من السكين إلى البرميل، ومن الهاون إلى السكود، ومن الكلور إلى السارين، ومن استدعاء مليشيات إيران ومرتزقتها إلى استجلاب الاحتلال الروسي وجبروته، تفنن نظام بشار الأسد طيلة 9 سنوات، في أساليب قمع وإذلال السوريين الثائرين ضد حكمه، ولم يتوانَ -كما هو معلوم- عن استخدام كل سلاح يملكه للبطش بالشعب السوري الذي صمد في ثورته بلا هوادة ولا تردد، حتى لم يعد يجد مع السوريين إلا أسلوب الأرض المحروقة، والتي يليها سيطرته وحلفاؤه على المدن الرافضة لحكمه، وبالتالي تهجير من يجدون فيه معادل الحرب وصفتها وفعلها.
أمام تلك الانتهاكات المروعّة التي قلبت الكيان المجتمعي السوري، من مجازر واعتقالات وخطف وتعذيب وإخفاء قسري وسلب أموال الناس وتهجير أهالي مدن عن بكرة أبيها، كان لزامًا تشكيل مؤسسات قانونية وحقوقية سورية لمتابعة الفاعلين ومحاسبتهم وإيصالهم إلى المحاكم الجنائية وخاصة محكمة العدل الدولية في لاهاي، وعلى رأسهم بشار الأسد، عنوان الوحشية في المقتلة السورية وأيقونتها.
تأتي أهمية المجال الحقوقي وتوثيق الانتهاكات لمرتبكي الجرائم في سوريا، كونه سبيل القصاص لعوائل الضحايا من شهداء ومعتقلين ومختفين قسريًا، استنادًا إلى المبدأ الرئيسي المنصوص عليه في القانون الدولي الذي يؤكد أن “جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية من أخطر الجرائم في القانون الدولي”، ويشير القانون إلى أن “المعاقبة الفعالة لجرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية عنصر مهم في تفادي وقوع تلك الجرائم وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وتشجيع الثقة وتوطيد التعاون بين الشعوب وتعزيز السلم والأمن الدوليين”.
إلا أن تطبيق قوانين حقوق الإنسان والقوانين الأخرى التي تطالب بحماية المدنيين وحرية المعتقلين السياسيين، كان أمرًا غائبًا إلى الآن، ومع غياب العدالة الدولية فقد الشعب السوري المكلوم ثقته في الإجراءات الدولية من قوانين ومواثيق مكتوبة على الأوراق فقط.
لكن نخبة قانونية حقوقية وقفت مع الثورة وأهلها منذ أول لحظة، وحاولوا جاهدين توثيق المعاناة والعمل على إنشاء مؤسسات تعنى بالشق القانون وحده لملاحقة مجرمي الحرب الذين شاركوا في قتل السوريين في مساع لجرهم إلى المحاكم الدولية لينالوا جزاءهم العادل وينال الشعب جزءًا من العدالة المستحقة في محاسبة المجرمين الذين أجرموا بحقه.
مستمر رغم العوائق
ترتبط مؤسسات العدالة الدولية في هذه الأيام بالقرار السياسي للدول وبالتالي فإن بدء المحاكمات ومساءلة المجرمين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية يعد أمرًا صعبًا، وبالنظر إلى الحرب في سوريا فإن الاستقطابات التي حصلت فيها والتحالف الذي شكلته الصين وروسيا اللذين يمتلكان حقد النقض “فيتو”، كل هذا جعل المضي بالمحاكمة والمساءلة مرتبطًا بالتسوية السياسية، ويبدو “هذا في المدى المنظور غير واضح أنه سيحصل، لكنه سيحصل في يوم من الأيام”.
السياسي والحقوقي السوري أسامة أبو زيد أشار في حديث لـ”نون بوست” إلى أن عدم تحصيل العدالة في الوقت المطلوب أو المرجو حصولها فيه “لا يعني أن نهمل هذا العمل، فالعمل في الوقت الحاليّ قبل الوصول إلى مرحلة المساءلة المرتبطة بالتسويات السياسية أو تغيير ميزان القوى”.
