تمر المنطقة في الفترة الحاليّة بتوترات سياسية كثيرة، أبرزها الأزمة التي شهدتها تركيا في الفترة الماضية عقب الاشتباك مع النظام السوري المدعوم من روسيا في محافظة إدلب، التي أسفرت عن مقتل العشرات من الجنود الأتراك، ناهيك عن تصاعد احتمالات الاشتباك المباشر مع روسيا.
في ظل هذه الأحداث المتسارعة، تدور تساؤلات كثيرة بشأن صفقة منظومة إس 400 الدفاعية الروسية بين روسيا وتركيا، وموقف أمريكا من حصول تركيا على منظومة باتريوت الدفاعية الأمريكية، وكذلك المستقبل القريب للعلاقات التركية الروسية.
توتر الأوضاع وسياسة التوازن
تفجرت الخلافات التركية الروسية بشكل غير متوقع، بعد تصعيد روسيا هجماتها على إدلب، حيث وصلت هذه الخلافات إلى ذروتها عبر حرب كلامية وتصريحات وتهديدات، واتهمت أوساط تركية، موسكو بالمسؤولية بشكل مباشر عن قتل الجنود الأتراك في إدلب، وهو ما عزز احتمالات الاشتباك العسكري المباشر بين البلدين بشكل جدي.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ما زال يؤمن بإمكانية تجاوز الخلاف بشأن إدلب وتجنب الدخول في صراع عسكري مباشر في سبيل الاحتفاظ بالمنظومة الروسية، ولكن الأهم في تقديره للموقف، الاحتفاظ بموقف قوي يمنع العودة لزمن الرضوخ لشروط واشنطن والناتو، بعد أن خرجت تركيا من دائرة الوقوع تحت رحمة الضغوط الخارجية.
تحت هذا المنطلق، يحاول أردوغان الحفاظ على التوازن في المنطقة، باتخاذه سياسة مسك العصا من الوسط، فهو يرفض التخلي عن منظومة إس 400 الروسية مقابل الحصول على منظومة باتريوت الدفاعية الأمريكية، وبالفعل أعلن منذ أيام أن أنقرة استلمت المنظومة الروسية بالكامل وأنها ستعمل في أبريل المقبل.
تركيا تطلب باتريوت مجددًا
خاضت تركيا محاولات عديدة للحصول على منظومة باتريوت الدفاعية الأمريكية منذ سنوات، ولكن باءت جميعها بالفشل، حيث رفض حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة بشكل خاص، تزويد أنقرة أو بيعها المنظومة لأسباب مختلفة.
اعتبرت تركيا أن هذه المماطلة هدفها إبقاؤها في حالة ضعف وتحت رحمة الناتو الذي سحب منظوماته الدفاعية من الحدود التركية السورية في ذروة التهديد العسكري بداية الحرب في سوريا، الأمر الذي جعلها تتوجه لشراء منظومة إس 400 الدفاعية من روسيا، وصرف النظر عن منظومة باتريوت.
تسبب هذا الأمر في نشوء خلافات بين تركيا والولايات المتحدة، بحجة أن المنظومة الروسية غير متوافقة مع النظم الدفاعية لحلف الناتو، وستلحق الضرر بالطائرات المقاتلة الشبح الأمريكية التي كانت تركيا تساعد في تصنيعها كما كان مقررًا أن تحصل على عدد منها.
التخوفات تعيد الطلب
لكن مع التخوفات الأخيرة بشأن الموقف الروسي، عادت تركيا لمطالبة الولايات المتحدة الأمريكية والناتو بضرورة مساعدتها على وجه السرعة وتزويدها بمنظومة باتريوت الدفاعية – مع الحفاظ على صفقة إس 400 -، وقدمت أنقرة طلبات رسمية عاجلة إلى الناتو وواشنطن بنشر منظومة باتريوت بعيدًا عن تفاصيل البيع والشراء، باعتبار أن تركيا عضو في الناتو.
لم يستجب الناتو والولايات المتحدة لهذا الطلب التركي بشكل سريع، ووصف الكثير من المحللين أن طلب تركيا جاء من موقف ضعف واحتياج كبير، لذلك استغل الناتو وأمريكا ذلك بوضعهم شرط تخلي تركيا عن منظومة إس 400 الدفاعية الروسية على الفور، مقابل الحصول على نظام باتريوت الدفاعي، ولكن لم تستجب أنقرة لذلك أيضًا.
