في مفاجأة تكشف حجم الضعوط التي تعاني منها بسبب تفشي فيروس كورونا، طلبت إيران مساعدات طارئة بقيمة 5 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، من أجل مساعدتها في مكافحة تفشي الفيروس الذي أصاب البلاد، وذلك بالتزامن مع الإعلان عن ما يقرب من 100 حالة وفاة جديدة، وهي أعلى حصيلة يومية منذ بدء انتشار الفيروس في البلاد، الذي تجاوز عدد ضحاياه 10 آلاف ضحية.
الطلب الإيراني العاجل من صندوق النقد الدولي هو الأول له منذ نصف قرن، حيث لم تتحصل إيران على أي مساعدات بعد حصولها على قرض دعم بين عامي 1960 و1962، وفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي، وهناك تضارب في التحليلات بشأن الموقف الذي سيتخذه مجلس إدارة الصندوق، خاصة أنه لا يمكن التصرف على عكس رغبة الولايات المتحدة التي يجب أن توافق أولًا على الطلب الإيراني، في وقت تمارس فيه واشنطن حاليًّا سياسة “الضغوط القصوى” التي تهدف لاستنزاف الموارد المالية لإيران.
صعوبة الموقف، جعل وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، يحاول تبرير طلب بلاده دون التنازل عن كبريائها، ودوّن على تويتر، موجهًا حديثه إلى مديرة الصندوق كريستينا جيورجيفا، وذكرها بوعودها بدعم الدول المتأثرة بوباء كوفيد-19، كما ذكرها بضرورة التعامل بمسؤولية في هذا الظرف.
IMF’s @KGeorgieva has stated that countries affected by #COVID19 will be supported via Rapid Financial Instrument. Our Central Bank requested access to this facility immediately.
IMF/IMF Board should adhere to Fund’s mandate, stand on right side of history & act responsibly.
— Javad Zarif (@JZarif) March 12, 2020
المثير أن البحث في خلفيات تفاصيل الطلب الإيراني العاجل، يكشف أن محافظ البنك المركزي الإيراني عبد الناصر همتي، طلب رسميًا القرض خلال رسالة بعث بها في 6 من مارس، أي قبل الإعلان عنه بنحو أسبوع، ولا أحد يعلم كواليس إرسالها، وهل جاءت بعد تفاوض غير معلن أم لا، خاصة أنه لم يعلن تفاصيل الرسالة ولم يوضح منها إلا رغبة بلاده أن تكون المساعدة وفق نظام أداة التمويل السريع، وهي آلية يستخدمها صندوق النقد الدولي لتقديم مساعدة مالية سريعة ومنخفضة الوصول إلى الدول الأعضاء التي تواجه تداعيات في حاجة عاجلة لميزان المدفوعات دون الحاجة إلى برنامج كامل.
لماذا قرض صندوق النقد الآن؟
لم يعد هناك حاجة لإثبات ضعف السلطات الإيرانية في السيطرة على انتشار فيروس كورونا ـ كوفيد 19 الذي يفترس البلاد يوميًا وبشكل خطير، بعدما ارتفع عدد حالات الإصابة بالفيروس إلى 11364 حالة والوفيات إلى 514، وتصدرت طهران المدن الموبوءة بعدد يفوق الـ300 حالة في اليوم الواحد، بحسب آخر إحصاءات أعلنها المتحدث باسم وزارة الصحة الإيرانية كيانوش جهانبور.
خروج المشهد عن السيطرة في البلاد، جعل الجيش الإيراني، يعلن الجمعة الماضية تصديه لمهمة إخلاء الشوارع في جميع أنحاء البلاد بالقوة، في مسعى من المؤسسة العسكرية لاستخدام إمكاناتها في السيطرة على انتشار الفيروس، كجزء من قرار سيادي على مستوى البلاد، وخاصة بعد انتشار التقارير الغربية التي تؤكد أن فيروس كورونا لن يمكن احتواؤه بإيران في ظل سياسة عدم الشفافية التي تخفي الرقم الحقيقي للمصابين بالعدوى، وتقدره جهات دولية مختلفة بأرقام أعلى بكثير مما تم كشفه.
