أثارت الزيارة التي يقوم بها قائد قوات الدعم السريع في السودان محمد حمدان دقلو “حميدتي” إلى مصر حاليًّا، ضجة واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة أنها تمت بدعوة رسمية من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والمثير في الأمر أن السيسي كانت لديه تحفظات واضحة على مخطط إماراتي يهدف إلى تصعيد دقلو لرئاسة السودان بعد ثورة ديسمبر/كانون الأول التي أطاحت بالرئيس المخلوع عمر البشير.
للسيسي رأي سلبي في حميدتي.. فلماذا دعاه؟
تحفُّظ عبد الفتاح السيسي كان يتعلق بمخاوف أمنية، فهو يرى أن الرجل المثير للجدل “حميدتي” مهما كان نفوذه وقوته في النهاية هو مجرد قائد مليشيا غير منضبطة لا يمكن أن تكون بديلةً للجيش السوداني الذي أضعفه الرئيس المخلوع خصيصًا خوفًا من الانقلاب عليه، ولكن في نهاية المطاف لعب قائد المليشيا دورًا في الإطاحة بالبشير الذي أتى به من أجل حمايته!
ولهذا أثارت دعوة السيسي لحميدتي جدلًا كبيرًا في الشارع السودان، وتساءل كثيرون عن ماذا يريد الرئيس المصري من الرجل الذي لم يكن مقتنعًا به.. احتمالات عديدة ناقشها السودانيون على مواقع التواصل من بينها إمكانية أن يتصدرها الملف الليبي ومصلحة السيسي في تقوية حليفه الجنرال المتقاعد خليفة حفتر لحسم معركة طرابلس، ولكن الاحتمال الأكبر من واقع التوقيت والتحركات الدبلوماسية المصرية الأخيرة يبدو أن الهدف الأكبر للزيارة محاولة تبديل موقف السودان من سد النهضة الإثيوبي، ففي مصر تتصدر المشهد في الوقت الراهن، قضية سد النهضة ولا شيء يشغل المصريين سواه حاليًّا.
فالمواقف السودانية الأخيرة من السد أثارت موجة كبيرة من الاندهاش والغضب في مصر على الصعيدين الشعبي والرسمي، رغم أنه لم يطرأ تغيير كبير على موقف الخرطوم المعلن من السد الإثيوبي منذ أيام الرئيس المخلوع عمر البشير.
لم تفق مصر من صدمة عدم توقيع الوفد السوداني في واشنطن على المسودة الأولية التي أعدها الوسيط الأمريكي، إلا وجاء الموقف الأخير حيث تحفّظ مندوب السودان لدى الجامعة العربية على مشروع قرار من مجلس وزراء الخارجية العرب يؤكد تضامن الجامعة العربية مع موقف السودان ومصر الخاص بسد النهضة الإثيوبي.
اتصالات مصرية مكثفة
تحركت مصر لمواجهة إثيوبيا بإرسال وزير خارجيتها سامح شكري إلى عدة دول عربية لحشد الدعم، كما كثفت اتصالاتها مع قيادات الشق العسكري في السودان المتمثل في رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان وعضو المجلس محمد حمدان دقلو الذَيْن يعُتقد أنهما أقرب إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي باعتبار أن ثلاثتهم مجرد وكلاء للمحور السعودي الإماراتي في المنطقة.
يسابق النظام الحاكم في مصر الزمن من أجل تدارك خطأ التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ في الخرطوم عام 2015
البرهان بادر بإجراء اتصال هاتفي مع السيسي بعد يومين فقط من التحفظ السوداني، ويرجح أن الاتصال تناول قضية سد النهضة وموقف السودان منه، رغم أن وسائل الإعلام الرسمية لم تشر إلى هذه الناحية، ثم جاءت بعد ذلك محاولة اغتيال رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك في الخرطوم، وبغض النظر عن التكهنات بشأن من يقف وراء المحاولة أو المستفيد منها فإن السيسي سارع بإرسال مدير مخابراته عباس كامل إلى الخرطوم للقاء البرهان وحميدتي ثم اختتم زيارته بمقابلة حمدوك.
لم تمضِ إلا أيام قلائل، غادر بعدها قائد قوات الدعم السريع في السودان محمد حمدان دقلو “حمديتي” إلى القاهرة بدعوة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في زيارة قِيل إنها ستمتد ليومين تبحث مسار العلاقات الثنائية وتعزيز التعاون بين البلدين في مختلف المجالات، بجانب القضايا ذات الاهتمام المشترك، حسبما ذكرت وكالة السودان للأنباء (سونا).
تعهدات سابقة لعساكر السودان
يرجح أن يتصدر ملف سد النهضة النقاش بين السيسي وحميدتي خاصة أن هناك تعهدات سابقة بين عساكر السودان والرئيس المصري على تغيير موقف الخرطوم بخصوص السد الإثيوبي، ولكن ما حدث من انتفاضة سودانية على العسكر عقب تورطهم في مجزرة فض الاعتصام أربك حسابات الجميع، فقد أُحيل ملف العلاقات الخارجية إلى الحكومة المدنية التي يقودها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك.