الموقف الأمريكي يخف
حدث انقسام حاد داخل أمريكا بما يخص تزويد تركيا بالنظام الدفاعي، ولكن حسم الأمر منذ أيام، بعدما صرح أرودغان أن الولايات المتحدة تخفف موقفها بشأن صفقة منظومة الدفاع الأمريكية باتريوت المحتملة، وكشف أن واشنطن طلبت من أنقرة ضمان أنها لن تشغّل منظومة الدفاع الروسية إس 400.
كما قال مسؤولون أمريكيون منذ أيام إن الولايات المتحدة تناقش مع شركائها في حلف الناتو ما يمكن أن يقدموه لتركيا كمساعدة عسكرية في إدلب، وتناقش الإجراءات التي قد تُتخذ إذا انتهكت روسيا والحكومة السورية وقفًا لإطلاق النار، تحت شعار “كل شيء مطروح على الطاولة”.
وبشأن هذا، يقول الصحافي المتخصص في الشأن التركي إسماعيل كايا، في حواره مع “نون بوست”: “تركيا تأمل في الحصول على نظام باتريوت ولو بشكل مرحلي، وعملت على ذلك من خلال الضغط على الناتو بشكل عام، والضغط الذي مارسته على الاتحاد الأوروبي في ملف اللاجئين وملفات أخرى من أجل الحصول على بطاريات باتريوت ولو بشكل مؤقت ليتم نصبها على الحدود التركية مع سوريا لخدمتها لحين انتهاء الأزمة مع سوريا”.
ولكن هل ممكن أن تتخلى تركيا عن منظومة إس 400 إذا عادت الضغوطات الأمريكية عليها؟
يرى كايا أنه لا يبدو على الإطلاق في المرحلة الحاليّة أن تركيا تنوي التخلي عن منظومة إس 400 مقابل الحصول على منظومة باتريوت، كون تركيا ترى في المنظومة الروسية أبعادًا مهمة جدًا لها في المرحلة المقبلة.
يعتقد كايا أن تركيا لم تشتر المنظومة الروسية لكي تخدمها في أي مواجهة مع روسيا، وإنما في أي مواجهة أخرى قد تكون مع دول غربية، لا سيما فيما يتعلق بصراع شرق البحر المتوسط “قبرص” وملف صراع الغاز على شرق المتوسط واحتمال حدوث أي نزاع مع اليونان، والأمر لا يتعلق بالنزاع المحتمل مع روسيا.
وتخوض تركيا حاليًّا، صراعًا كبيرًا بخصوص الغاز في شرق البحر المتوسط، حيث يرى أرودغان أنه جوهر الصراع في المنطقة وسيرسم خريطتها ويحدد معالمها في المرحلة المقبلة، وبناءً على ذلك فإنه يؤمن بضرورة التمسك بالمنظومة الروسية والاستفادة منها في حماية النفوذ التركي على سواحل شرق المتوسط.
ما مستقبل العلاقات التركية مع روسيا والولايات المتحدة؟
يرى كايا أن “تركيا بعد عقود مع العمل مع الولايات المتحدة والناتو بشكل مباشر ترى أنها فشلت في الحصول على ما تريد من الناتو، وانتقلت إلى محاولة الموازنة في العلاقات ما بين روسيا والولايات المتحدة، وهي بذلك تنجح في بعض الملفات وتفشل في أخرى، ولكن بشكل عام نجحت حتى اليوم في الحصول على دعم دفاعي جيد من روسيا إس 400 وغيرها”.
يتابع كايا :”وتأمل تركيا في نفس الوقت، في الاستمرار بالعلاقات مع الولايات المتحدة والناتو، فهي عضو أساسي وأصيل في الناتو، لا يمكن أن تتركه على الإطلاق، وبالتالي من غير الوارد في المرحلة المقبلة أن يكون هناك اختيار وقطع علاقات مع جانب على حساب آخر، سواء روسيا أم الولايات المتحدة، سوف تستمر تركيا في محاولة الموازنة إلى حين أن تتمكن في ذلك لفترة أطول، أو حين تضطر لقطع العلاقات مع جانب على حساب آخر، ولكن هذا الأمر غير وارد في المدى القصير أو المتوسط”.
ختامًا فإن تركيا اليوم تواجه ملفات معقدة وتحاول السيطرة على زمام الأمور بسياسة التوازن من جهة وسياسية التأني مع عدم العودة إلى الخلف من جهة أخرى، فهي تواجه أزمة مخاوف مع الحليف الروسي وأزمة تراجع مستوى الثقة مع الإدارة الأمريكية وأزمة غاز البحر المتوسط مع اليونان.