شهدت الساحة الشيشانية العديد من المجازر التي ارتكبتها القوات الروسية خلال 6 سنوات، مقسمة على حربين منفصلتين، الأولى كانت بين عامي 1994 و1996، والثانية بين عامي 1999 و2000 وانتهت بوضع الشيشان تحت السيادة الروسية، فيما خلفتا آلاف القتلى وأضعافهم من المصابين.
وقد شكلت الحربان عنوانًا لطموحات الاستقلال لدى الشعوب المنضوية سابقًا تحت الاتحاد السوفيتي التي تعامل معها الوريث الروسي بوحشية مفرطة، غير مبال بالدماء التي أريقت على تراب تلك الدول، إذ كان الشعار الأبرز هو عودة الإمبراطورية المنهارة والزود عن سمعتها بين دول المنطقة وسكانها.
وكعادة الوحشية الروسية فقد تسببت الغارات المتواصلة التي شنتها قواتها ضد السكان المدنيين في البلاد إلى حمل أكثر من 200 ألف شيشاني (60% من إجمالي عدد السكان) على الهرب إلى إنغوشيا المجاورة، هذا بجانب تفشي جرائم السلب والنهب وهتك الأعراض في مشاهد نددت بها المنظمات الحقوقية واعتبرتها انتهاكات ترتقي لجرائم الحرب.
ورغم الخسائر التي تكبدها الروس في الحربين، فإن التداعيات التي نجمت عنهما فيما يتعلق بالوضع الشيشاني الداخلي، جريمة وحشية تضاف للسجل الروسي المشين في هذا المضمار، وهو ما يعمق مشاعر الكراهية والحقد للمحتل الروسي لدى الغالبية العظمى من الدول التي خرجت من تحت عباءة الاتحاد السوفيتي عقب انهياره.
الحرب الأولى (1994 – 1996)
قبل الحديث عن الحرب الأولى التي شنتها روسيا ضد الشيشان لا بد من التعريج سريعًا على السياق التاريخي لتلك الحرب، حيث غزا الروس المرتفعات الشيشانية الأولى في عهد بطرس الأكبر، أوائل القرن الثامن عشر، في أعقاب فترة طويلة ومقاومة شرسة خلال حرب القوقاز.
وبعد معارك ضارية من الفر والكر وقعت الشيشان في قبضة الإمبراطورية السوفيتية، وتم ضمها رسميًا إلى روسيا البلشفية عام 1922، ليعاد تأسيسها مرة أخرى في عهد جوزيف ستالين تحت مسمى “الجمهورية الاشتراكية السوفيتية الشيشانية الأنجوشية ذاتية الحكم”.
وفي عام 1944 تم ترحيل قرابة مليوني شيشاني وعدد آخر من شعوب القوقاز الشمالية إلى سيبيريا ووسط آسيا، بناءً على أوامر من الإمبراطور الروسي لافرينتي بيريا، كعقاب رسمي بتهمة التعاون مع القوات الألمانية في الحرب العالمية الثانية، لتلغى معها جمهورية أنغوشيا والشيشان.
وفي أغسطس 1991 تعرض آخر الرؤساء السوفيت، ميخائيل غورباتشوف، لمحاولة انقلابية، خلال عطلته الصيفية في جزيرة القرم، ورغم فشل المحاولة، فإنها كانت بمثابة المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفيتي وزعيمه، ليجد بوريس يلتسين الفرصة سانحة لخطف الأضواء وتكريس شرعيته كوريث سياسي شرعي للاتحاد المتهاوي.
حالة الضعف التي بدا عليها الاتحاد في هذا الوقت في ضوء ما يتعرض له من تآكل واضح في بنيته الأساسية مهد الطريق لبروز نزعة انفصالية لدى العديد من الجمهوريات المنضوية تحت لواء السوفيت، وكان على رأسها الجمهورية الشيشانية، وهنا أعلن الضابط السامي في الاستخبارات السوفيتية جوهر دوداييف، استقلال الشيشان وأنغوشيا بعد يومين من الانقلاب الفاشل.