ورغم أن ملف السد يتعلق بإثيوبيا في المقام الأول لأنها مالكة المشروع ويتم إنشاؤه على أراضيها، فإن الموقف السوداني مهم للنظام المصري، إذ إن تضامن السودان مع الجانب الإثيوبي بسبب مصالحه في بناء السد ـ كما سنوضح لاحقًا ـ أضعفَ رواية الجانب المصري الذي كان يريد تسويق فكرة أن إثيوبيا دولة متعنتة ترفض الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
يسابق النظام الحاكم في مصر الزمن من أجل تدارك خطأ التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ في الخرطوم عام 2015 الذي منح بموجبه إثيوبيا صكًا رسميًا بمتابعة بناء السد، إذ أرسل السيسي كما ذكرنا وزير خارجيته سامح شكري إلى عدة دول عربية، وبدأ اتصالاته مع الشق العسكري الذي يتمتع بنفوذٍ كبيرٍ في السودان لكن المشكلة تكمن في أن ملف العلاقات الخارجية والموارد المائية يقعان بالكامل تحت سيطرة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الذي لا يميل لجانب السيسي.
مهمة حميدتي في غاية الصعوبة
وبخلاف الميل ناحية مصر أو إثيوبيا فإن مهمة عسكر السودان في تطويع الموقف الحكومي ليكون متماهيًا مع رؤية القاهرة تبدو في غاية الصعوبة إن لم تكن مستحيلة لأسباب متعددة يمكن تقسيمها إلى جزئين أساسيين:
أولهما: الفوائد الكبيرة التي يجنيها السودان من السد الإثيوبي التي اتفق عليها المعارضون للحكومة الانتقالية قبل المؤيدين ويمكن إجمالها في الآتي:
1- السد سيمكّن الخرطوم من استغلال حصتها كاملة من مياه النيل، فعندما تحجز إثيوبيا قرابة 17 مليار متر مكعب من مياه النيل الأزرق، بهدف توليد الكهرباء، ستسمح بمرور قرابة التدفق المتبقي من إجمالي التدفقات السنوية (أي 48-17= 31 مليار متر مكعب)، وذلك على مدار 365 يومًا، بدلًا من مرور نفس الكمية خلال أشهر الفيضان الثلاث (تموز/يوليو، آب/أغسطس، أيلول/سبتمبر).
يعني خروج أقل من 100 مليون متر مكعب يوميًا في المتوسط من فتحات التوربينات لتجري في مجرى النيل الأزرق العميق، ولكن بسرعة منخفضة جدًا وليس بنفس سرعات المياه أيام الفيضان، وهذا سيساعد المزارعين السودانيين على زراعة أراضيهم (ثلاث دورات زراعية) بدلًا من دورة واحدة حاليًّا، ومضاعفة عدد الدورات الزراعية يعني بالطبع عودة السودان دولة منتجة ومصدرة للغذاء بدلًا من وضعها الحاليّ تستجدي مساعدات الأصدقاء للحصول على القمح.
2- ستحجز إثيوبيا كل المياه الفائضة القادمة من مرتفعات الهضبة الإثيوبية في موسم الأمطار الغزيرة خلال فترة الصيف، مما يؤدي إلى وقف الفيضانات المدمّرة التي كانت تؤرق السودانيين كل عام وتتسبب في مصرع العشرات وتدمير الممتلكات وجرف الأراضي الزراعية.
3- حصول السودان على طاقة كهربائية بأسعار زهيدة تقل عن تكلفة التوليد المحلي بالسودان وإنشاء السدود مثل سد مروي الذي ثبت أنه كان مشروعًا سياسيًا، فأديس أبابا تمد جارتها الغربية منذ العام 2013، بـ300 ميغا واط، يتوقع أن ترتفع إلى أكثر من 1100 بعد اكتمال السد. وهذه أيضًا قضية ملحة للغاية، حيث يعاني السودانيون من نقصٍ هائلٍ في الإمداد الكهربائي تسبب في توقف الكثير من المصانع وأحال حياة المواطنين إلى جحيم لا يُطاق.
4- انتظام الملاحة على النيل الأزرق ونهر النيل طوال العام، ففي الوقت الحاليّ لا تكون الملاحة النهرية منتظمة في السودان إلا في شهور الصيف “من يونيو/حزيران إلى أكتوبر/تشرين الأول)، بعد ذلك ينخفض مستوى المياه وتبدأ الجزر في الظهور على مجرى النيل الأزرق ونهر النيل الرئيس، سد النهضة سيضمن انتظام الملاحة طول السنة لتدفق المياه بشكل بطيء من خزان السد كما هو موضح في البند الأول.
