على مدار عقود طويلة مضت تجاهلت المناهج الدراسية المصرية فضلًا عن الكتب التاريخية، دور المتطوعين العرب في دحر الاحتلال الفرنسي من مصر (1798 – 1801) فيما اقتصر التعاطي على ما قدمه المصريون بمساعدة طفيفة من بعض الحلفاء الخارجيين في إخراج تلك الحملات بعد مواجهات استمرت 3 سنوات كاملة.
كثير من المؤرخين العرب تطرقوا إلى قضية أن “مصر لم تكن مصرية قط” بما يعني أنها ظلت لسنوات طويلة في بوتقة من العمل العربي التعاوني في شتى المجالات، لا سيما في أوقات الحرب، إلا أن التركيز الإعلامي كان بصورة مركزة على فترة السبعينيات في أثناء حرب الـ6 من أكتوبر 1973.
لكن في المقابل شهدت المراحل السابقة لهذه الفترة تجاهلًا غير مبرر، ورغم المناوشات التاريخية لبعض المؤرخين بشأن الدور العربي في مراحل التاريخ المختلفة التي مرت بها مصر، فإنها لم تحظ بالدعم الإعلامي كما حظي غيرها، وهو ما أثار التساؤلات بشأن هذا التجاهل.
كان العرب دومًا في ظهر المصريين وتسجل صفحات التاريخ تجارب ناصعة البياض في مضمار التكاتف والتعاون المشترك بين القاهرة وبقية العواصم العربية لا سيما دول الشام والجانب الشرقي للدولة المصرية، وكانت الحملة الفرنسية أحد أبرز الساحات التي ظهر فيها الدور العربي عبر ما سمي بـ”جيش المتطوعين” الذي كانت له إسهامات بارزة في مطاردة الجيش الفرنسي من شمال مصر لجنوبها حتى إخراجهم منها في 1801.
الجبرتي شاهدًا
في كتابه الذي عنون له بـ”عجائب الأثار في التراجم والأخبار” وثّق المؤرخ المصري الشهير عبد الرحمن الجبرتي (1754- 1825م) بعض أحداث الغزو الفرنسي لمصر، وكيف تدفق آلاف المتطوعين من عرب الجزيرة لمساندة المجاهدين المصريين في نضالهم ضد قائد الحملة نابليون بونابرت وجيشه الكبير.
وصف الجبرتي دخول الفرنسيين مصر بأنه “مصيبة”، معتبرًا أن سنوات نزولهم للبلاد “أول سِني الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب، وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون”.
وثق المؤرخ المصري الأشهر في العصر العثماني كيف كان العرب ينظرون للغزو الفرنسي
كما رصد أحداث ثورة القاهرة الأولى ضد الحكم الفرنسي وضراوة معاركها وضرب الفرنسيين لخط الجامع الأزهر بالقنابل بعنف ودخولهم الجامع الأزهر مركز الثورة “وهم راكبون خيولهم، وَولجوه من الباب الكبير، وخرجوا من الباب الثاني حيث موقف الحمير، وداس فيه المشاة بالنعالات، وهم يحملون السلاح والبندقيات، وتفرّقوا في صحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والبحرات، وكسروا القناديل والسهّارات، وهشّموا خزائن الطلبة، والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع، والأواني والقصاع، والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشّتوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالاتهم داسوها”.
وثق المؤرخ المصري الأشهر في العصر العثماني كيف كان العرب ينظرون للغزو الفرنسي، حيث اعتبروه فاجعة حلت بواحدة من أكبر بلدان العرب والمسلمين، وهو ما يستدعي ضرورة التحرك الفوري لنصرة المصريين ودعم مقاومتهم للمحتل الذي دخل البلاد مستهدفًا تاريخها ومواردها فضلًا عن هويتها الإسلامية.
توثيق تاريخي
العديد من الوثائق التي زخرت بها صفحات التاريخ المصري تكشف وبشكل كبير الدور الذي قام به العرب لنصرة المصريين في حروبهم العديدة، من بينها الحملة الفرنسية، ولعل كتاب “حكايات من الزمن العربي” للكاتب الصحفي الراحل مصطفى نبيل، رئيس تحرير مجلة الهلال المصرية، أحد المؤلفات التي وثقت لهذا الدور.
يقول الكاتب في مؤلفه: “إن الأستاذ الدكتور مصطفى سالم، وهو من خيرة العارفين بالشأن اليمني، وكان يعمل في مركز الدراسات اليمنية قد عثر على مخطوط في مكتبة مسجد صنعاء الكبير، وذلك المخطوط يقوم على تسجيل تفاصيل وقائع التطوع العربي لمساندة مصر في صد الغزوة الفرنسية”.
هذا المخطوط الذي كتبه المؤرخ اليمني لطف الله جحاف، وجاء تحت عنوان “درر نحور العين في سيرة الإمام المنصور وأعلامه الميامين” استطاع عن طريق العديد من المصادر الموثقة أن يكشف النقاب عن أبرز كتائب العرب التي نزلت إلى أرض مصر لمساعدتها في التصدي لغزوة بونابرت.
وبحسب كاتب المخطوط رأى حاكم اليمن في هذا الوقت، الإمام المنصور أن مصر إن غابت “فقل على العرب السلام، وإن غاب العرب عن مصر فستصبح كرة معلقة في الفراغ، وهذا ما لا يليق ببلد يحترف صناعة التاريخ والحضارة”، مستعرضًا التحرك الذي قام به اليمنيون في هذا الشأن.