مع مطلع 1995 أرسلت موسكو 30 ألف عسكري إلى هناك، دخلوا العاصمة غروزني بعد قصفٍ مدفعي وجوي بدا أشبه بالمجزرة المنظمة منه بالحرب، أسفر عن مقتل 25 ألف شيشاني، أغلبهم من المدنيين
استند دوداييف في خطوته تلك إلى العلاقة القوية التي كانت تربطه بيلتسين، معتقدًا أنه لن يبخل عليه بالدعم، مكافأة له على موقفه الداعم له خلال محاولة الانقلاب، ورغم عدم اعتراض الرئيس الروسي بداية الأمر، كان ينظر بقلق لما يحدث في القوقاز، لكن الأوضاع في موسكو كانت تفرض التعاطي مع أولويات أكثر حيوية قبل البت في الملف الشيشاني.
لم يستسغ يلتسين انفصال الشيشان، وهو ما دفعه للعزم على العمل من أجل استرجاعه مرة أخرى، وبعد أن استتب به الأمر، دعم قياداتٍ شيشانية مناوئة لدوداييف، ودفع قياداتٍ محلية عسكرية إلى حمل السلاح ضده عقابًا له على رفض التوقيع على معاهدة الاتحاد الروسي، التي عُرضت للتوقيع في مارس/آذار 1992 وكان الشيشان الإقليم الوحيدة الذي امتنع عن توقيعها.
وفي نوفمبر 1994 تعرض نظام دوداييف لانقلاب عسكري دموي، مدعوم من الدولة الروسية، إذ شارك فيه جنود جندتهم الاستخبارات الروسية لإسقاط النظام الرافض للتماشي مع الأجندة الروسية الجديدة، لكن المحاولة باءت بالفشل، وهنا كان التصعيد في مسار التحرك.
ومع إخفاق الانقلاب قررت موسكو غزو الشيشان بشكل رسمي، فمع مطلع 1995 أرسلت 30 ألف عسكري إلى هناك، دخلوا العاصمة غروزني بعد قصفٍ مدفعي وجوي بدا أشبه بالمجزرة المنظمة منه بالحرب، أسفر عن مقتل 25 ألف شيشاني، أغلبهم من المدنيين، ونزوح نحو نصف مليون مسلم من سكان البلاد، فيما قتل من الجيش الروسي قرابة 5 آلاف عسكري.
لم يقف الشيشانيون مكتوفي الأيدي أمام غزو بلادهم، حيث بدأت عمليات الانتقام سريعًا، ففي يونيو من نفس العام حجز المجاهدون رهائن بمستشفى في “بودينوفسك” انتهى بتدخل القوات الروسية ومقتل 150 شخصًا، وفي الشهر التالي قبل الشيشانيون التوقيع على وقف إطلاق النار لكنهم سرعان ما عادوا إلى حمل السلاح مجددًا في ديسمبر/كانون الأول 1995 الموالي وكثفوا عملياتهم في العمق الروسي، واحتجزوا رهائن بكيزليار في يناير/كانون ثاني 1996 وانتهت العملية بمقتل ما بين 50 و150 شخصًا.
نجح الروس في منتصف 1996 في اغتيال جوهر دوداييف بقصفٍ صاروخي بعد رصد مكالمة هاتفية له، وهو ما ألهب حماس المقاتلين الشيشان لا سيما بعد انضمام أعداد كبيرة من القادمين من الساحة الأفغانية، مما أقلق الروس بشكل كبير، أسفر في النهاية عن توقيع اتفاق لوقف القتال مقابل انسحاب القوات الروسية، لتُطوى صفحة حرب الشيشان الأولى بعد أن خلفت ما بين 80 – 100 ألف قتيل، بخلاف الدمار الشامل الذي لحق بالبلاد.
الحرب الثانية (1999 – 2000)
الفشل في احتلال الشيشان خلال حرب السنوات الثلاثة الأولى كان وصمة عار في جبين يلتسين ونظامه، رغم تورطهم في سقوط عشرات آلاف القتلى المسلمين، كما شعر معها الجيش الروسي بالإهانة والمذلة، منتظرًا فرصة أخرى للانتقام واستعادة هيبة بلاده التي تعرضت لهزة عنيفة داخل الشارع الروسي.