5- بعد اكتمال سد النهضة يُنتظر أن تقل كمية الطمي الضار الذي يأتي للسودان سنويًا مصحوبًا بالنفايات وجثث الحيوانات النافقة، فكانت تكلف الدولة مبالغ كبيرة لصيانة سدود السودان مثل سد الرصيرص وسنّار ومروي. وبعد اكتمال السد ستتدفق مياه النيل الأزرق ومعها كمية جيّدة من الطمي المفيد للزراعة.
عيوب الوثيقة الدستورية التي تشكلت بموجبها الحكومة الانتقالية في السودان لا تُحصى ولا تُعد، بسبب بنودها الفضفاضة والغامضة
كانت هذه أبرز فوائد سد النهضة للسودان التي جعلت الموقف الحكومي الرسمي يدعم الجانب الإثيوبي، ولكن هناك أسباب أخرى شكّلت عوامل مساعدة لهذا الموقف تتمثل في النقاط الآتية:
1- موقف إثيوبيا من الثورة السودانية مقارنة بالموقف المصري، حيث لعبت الحكومة الإثيوبية بقيادة رئيس الوزراء آبي أحمد دورًا كبيرًا في التوصل للاتفاق الدستوري بين قوى الحرية والتغيير من جانب والمجلس العسكري المحلول من جانب آخر، وهو ما رفع شعبية آبي أحمد في السودان، حيث تجلّت في التصفيق الحار الذي خصصه الحضور لأحمد دون سواه عندما ذُكر اسمه في حفل توقيع الاتفاق، بينما على النقيض لعب نظام السيسي دورًا مغايرًا في محاولة تثبيت الحكم العسكري والقضاء على الثورة وهو ما تسبب في مشاعر كراهيةً لحكومة السيسي عند الثوار السودانيين.
2- جانب متعلق بالإعلام المصري والسينما المصرية، فقد تحوّل الرأي العام السوداني بشكل عاطفيّ إلى الجانب المناوئ لمصر بسبب الطريقة التي كان الإعلام المصري يتناول بها السودان والشخصية السودانية دون مراعاة لعلاقات الجوار والتداخل الأسري.
3- الارتباط الشخصي الوثيق بين رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك والقادة الإثيوبيين، فحمدوك أقام بالعاصمة الإثيوبية طيلة الـ20 عامًا الماضية، وكان مقربًا من حكام إثيوبيا بدءًا من رئيس الوزراء الراحل مليس زناوي والسابق هايلا مريام ديسالين إلى رئيس الحكومة الحاليّ آبي أحمد.
4- المشكلة أن الجانب المصري يراهن على عساكر السيادي، وهم الفئة المكروهة في الشارع السوداني، إذ يعتبرها المواطن السوداني العادي امتدادًا لنظام المخلوع عمر البشير، إلى جانب تورط العسكر في مجزرة القيادة العامة وعلاقاتهما المريبة بدول الثورات المضادة “الإمارات والسعودية”، ولذلك فإن مجرد ظهور البرهان وحميدتي كداعمين للموقف المصري يجعل القضية خاسرة شعبيًا من البداية، والحاضنة الشعبية مهمة لأي قرار مصيري في السودان في الوقت الحاليّ نسبة لكون أداء الحكومة مراقبًا من الشارع الذي لا يزال ثائرًا.
هل يحق لحميدتي تمثيل السودان دوليًا؟
عيوب الوثيقة الدستورية التي تشكلت بموجبها الحكومة الانتقالية في السودان لا تُحصى ولا تُعد، بسبب بنودها الفضفاضة والغامضة، فعندما قام رئيس المجلس السيادي بزيارته الشهيرة إلى أوغندا التي التقى فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي بمعزل عن وزارة الخارجية، قامت الدنيا ولم تقعد في الخرطوم، وتساءل الناس عن حدود صلاحيات رئيس المجلس والأعضاء.
اتفق بعض المراقبين على أنه يمكن لرئيس المجلس السيادي أن يمثل السودان خارجيًا في أي محفل دوليّ، بشرط التنسيق مع وزارة الخارجية وأن تكون الوزارة حاضرة في أي تحرك خارجي سواء بمشاركة الوزيرة أسماء عبد الله أو وزير الدولة عمر إسماعيل، لكنّ هذا لا ينطبق على باقي الأعضاء الذين يمكن أن يرافقوا وفودًا رسميةً من الحكومة السودانية أو أن يتم تكليفهم بمهمة تشريفية لتمثيل الدولة وليس من بينها اتخاذ قرارات مصيرية.
وعليه يبقى التحدي قائمًا لمجلس الوزراء السوداني بقيادة حمدوك في أمرين اثنين: أولهما كيفية ترويض الرجل المثير للجدل الذي لم تتراجع طموحاته رغم الرفض الشعبي الواسع لشخصه الذي أجبره على التنحي عن آلية معالجة الأزمة الاقتصادية الأسبوع الماضي.
والتحدي الثاني: كيفية صمود الموقف السوداني الرسمي من سد النهضة في وجه ضغوط السيسي وحلفائه في المجلس السيادي السوداني.