مع دخول العام التاسع للثورة السورية لن يكون أمامنا إلا مزيد من العرق والجهد لنيل الحرية وتحقيق العدالة
وبحسب أبو زيد يوجد أمران من المهم جدًا العمل عليهما، وهما ملف التوثيق الذي تعمل عليه المراكز الحقوقية المرتبطة بالثورة السورية كمركز توثيق الانتهاكات في سوريا، مضيفًا: “سابقًا لم توجد الكثير من المراكز التي عملت بهذا المجال لكن مع الوقت عملت عدة مراكز ومنظمات على موضوع التوثيق”.
يؤكد الحقوقي السوري ضرورة هذه الأعمال والحاجة إلى التعاون مع المراكز ذات المصداقية وأن تفتح لها أبواب التعاون من كل من لديه معلومات أو شهادة أو أدلة التي هي من أهم وسائل الدعم”، أما ما يحتاج للعمل بشكل أكبر فهو الحضور في الفعاليات أو المحافل الدولية التي تتضمن القضايا الحقوقية والعدالة لكي تكون الثورة ممثلة من خلال هذه المؤسسات الحقوقية السورية، وتكون ممثلة من شخصيات معروفة ونشطة من الأسماء السورية اللامعة التي لديها رصيد كبير من المعرفة بما يخص الموضوع الذي يستند إلى دعم الجمهور لهذه الشخصيات بالرسائل التي تحملها، ليبقى الحديث في كل اللقاءات الدولية التي تتعلق بالحقوق، تقديم دراسات تكشف حجم الانتهاكات التي ارتكبت، بحسب أبو زيد.
مؤسسات ومراكز
بدأت بعض المؤسسات والمراكز العمل على المجال الحقوقي القانوني والتوثيقي منذ بداية الثورة والإجرام الأسدي في البلاد، وما زالت تعمل بشكل كبير حتى إنها وصلت للعالمية وأضحت منبرًا متحدثًا ومطالبًا بحقوق السوريين بالعدالة، ومثال ذلك الشبكة السورية لحقوق الإنسان ومركز توثيق الانتهاكات في سوريا المنبثق عن المركز السوري للإعلام وحرية التعبير.
الشبكة السورية لحقوق الإنسان
نشأت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في يونيو/حزيران 2011 أي بعد انطلاق الثورة بثلاثة شهور، وتعرف الشبكة نفسها بأنها “منظمة حقوقية، مستقلة، غير حكومية وغير ربحية، لا تتبنى أي أيديولوجيا”. وتهدف هذه المنظمة إلى توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا والدفاع عن حقوق الإنسان السوري أمام المحافل والجهات الدولية، كما أن أحد أبرز أهداف هذه المؤسسة هي “ضمان حقوق الضحايا وفضح مرتكبي الانتهاكات كخطوة أولى نحو محاسبتهم من أجل ردعهم ونظرائهم عن القيام بعمليات مماثلة في المستقبل”.
ووفقًا للشبكة فإنها تعمل على توثيق الانتهاكات الحاصلة في سوريا، ودائمًا ما تشارك هذه المنظمة في المحافل الدولية كاجتماعات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في الوقت الذي تبذل جهدًا كبيرًا في التواصل مع مختلف وسائل الإعلام وصناع القرار، وتركز المنظمة عملها مع المنظمات الحقوقية والمدنية السورية والدولية، وعلى رأسها المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
تعتبر الشبكة واحدة من أهم مصادر الدراسات التي تصدر عن الأمم المتحدة والخاصة بإحصاءات الضحايا في سوريا، ويُذكر أن الشبكة عضو في “التحالف الدولي لمبدأ مسؤولية الحماية” وعضو في “الشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان”، كما أنها عضو مؤسس في “مجموعة تنسيق العدالة الانتقالية”.
مركز توثيق الانتهاكات في سوريا “VDC”
يعتبر مركز توثيق الانتهاكات أحد أبرز المؤسسات العاملة في مجال التوثيق من حيث عدد العاملين داخل سوريا وفي دول الجوار، ويمتلك المركز قاعدة بيانات كبيرة وله وجود في جميع المحافظات ومعظم المدن.
