بين قتيل وجريح، تشير بوضوح إلى التعاون العراقي مع القوات الأمريكية – خاصة الأجهزة الاستخبارية – ضد الميليشيات التي لا تقبل الرضوخ لقرارات القيادات العراقية وأوامرها العسكرية، لكن هناك نفي من قيادة العمليات المشتركة، وهذا الخطاب شبيه بخطاب إخراج القوات الأمريكية ككل من العراق.
فعلى ما يبدو أن للحكومة العراقية وأجهزتها الأمنية الضعيفة خطابًا علنيًا متماهيًا مع نفوذ إيران وضغوط الميليشيات وتهديداتها وسطوتها، ومؤيدًا لقرار البرلمان والمصالح الإيرانية بإخراج القوات الأمريكية من البلاد، وهو خطاب لا يخلو من ميول ورضوخ لإيران وردة فعلها بعد اغتيال سليماني، لكن بعد التلويح الأمريكي بالعقوبات الاقتصادية وردات الفعل العسكرية الانتقامية والتهديد برفع الدعم عن العراق وتراجع الثقة والعلاقة بين بغداد وواشنطن، بدأت حوارات وتشاور وتعاون غير علني لا يحبذ الانسحاب الأمريكي حتى في خطابات ما قبل تشكيل الحكومة، كما ويقدم شيئًا من مصلحة العراق أو لا يقدم مصلحة إيران على الأقل، خاصة بعد إدراك غرف صنع القرار أن واشنطن ليس لديها نية للانسحاب من العراق بالمطلق وأنها عازمة على وضع حد لاستهتار الميليشيات ومهاجمتها للقوات الأمريكية بين الحين والآخر.
العراق ساحة صراع بديلة عن الحرب الشاملة
بعد القضاء على داعش ميدانيًا، أصبحت الحرب مع التنظيم استخبارية بالدرجة الأساس وتعتمد بشكل كبير على التقنية لتتبع تسللهم وخروقاتهم وتمويلهم، إلخ، والجيش الأمريكي من يملك تلك التقنية مع الأسلحة والطائرات التي تعتمد عليها وعلى إسنادها القوات الأمنية العراقية، وانسحاب القوات الأمريكية – إن تم – سيجعل العراق في تيه أمني غير محسوب العواقب وستزداد سطوة ونفوذ إيران وتقل خيارات واشنطن.
إن الولايات المتحدة ترغب بالحوار مع بغداد وفتح ملف الوجود العسكري، لكنه لا يتضمن الانسحاب كما يُروج له، إنما إعادة مناقشة الالتزام بالشراكة أو إعادة صياغة الوجود من محاربة داعش إلى التدريب والدعم مثلًا، وذلك بعد أن تأثرت العلاقات باغتيال سليماني.
إن إيران تستخدم الأراضي العراقية كساحة لمناكفة واشنطن وتفريغ التوترات بينهما وإدارة الصراع الجانبي، لتجنبها المواجهة المباشرة وبأدوات غير إيرانية، فلن تخسر أي شيء خاصة وهم لديهم الاستعداد ليكونوا بيادق للمشروع الإيراني ويموتوا من أجله، كما تحاول إيران تخريب العلاقة العراقية الأمريكية لتبقي العراق تحت نفوذها ومصالحها بعيدًا عن أي منافسة.
الوجود الأمريكي والدولي
الولايات المتحدة هي قائدة التحالف الدولي ضد داعش وجزء من حلف الناتو في العراق الذي يعمل بمهام تدريبية غير قتالية، بالإضافة لتعطيل تمويل الإرهاب ومكافحة الأنشطة الدعائية الضارة وتحقيق الاستقرار، وتعتمد القوات الدولية غير الأمريكية كالفرنسية والألمانية والكندية وغيرها على الوجود الأمريكي لأن وجودها لا يتعدى بضع عشرات من الجنود والآليات وتستند جميعها على الولايات المتحدة، وانسحابها سيعني بالضرورة انسحاب جميع القوات الدولية الأخرى من العراق.