وتستند التقارير الغربية في اتهامها لإيران بعدم الأمانة والشفافية في عرض المعلومات الحقيقية، إلى تسلل الفيروس لأرفع القيادات الإيرانية، بداية من معصومة ابتكار، إحدى أبرز نواب رئيس الدولة وأشهر العاملين بالسياسة في البلاد، والمعروفة للغرب بشكل خاص، لدورها ضمن المجموعة التي احتجزت الدبلوماسيين الأمريكيين كرهائن في طهران عام 1979.
واعتبرت التقارير إن إصابة سياسية مشهورة بالعدوى يعني بالتبعية أن هناك أعدادًا أخرى من المصابين بين زملائها الذين لم يتم الإعلان عنهم، ومما يعني أن المرض الذي أصاب الكبار بهذه السهولة بالتأكيد تفشى بشكل خطير بين صفوف العوام، وربما تشير الأحداث إلى منطقية هذه التقارير بعد إعلان إصابة ثلاثة مسؤولين كبار آخرين، وهؤلاء لم يصابوا فقط بالعدوى الفيروسية، بل دمرهم الفيروس ولقوا حتفهم، وهم محمد مير محمدي العضو البارز في المجلس الاستشاري للمرشد على خامنئي، وحسين شيخ الإسلام وهادي خسروشاهى، وهم من الدبلوماسيين السابقين رفيعي المستوى.
يمكن القول إن إيران تعاني من أزمة خانقة بعد انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل عامين من صفقة الاتفاق النووي المبرمة عام 2015 بين طهران والقوى العالمية، التي أسفرت آنذاك عن طفرة كبيرة في الاقتصاد الإيراني، مقابل تنازلات كبيرة عن الأحلام النووية سلميًا ودون تصعيد من جميع الأطراف، قبل أن تعود الأزمة مجددًا على خلفية التصعيد بين الإدارة الأمريكية الجديدة وطهران.
ويتوقع خبراء معهد التمويل الدولي، انخفاض الاحتياطي النقدي لإيران إلى 73 مليار دولار خلال هذا العام المالي، بسبب العقوبات التي تحد من مبيعات النفط، وهي خسارة تقارب 40 مليار دولار في عامين فقط، منذ بدء الولايات المتحدة عقوباتها على طهران، نهاية بالأشهر الأخيرة التي فُرضت فيها عقوبات إضافية على منتجي وشركات التعدين الإيرانية، ردًا على مهاجمة القوات الأمريكية في العراق للثأر من مقتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، خلال هجوم لطائرة دون طيار في بغداد الشهر الماضي.
يمكن قراءة العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران ببعض التفاؤل، خاصة بعد تزايد لهجة الخطاب التصالحي لترامب
الضربة الأخيرة لإيران كانت قاسية بكل المقاييس، خاصة أنها ليست من البلاد الرئيسية في إنتاج المعادن، لتضيف بذلك ضغوطًا شديدة على الاقتصاد الذي يعاني من تراجع قارب على الشلل التام، بعد انخفاض حجم صادرات النفط الخام من 2.8 مليون برميل يوميًا في مايو 2018 إلى أقل من 0.4 مليون برميل يوميًا في الأشهر الأخيرة، وإذا حافظت الولايات المتحدة على العقوبات، سينخفض أكثر معدل النمو وسيزداد معدل البطالة إلى أكثر من 20%، وستواصل الاحتياطات الرسمية انخفاضها إلى نحو 20 مليار دولار بنهاية مارس 2023.
كما أدى انخفاض العملة الإيرانية إلى تعطيل التجارة الخارجية للبلاد التي عززت التضخم السنوي، ويتوقع له صندوق النقد الدولي أن يزيد إلى 31% هذا العام، مع انخفاض عائدات المحروقات بنحو 70%، بما يعني أن إيران، وهي العضو الرائد في منظمة البلدان المصدرة للبترول “أوبك” عجزها المالي سيبلغ نحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي للسنة المالية 2020-2021، على الرغم من ارتفاع الضرائب وخفض دعم الوقود والكهرباء، وفقًا للميزانية التي صممتها الإدارة الإيرانية للتعامل مع الضغوط الأمريكية، التي سببت انفجارًا على مستوى الجبهة الداخلية بسبب الضغوط المعيشية التي يعاني منها الإيرانيون.