ومن أجل الوقوف أكثر على عمل مركز توثيق الانتهاكات تواصلنا في “نون بوست” مع غالية مردم بك مديرة المركز، وتعرف مردم بك مؤسستها بأنها “مركز متخصص في توثيق كل أشكال الانتهاكات التي تقع على السوريين وإنتاج التحليلات القانونية لانتهاكات حقوق الإنسان التي تحدث في سوريا منذ عام 2011″، ويهدف المركز بحسب مديرته إلى “تمكين الضحايا من الوصول إلى العدالة ومكافحة ثقافة الإفلات من العقاب وصياغة طريق العدالة الانتقالية في سوريا على أساس الحقيقة والإنصاف والمساءلة”.
وتذكر مردم بك أنه ومن خلال “اتباع منهجية قوية تلتزم بالمعايير القانونية الدولية يوثق المركز انتهاكات حقوق الإنسان وانتهاكات القانون الإنساني الدولي التي ارتكبتها الحكومة السورية والجهات الفاعلة المسلحة الأخرى في النزاع”.
وتعطي مديرة المركز أمثلة على عمل المؤسسة ومنها “توثيق جرائم القتل والاعتقال والاختطاف والإخفاء القسري، واستهداف المنشآت المدنية بالإضافة لتوثيق الأحداث البارزة مثل استخدام الأسلحة المحرّمة دوليًا وخاصة السلاح الكيماوي والتغيير الديمغرافي، والانتهاكات المرتكبة بحق السوريين اللاجئين والإعادة القسرية”.
يقدم مركز توثيق الانتهاكات كل أنواع الدعم التوثيقي لبرنامج التقاضي في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير
كما ينشر المركز أيضًا تقارير إحصائية شهرية وسنوية عن القتلى في سوريا، وكذلك تقارير خاصة تركز على حوادث وانتهاكات محددة مثل الهجوم الكيميائي على مدينة دوما والهجوم العسكري على محافظتي حماة وإدلب والهجوم على مخيم قاح الذي استهدف النازحين داخليًا، وكذلك “عملية نبع السلام” في شمال سوريا. وغيرها من التقارير الموجودة على الموقع الإلكتروني.
محاصرة مجرمي الحرب وملاحقتهم
لم تضع الحرب أوزارها، هل علينا الانتظار ريثما تنتهي لنبدأ ملاحقة مجرمي الحرب؟
تقول غالية مردم بك مديرة مركز VDC بهذا الصدد: “إيمانًا من مركز توثيق الانتهاكات بأنه لا يمكن السماح للجرائم المرتكبة في أثناء النزاع بالمرور دون مساءلة مرتكبيها وتعويض الضحايا، فإننا نهدف من عملنا إلى توثيق الانتهاكات وجمع الأدلة والشهود، لمنع الإفلات من عقاب مرتكبي الجرائم، من خلال المساءلة عبر الفرص المتاحة”.
لكن ما هي تلك الفرص المتاحة؟ سألنا مردم بك، فأجابت:
-
الاستفادة من مبدأ الولاية القضائية العالمية في المحاكم الوطنية لدول الاتحاد الأوروبي، ويسمح هذا المبدأ لهيئات الادعاء الوطنية بملاحقة من يُعتقد أنهم مسؤولون عن جرائم دولية خطيرة بعينها، مثل جرائم التعذيب وجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، حتى إن ارتكبوا هذه الجرائم في أماكن أخرى خارج إقليمها.
-
تظهر إمكانية أخرى للتقاضي في حالة الضحايا من ذوي الجنسية المزدوجة (الذين تم انتهاك حقوقهم في سوريا) إذا كانوا يحملون جنسية البلد الذي سترفع القضية فيه إلى جانب جنسيتهم السورية.
وتضيف مردم بك بأنه بناء على هاتين الفرصتين، يوثق المركز الانتهاكات بتقديم كل أنواع الدعم التوثيقي لبرنامج التقاضي في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير لبناء القضايا التالية:
-
في فرنسا: 3 قضايا متعلقة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية معتمدة على القانون الوطني الفرنسي، وقضية واحدة خاصة بقضايا التعذيب معتمدة على الولاية القضائية العالمية. كانت نتيجتها إصدار 3 مذكرات توقيف بحق 3 من كبار المسؤولين في الأجهزة الأمنية الخاصة بالنظام هم علي مملوك وجميل الحسن وعبد السلام حمود.
