شكل توقيع اتفاق السلام بين حركة طالبان والولايات المتحدة يوم 29 فبراير 2020، أحد أبرز التطورات التي شهدتها البيئة الأمنية في منطقة جنوب شرق آسيا، لتنهي صراع دام بين الطرفين على مدى 19 عامًا، وقد تشكل الضرورات السياسية التي يعيشها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اليوم، أحد أبرز المبررات التي دفعت الإدارة الأمريكية لتوقيع هذا الاتفاق الذي سيؤمن حياة الجنود الأمريكيين من جهة، ويؤدي إلى إدماج حركة طالبان في العملية السياسية داخل أفغانستان من جهة ثانية، وتوظيفهم لاحتواء خطر تنظيم داعش المتنامي هناك من جهة ثالثة.
وعلى الرغم من ردورد الفعل الإقليمية والدولية التي أفرزها توقيع هذا الاتفاق، فالثابت أنه سيشكل مدخلًا جديدًا لإعادة صيغة المشهد الأمني في أفغانستان من جديد، وهو ما تنبهت إليه إيران مبكرًا، عندما نددت بهذا الاتفاق، واعتبرت أنه لن يحقق الغاية منه، خصوصًا أن الولايات المتحدة انفردت بتوقيع هذا الاتفاق دون مراعاة لمواقف دول الجوار، وما يبرر خشية طهران في هذا الإطار، أن يكون هناك ترتيبات سرية بين حركة طالبان والإدارة الأمريكية لمواجهة الحواضن الاجتماعية للجماعات الإيرانية في أفغانستان وباكستان، إلى جانب تنظيم داعش.
والأكثر من ذلك، تبني قطر محادثات السلام بين أطراف الاتفاق، ما أدى إلى سحب ورقة مهمة من يد الجانب الإيراني الذي سعى عبر سنوات ماضية لإجراء محادثات سلام بين حركة طالبان والحكومة الأفغانية، إلا أنه فشل في ذلك، ما قد ينعكس على العلاقات بين قطر وإيران في المستقبل القريب.
بعد توقيع هذا الاتفاق، أخذت دوائر صنع القرار في إيران تقتنع شيئًا فشيئًا بالسيناريو الذي انتهت إليه عملية الصراع المسلح بين حركة طالبان والولايات المتحدة، خصوصًا أن إيران بعد عملية اغتيال قاسم سليماني، أصيبت بردة فعل إستراتيجية قوية، نتيجة رفع الولايات المتحدة لسقف الصراع معها إلى مستوى عالٍ جدًا، وهو ما جعلها توكل عملية المواجهة لوكلائها في العراق، وعلى هذا الأساس أخذت إستراتيجية الاستنزاف حتى الانسحاب، العنوان العريض الذي يحرك إستراتيجيتها العسكرية في هذا البلد، فإلى جانب تبنيها لفكرة إنهاء الوجود الأمريكي في العراق، أخذت تدفع بوكلائها نحو استفزاز القوات الأمريكية الموجودة في العديد من المعسكرات العراقية وتحديدًا في التاجي وعين الأسد.
إذ وجد الإيرانيون أن الدفع بهؤلاء الوكلاء نحو استنزاف الولايات المتحدة بصورة مستمرة، إلى جانب ما قد ينتج من ردات الفعل الأمريكية عليها، من تنديدات ومطالبات عراقية بضرورة إنهاء وجود القوات الأمريكية في العراق، إستراتيجية تستحق المضي بها قدمًا، طالما أن هناك طبقة سياسية عراقية ما زالت خاضعة للنفوذ الإيراني، رغم المطالبات الشعبية المنددة بهذا النفوذ منذ أكتوبر 2019، ويبدو أن الزيارة الأخيرة لرئيس المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران علي شمخاني إلى العراق، قد أوضحت الكثير من الخطوط العامة لهذه الإستراتيجية التي بدأت تفرض نفسها على الواقع العراقي بصورة واضحة.