ما الموقف الأمريكي من الأزمة؟
خلال رسالة أرسلتها عبر سويسرا التي تمثل المصالح الأمريكية في طهران، أبلغت وزارة الخارجية إيران رسميًا، باستعداد بلادها للمساعدة، كما أعلن ذلك الرئيس الأمريكي بنفسه، خلال اجتماع مع رئيس وزراء أيرلندا في البيت الأبيض، وفي لغة ليست غريبة على ترامب، وجه حديثه للإدارة الإيرانية قائلًا: “لدينا أعظم الأطباء في العالم، ونقدم المساعدة لإيران، دون أن تعلن الخارجية ولا الرئيس طرقًا محددةً للمساعدة التي يرغبونها.
ويبدو أن إيران شعرت على الفور أن عرض المساعدة خيط رفيع لابتزازها، ولهذا عبرت سريعًا عن رفضها عرض ترامب، بل وأمطرته بوابل من الشتائم، واصفة إياه بالشخص المنافق المثير للاشمئزاز، ولم تتوقف عند ذلك، بل وجهت اتهامًا أعنف منه للولايات المتحدة ذاتها، برعاية الإرهاب الدولي، ووضع المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية عباس موسوي، بندًا واحدًا لترامب إن كان يريد المساعدة حقًا، وهو إنهاء ما أسماه “الإرهاب الاقتصادي والطبي” المفروض على بلاده، حتى يتسنى لها جلب الأدوية والمستلزمات الطبية المطلوبة للشعب الإيراني.
الرد الإيراني لم يكن محل انطباعات أو محاولة للثبات أمام العالم، ولكن الإدارة الإيرانية تعلم جيدًا، أنه من غير المحتمل، تغير الإستراتيجية الأمريكية والتخفيف من حصارها القاسي على الجمهورية الإسلامية التي لم تقدم أي تنازلات أيدلوجية أو سياسية حتى الآن تجعل ترامب يتراجع أمام جماهيره، عن سياسة العقوبات التي يهدف من خلالها لتركيع النظام الإيراني، لا سيما أنه يعتمد بقوة على هذه الورقة في دعايته الانتخابية لاستقطاب اللوبي اليهودي المتطرف، لمساعدته على البقاء في منصبه حتى عام 2024.
لكن رغم ذلك، يمكن قراءة العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران ببعض التفاؤل، وخاصة بعد تزايد لهجة الخطاب التصالحي لترامب وتصريحاته في أكثر من مناسبة أنه لن ينتقم عسكريًا من طهران على خلفية الضربات الصاروخية على القواعد العراقية التي تأوي القوات الأمريكية انتقامًا لمقتل سليماني، وأكد أن بلاده مستعدة لقبول السلام مع كل من يسعون إليه، وهو تراجع عن لهجته الحادة التي تعود الإشارة إلى إيران فيها، دون أن يحدد أيضًا هل بإمكانه هو الآخر التراجع عن شروطه القاسية لفرض نمط محدد من السلام المطعم بالمهانة والاستسلام التام أم لا.
قد تعطي الظروف فرصًا بالجملة لطهران لإيجاد دور في الصراع السياسي الدائر داخل الولايات المتحدة
كما يعد تصعيد مجلس النواب الأمريكي ضد ترامب وتصويته قبل أيام على قرار للحد من قدرة الرئيس على شن حرب ضد إيران، بمثابة توبيخ رسمي من البرلمان لقرار قتل سليماني في يناير الماضي، لا سيما أن الدستور الأمريكي يمنح الكونغرس السلطة والمسؤولية لإعلان الحرب، بموجب قانون سلطات الحرب الصادر عام 1973، وهو ما يعطي أيضًا دافعًا قويًا لطهران للعب مع الديمقراطيين وكل من يعادي ترامب في النظام الدولي، وبالتأكيد هو يعلم تأثير ذلك عليه، وخاصة إذا انخرطت إيران بشكل مباشر في العملية الانتخابية الأمريكية.
قد تعطي الظروف فرصًا بالجملة لطهران لإيجاد دور في الصراع السياسي الدائر داخل الولايات المتحدة وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية واستغلال الديمقراطيين في إفساد حملته ترامب الانتخابية، بما يعطي أوروبا دفعة كبرى لنصرتها، لا سيما أن القارة العجوز ما زالت على ولائها لصفقة 2015 التي ترجح كفة اللعب بالامتيازات والمصالح على كفة اللجوء للتهديد والقوة والعدوان، وهو ما ستفصح عنه الأيام القادمة!