وفي الجهة الأخرى كانت الساحة الشيشانية تعاني من خروقات عدة في بنيان تماسكها، خاصة بعد فشل الرئيس المنتخب أصلان مسخادوف في إرساء الأمن والاستقرار، ما نجم عنه بزوغ حركات جهادية تدعو لتوحيد الجمهوريات الإسلامية في القوقاز والشيشان وأنغوشيا وداغستان، تحت قيادة شامل باسييف (شيشاني) والقائد خطاب (سعودي).
الأجواء حينها كانت مهيأة للروس لمعاودة الهجوم مرة أخرى، لا سيما بعد تعيين رئيس المخابرات – آنذاك – فلاديمير بوتين، رئيسًا للحكومة ثم رئيسًا لروسيا بالإنابة في أغسطس 1999، وذلك بعدما عينه يلتسين الذي كان مقتنعًا بقدراته مقارنة برئيس وزرائه وقتها سيرغي ستيباشين.
لم يتوان بوتين وجيشه عن ممارسة الانتهاكات الهمجية بحق مسلمي الشيشان، فخلال شهر واحد فقط من القصف الجوي دمر 60% من البنية التحتية للبلاد
تزامن تعيين بوتين مع محاولات الجماعات الجهادية السيطرة على بعض المناطق في داغستان، وفي الـ5 من سبتمبر/أيلول من نفس العام، قصف الطيران الروسي مواقع في غروزني، وأعلنت موسكو أنها لم تعد تعترف بسلطة الرئيس الشيشاني مسخادوف، لتبدأ الحرب الثانية.
في 23 من نفس الشهر دفعت روسيا بنحو 30 ألف جندي إلى الحدود الشيشانية، لتدخلها وتواصل تقدمها إلى غروزني التي وصلتها في اليوم الأول من عام 2000، أي بعد يوم واحد من تولي بوتين رئاسة البلاد إثر استقالة يلتسين، وفي أبريل قدم مسخادوف مقترحًا للسلام لكنه رُفض من موسكو، حيث رفع بوتين شعارات الحرب للقضاء على المسلمين في القوقاز.
همجية روسية
لم يتوان بوتين وجيشه عن ممارسة الانتهاكات الهمجية بحق مسلمي الشيشان، فخلال شهر واحد فقط من القصف الجوي دمر 60% من البنية التحتية للبلاد، حيث أزيلت الغالبية العظمى من الجسور ومعظم محطات الكهرباء وأبراج الهاتف والاتصالات وبدأت القوات البرية الروسية في محاصرة الشيشان من الاتجاهات كافة.
أراد بوتين الاستفادة من دروس الحرب الأولى، فاتبع سياسة الأرض المحروقة حيث كان يقوم بالقصف الجوي والمدفعي العنيف على القرى والمدن حتى يهجرها السكان قبل احتلالها، كما أطلق سراح عضو المافيا الشهير بيسلان جانتاميروف، عمدة غروزني السابق، – روسي من أصل شيشاني، محكومًا بالسجن لست سنوات بتهمة غسيل الأموال -، لتدشين ميليشيا موالية للروس مهمتها تمهيد طريق الدخول للقوات الروسية إلى القرى الشيشانية، حيث مارس كل صور التعذيب والتنكيل بحق الشيشانيين.
حاول مسخادوف تحصين العاصمة قدر الإمكان، فحفر الخنادق حولها ولغم مباني بأكملها، ونجح بداية الأمر في تكبيد الجيش الروسي العديد من الخسائر، لكن بنهاية نوفمبر 1999، أحكم الروس حصارهم حول المدينة، ليهرب الرئيس الشيشاني خارج المدينة ومعه مجموعة من الحرس الشخصي الخاص به.
وفي 6 من فبراير 2002 كانت غروزني شبه خاوية من المجاهدين، فدخلها الروس ورُفع العلم الروسي في وسط المدينة ثم تم تفجير المباني المفخخة بالكامل، وفي 21 من الشهر ذاته، قام الجيش الروسي بعرض عسكري كبير في العاصمة بمناسبة يوم الجيش الأحمر.
وفي تحول لافت للنظر أعلن مفتي الشيشان أحمد قاديروف دعمه وتأييده للغزو الروسي لبلاده، رغم أنه كان أول من أعلن الجهاد ضدهم في الحرب الأولى، ليقابل هذا الموقف بترحيب كبير من الروس الذين عينوه رئيسًا للإدارة الروسية التي حكمت الشيشان منذ يوليو 2000 وظل بالحكم حتى مقتله على يد قوات باساييف في مايو 2004.