-
في ألمانيا: 3 قضايا متعلقة بجريمة التعذيب معتمدة على الولاية القضائية العالمية وكانت نتيجتها إصدار مذكرة توقيف بحق رئيس المخابرات الجوية واعتقال عناصر تابعة للمخابرات طالبة للجوء في ألمانيا
-
في السويد: قدم تسعة من الناجين من التعذيب شكوى جنائية في ستوكهولم ضد 25 من كبار أعضاء المخابرات السورية والمؤسسات العسكرية والشرطة العسكرية، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
-
في النرويج: قدم خمسة من الناجين من التعذيب تهم جنائية ضد 17 من كبار المسؤولين في الحكومة السورية التي تشمل اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
-
في النمسا: قضيتان متعلقتان بالتعذيب مبنيتان على الولاية القضائية العالمية.
ثمار قانون قيصر في حال تطبيقه
مثّل قانون قيصر واحدة من أهم ثمار الكفاح القانوني والحقوقي الذي مارسه سوريون ومنظمات مجتمع مدني معنية بحقوق الإنسان وملاحقة مجرمي الحرب في نظام الأسد وداعميه، وقد فرض القانون عقوبات اقتصادية على أركان نظام بشار الأسد وداعميه الإيرانيين والروس وكل شخص أو جهة أو دولة تتعامل معه، وتعتبر هذه العقوبات حال تطبيقها، الحد الأعلى ما دون التدخل العسكري المباشر التي يمكن أن يتعرض لها نظام الأسد.
يستهدف قانون قيصر نظام الأسد بشكل رئيسي، إلا أنه يضع روسيا وإيران أمام العقوبات الأمريكية، خصوصًا أنه يصاحب حملة ضغط شديدة الوتيرة ضد إيران، ومن شأنه أيضًا، أن يحبط محاولات روسيا لإعادة الإعمار أو عودة اللاجئين دون حل سياسي مستدام.
يتعين على الثورة السورية وحلفائها والدول الداعمة لها، الإسراع في اتخاذ سلسلة من الخطوات والإجراءات خلال الفترة المقبلة، من أجل الاستفادة القصوى من الظروف التي أتاحها قانون قيصر.
تعزز الحملات الإعلامية التي ترافق الجهود الحقوقية في الولايات المتحدة والدول الأوروبية شرح جرائم النظام بحق السوريين، وتعزيز دعم الرأي العام في تلك الدول لأي خطوات تتخذ لمعاقبة النظام، والتنبيه على كارثية المواقف أو التصريحات التي تحاول الدفاع عنه بزعم أن العقوبات تؤثر على السوريين وليس النظام ومسؤوليه.
بهذه الطرق يؤتي قانون قيصر ثماره، وسيكون أول مسمار يدق في تابوت نظام الأسد، وبداية النهاية لنظام أوقد نار الحرب ليس في سوريا وحدها بل في عموم المنطقة، نظام جعل أكثر من نصف الشعب السوري نازحًا لاجئًا طريدًا، ضحية أكبر كارثة إنسانية في العصر.
لا شك أن الجهد الجاد لمؤسسات القضاء ولجان الحقيقة التي تحدثنا عنها سيؤدي دورًا فاعلًا في تحقيق العدالة الانتقالية.
ومع دخول العام التاسع الثورة السورية لن يكون بوسع المنافحين عن حقوق الشعب السوري إلا بذل مزيد من الجهد والسعي، ومزيد من الالتزام بالمبادئ ومزيد من التوق للحرية، التوق الذي جدد أبناء درعا خلال الأيام الماضية التعبير عنه، في تحدٍ شجاع للأجهزة الأمنية التابعة للنظام وآلته المتوحشة، متحدين سلطته الأمنية، ومؤكدين أن لا شيء سيمنع السوريين من استعادة حقوقهم في الحرية والكرامة والعدالة.