الإستراتيجية الإيرانية في العراق تواجه تحديات كبيرة، فإلى جانب التحديات السياسية والأمنية، بدأت تواجه تحدي اندثار الفصائل المسلحة القريبة منها
إذ لا يخفى على أحد أن الحشد الشعبي والفصائل التابعة له، بدأ يشهد انقسامًا كبيرًا بعد غياب نائب رئيس هيئة الحشد أبو مهدي المهندس الذي اغتيل مطلع العام الحاليّ، سواءً على مستوى القيادة أو تنسيق العمليات، وهو ما دفع الكثير من الفصائل إلى العمل بعيدًا عن مظلة الحشد الشعبي الرسمية، من خلال تبني إستراتيجية مواجهة الولايات المتحدة في العراق، والحديث هنا عن الفصائل الولائية التي أصرت على المضي بمشروع مواجهة القوات الأمريكية بعيدًا عن المظلة الرسمية العراقية، وهو ما أوقع الحكومة العراقية بمشاكل كبيرة مع الجانب الأمريكي الذي بدا هو الآخر أكثر إصرارًا على البقاء في العراق.
والأكثر من ذلك إصرار الجانب الأمريكي على جلب منظومة باتريوت الصاروخية، للحد من تأثير الهجمات المسلحة المتواصلة، وهو ما أعلنه قائد القيادة المركزية الأمريكية كينيث ماكينزي في مؤتمر صحفي عقب الرد الأمريكي على الهجمات الصاروخية التي شنتها فصائل مسلحة على معسكر التاجي الأسبوع الماضي.
وما يدلل على أزمة عدم التنسيق الموجودة داخل هيكلية الحشد الشعبي، بروز العديد من الفصائل المسلحة التي اختارت مناطق عمل وتكتيكات مواجهة بعيدة عن الفصائل الرسمية، وعلى الرغم من أن هذه الحالة قد تشكل مناسبة لمزيد من الهجمات على المقرات الأمريكية، دون أن تكون هناك مسؤولية يتحملها أي طرف عراقي أو إيراني، فإنها قد تشكل مزيدًا من الاستنزاف لمقدرات الدولة العراقية، وهو ما يتضح مع تبني فصيل (عصبة الصابرين) للهجمات الأخيرة على معسكر التاجي، وعلى الرغم من كونه فصيل غير معروف على مستوى الفصائل العاملة داخل هيكلية الحشد الشعبي، فمما لا شك فيه، أنه تشكل عبر انشقاقات من فصائل أخرى أهمها كتائب “حزب الله” وكتائب سيد الشهداء وحركة النجباء.
إن الرغبة الإيرانية في تعجيل انسحاب القوات الأمريكية من العراق، تبدو أكثر وضوحًا اليوم، خصوصًا أنها تعيش في ظل ظروف سياسية واقتصادية وبيئية معقدة، هذا إلى جانب عجز حلفائها في العراق عن إخماد التظاهرات الشعبية المشتعلة في العديد من الحواضن الاجتماعية التي كانت إيران حتى وقت قريب تتباهى بالسيطرة عليها عبر العديد من الفصائل والأحزاب القريبة منها.
وعلى هذا الأساس تجد إيران في عملية استنزاف القوات الأمريكية، مدخلًا لإجبار الإدارة الأمريكية على الجلوس مع قادة هذه الفصائل، لتوقيع اتفاق انسحاب الولايات المتحدة على غرار ما حصل في أفغانستان، وهي إستراتيجية بدأت تستهوي إيران كثيرًا في الآونة الأخيرة، وتحديدًا أنها تأتي في ظروف ترفض فيها إيران التوجه مباشرةً نحو القوات الأمريكية الموجودة في المنطقة.
الإستراتيجية الإيرانية في العراق تواجه تحديات كبيرة، فإلى جانب التحديات السياسية والأمنية، بدأت تواجه تحدي اندثار الفصائل المسلحة القريبة منها، فالتدمير الكبير الذي تعرضت له المقرات والمنشآت التابعة لكتائب حزب الله في بابل وكربلاء وصلاح الدين وغيرها، بسبب اتهامها الهجمات الأخيرة التي وقعت في معسكر التاجي، أثبت أن الولايات المتحدة يمكن أن تكرر هذا السيناريو مع أي هجمات جديدة قد تقع مستقبلًا، ومع نجاح الولايات المتحدة في جلب منظومة باتريوت الصاروخية، قد تكون مهمة إيران أكثر صعوبة، وعلى هذا الأساس نجد أن الطرفين الإيراني والأمريكي، يخوضان صراع الإرادات على الساحة العراقية، على أمل أن ينجح أحدهما في إخضاع الآخر أولًا.