انتهاكات بالجملة
في تقرير لها وثقت منظمة “مراقبة حقوق الإنسان” العديد من المذابح الواسعة التي نفذها الروس في المدن والقرى الشيشانية خلال فترات الحرب، حيث كشفت أن سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها بوتين خلفت وراءها عشرات آلاف القتلى والمصابين فضلًا عن الخسائر التي يصعب حصرها في الممتلكات.
وأضافت المنظمة أن الغارات المتواصلة التي شنتها القوات الروسية ضد السكان المدنيين دفعت أكثر من 200 ألف شيشاني على الهرب إلى إنغوشيا المجاورة، مما ألقى على كاهل السكان المحليين الذين لا يزيد عددهم على 300 ألف، عبئًا لا قبل لهم به، لافتة إلى أنه لا يزال كثيرون آخرون من السكان المشردين من ديارهم محاصرين داخل الشيشان، خاصة في مضيق نهر أرغون الجنوبي، حيث باتوا عاجزين عن التماس موضع آمن بسبب رفض القوات الروسية فتح ممرات آمنة تسمح لهم بالعبور.
دأب الجنود الروس على نهب بيوت المدنيين ونقل المسروقات في شاحناتهم العسكرية وتخزينها في ثكناتهم في وضح النهار، وهم يفعلون ذلك على رؤوس الأشهاد وعلى مرأى من السلطات الروسية
كما أماطت اللثام عن بعض ملامح الحياة دخل مخيمات اللاجئين، التي وصفتها بالمتردية، حيث يعانون من نقص المأوى والطعام والماء النظيف والتدفئة وغيرها من الضروريات، وتابعت “ولا تعيش إلا قلة قليلة منهم داخل المخيمات المكتظة أو عربات السكك الحديدية، أما الغالبية، فتعيش في ملاجئ مؤقتة أقيمت في المزارع المهجورة أو حاويات الشحن الفارغة، أو غير ذلك من المآوي التي هي دون المستوى المطلوب”.
التقرير التوثيقي الذي نشرته المنظمة على موقعها على الإنترنت أشار إلى أن الكثير من اللاجئين الشيشان اضطروا إلى دفع مبالغ طائلة لشراء بيوت خاصة، ولما كان اللاجئون مضطرين للاعتماد على مواردهم المحدودة من أجل تدبير معاشهم، فكثيرًا ما يضطرون للعودة إلى المناطق التي ما زال بها قتال، معرضين حياتهم للخطر من جديد.
ومن مظاهر التنكيل الروسي أن السلطات هناك ما كانت تسمح للمنظمات الإنسانية بأن تعمل بحرية في إنغوشيا، وتكاد تمنع وصول أي مساعدات مباشرة للمحتاجين داخل الشيشان، فضلًا عن عدم ذهاب أطفال اللاجئين للمدارس، وهو ما انعكس على الخريطة المجتمعية التي تعرضت لضربات موجعة.
واختتم التقرير استعراضه للانتهاكات الروسية بأنه منذ بداية الحرب انتشر السلب والنهب في الشيشان، فقد دأب الجنود على نهب بيوت المدنيين ونقل المسروقات في شاحناتهم العسكرية وتخزينها في ثكناتهم في وضح النهار، وهم يفعلون ذلك على رؤوس الأشهاد وعلى مرأى من السلطات الروسية التي لم تحرك ساكنًا حيال تلك الجرائم، ما يجعلها شريكة في هذه الأعمال بحسب المنظمة.
وبعد سنوات الحرب الدامية تبين أن منهجية ربط الشيشان بالتطرف الإسلامي آخر نسخ التشويه الممنهج الذي تقوده روسيا منذ القدم، منذ عهود القياصرة ومحاولات احتلالهم لمنطقة القوقاز برمتها، وحملات الإبادة التي أغمض التاريخ عينيه عنها مثل كثير من الإبادات التي كانت طي النسيان كمحصلة لتسويات قوى عظمى ومنتصرة، لتبقى أطلال تلك المذابح خير شاهد على همجية لم يعرف التاريخ الحديث مثلها.