وجود حلف الناتو في العراق مرتبط بقرار دولي وتقييم عالمي من وجود خطر الإرهاب، والإرهاب في العراق يهدد السلم والأمن الدوليين، وهذا التقييم لا يحدده العراق إنما مجلس الأمن الدولي، خاصة أن غياب الدور الدولي والأمريكي سيعني تنامي قوة إيران وتمدد ميليشياتها وهذا من شأنه إضعاف خيارات واشنطن ومحاربة الإرهاب في الشرق الأوسط.
نشر بطاريات باتريوت
قدمت وزارة الدفاع الأمريكية طلبًا للحكومة العراقية بنشر بطاريات باتريوت في القواعد العسكرية الأمريكية لحمايتها من الصواريخ الإيرانية التي أصابت قاعدتي حرير في أربيل وعين الأسد في الأنبار عقب اغتيال قاسم سليماني، وذلك تحسبًا لأي هجوم مماثل مستقبلًا وكجزء من سلسلة إجراءات أمنية تتضمن حماية المنطقة الخضراء ومجمع السفارات التي تستهدف بين الحين والآخر بصواريخ تطلقها ميليشيات إيران في العراق وتنسب ضد مجهول كما حصل قبل أيام.
إن هذا الطلب يتضمن إرسال عدد من الجنود الأمريكيين – 400 جندي – لتشغيل منظومة الباتريوت، مما يعني أن الولايات المتحدة لا تنوي الانسحاب من العراق في المرحلة الحاليّة، إنما تثبيت وحماية وجودها العسكري والدبلوماسي.
من جهة أخرى خصص الكونغرس الأمريكي موازنة كبيرة – 71 مليار دولار – لتمكين القوات الأمريكية من تنفيذ إستراتيجيتها في دول غير مستقرة بسبب الإرهاب كان العراق من ضمنها، مع وجود موازنات خاصة للعراق – مليار ونصف دولار – لتمكين الاستقرار والاندماج المدني في مناطق شمال وغرب العراق.
إن الهجمات التي تستهدف القواعد العسكرية التي توجد بها قوات التحالف الدولي، دفعت باتجاه تسارع عملية نصب بطاريات الباتريوت لحمايتها وليس العكس، أي بعكس رغبة الميليشيات التي تريد رفع الرغبة الأمريكية بالانسحاب من العراق وهو ما لم ولن يحصل.
الميليشيات وإنكار الهجمات
يهدد قادة الميليشيات الأقرب إلى إيران القوات الأمريكية في العراق كل فترة بأن في حالة عدم الامتثال لقرار البرلمان العراقي وطلب حكومة تصريف الأعمال بالانسحاب من العراق سلميًا، سيجبرونهم على الانسحاب عسكريًا، رغم أنهم لم يتبنوا الهجمات على القواعد التي توجد بها القوات الأمريكية أو الصواريخ التي تطلق على السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، بل اتهموا واشنطن نفسها بتدبير هجمات ضد مصالحها وقواتها لتبرر هجماتها وإدانة للميليشيات، فقد هاجمت الميليشيات منذ أكتوبر 2019 القواعد الأمريكية والمنطقة الخضراء 22 مرةً، 6 هجمات منها بإصابات مباشرة وخطيرة وهو ما استدعى ردًا أمريكيًا انتقاميًا عليها.
أخيرًا، فإن الشراكة العراقية الأمريكية لا تتعلق فقط بالأمن والجانب العسكري، إنما بالاقتصاد والنفط والدبلوماسية، إلخ، كما أن الوجود الأمريكي في العراق تجاوز مرحلة المصالح الأمريكية إلى المصالح الإقليمية والدولية ومشاريع مستقبلية وتوازنات في حسابات قوى عظمى لا يستطيع العراق التعامل معها بسيادة كاملة في المرحلة الحاليّة ولا حتى المستقبلية دون إصلاح المسار الذي يسير عليه.