فيقول: “إن مبعوثًا من بريطانيا جاء إلى اليمن لمقابلة إمامها لكي يحصل منه على موافقة بإقامة قاعدة بحرية بريطانية عند مدخل باب المندب في البحر الأحمر، رفض الإمام الطلب وثار الرأي العام اليمني، والتهب سخطه على هذا الرسول الذي جاء ليقتطع جزءًا من الأراضي اليمنية، ووصل هذا السخط إلى الحد الذي دفع الإمام إلى إحاطة هذا الرسول بقوة من الجند للمحافظة على حياته في أثناء سفره”.
كان اليمنيون يهرعون إلى المساجد ويتضرعون إلى الله أنّ يُخرج الفرنسيين من ديار مصر الطاهرة وتطوع القادرون على حمل السلاح
ويضيف جحاف “ثم دخلت سنة 1213هـ وفيها وردت الأخبار بدخول الفرانسة، جعل الله ديارهم دارسة، وغيرهم من الأفرنج الأبالسة، ديار مصر طهرها الله من الدنس فاستولوا عليها، ومدوا أيدي الكفر إليها، وأظهروا بها الفساد، وعانوا وتسلطوا على من بها من المسلمين”.
وفي السياق ذاته يستعرض الكاتب اليمني محمد زكريا، وقوع مصر في قبضة الفرنسيين على الشارع اليمني، لا سيما اقتحام الأزهر الشريف الذي بات ساحة للقتال والجهاد، حيث كان لتلك الحملة صدى كبير على مصر، فقد وصلت أخبارها الحزينة والمفزعة إلى الشرق العربي والإسلامي ومنها اليمن.
وتضامنًا مع المصريين في مواجهتهم للاحتلال الفرنسي، أشارت الكثير من المصادر المعاصرة إلى أن الطلاب اليمنيين الأزهريين، أدوا دورًا كبيرًا مع إخوانهم القاهريين في المعارك التي خاضوها ضد الفرنسيين وخصوصًا في معارك بولاق الشهيرة حيث امتزجت دماؤهم بدماء إخوانهم المصريين.
أما على الساحة اليمنية، فكانت لتلك الأحداث دوي هائل في البلاد وردود فعل ساخطة، وكان اليمنيون يهرعون إلى المساجد ويتضرعون إلى الله أن يُخرج هؤلاء الفرنسيين من ديار مصر الطاهرة، فيما اتجه الشباب والكهول والقادرون على حمل السلاح إلى بلاد الحجاز، جماعات، وزرافات لينضموا إلى إخوانهم المتطوعين الحجازيين وغيرهم من بلاد الشام، والمغرب لتخليص مصر من مخالب الفرنسيس، ومواجهة قائدهم بونابرت.
الجيلاني وجيش المتطوعين
دشن المتطوعون العرب جيشًا أطلقوا عليه اسم “جيش المتطوعين” تحت قيادة السيد محمد الجيلاني، المغربي الهاشمي، فقد كان خطيبًا مفوهًا، إذ وقف في ساحة المسجد الحرام وراح يؤلب المسلمين على فرنسا التي غزت مصر، في خطبة أثارت حماس الحاضرين ممن تفاعلوا معهما بشكل كبير، وقد أسفر هذا التفاعل عن تدفق التبرعات حتى من النساء الموجودات، إذ قدمن حليهن الذهبية للخطيب المفوه، لشراء السلاح والمال للمتطوعين.
وكما فعل في الحرم فعل في المسجد النبوي وفي بعض المدن بالحجاز، نجح خلالها في جمع أكبر قدر ممكن من المال والسلاح، ليبدأ تدشين النواة الأولى لجيش المتطوعين، وكانت عبارة عن كتيبة تضم إلى جانب الجيلاني ابن أخته ويدعى حسن، وشقيق له يدعى طاهر.
المعارك التي تم خوضها فوق التراب المصري ومعظم الانتصارات التي حققها المصريون على مدار تاريخهم الحديث والمعاصر كانت بمساعدات عربية
وكان أول تحرك لهذه الكتيبة إلى مدينة قنا بصعيد مصر، لتبدأ المعارك الطاحنة مع القوات الفرنسية، حتى إن قائد الاحتلال الفرنسي بالصعيد كتب إلى القائد العام نابليون بونابرت: “نخوض معارك متصلة مع الفلاحين والمتطوعين المكيين، وكأننا على حافة العالم، إننا نفتقر لكل شيء، ونوع المعارك التي نخوضها عسيرة”.
بلغ قوام الجيش العربي قرابة 4000 متطوع، خاضوا مواجهات عنيفة مع الفرنسيين في عرض البحر الأحمر، إذ كانوا فوق ظهور “صنادل” بحرية صغيرة وبسيطة، وهاجموا من خلالها السفينة الفرنسية الحديثة “موراندي” وقدموا نماذج رائعة في الشجاعة والجرأة حتى أجبروا قبطان السفينة على حرقها حتى لا تقع في يد المتطوعين الذين أسروا الجنود الفرنسيين وعادوا بهم إلى البر.
ومن المعارك التي خلدها جيش المتطوعين ما حدث في مدينة قوص بالصعيد كذلك، إذ كانت هناك مواجهة دامية مع قوات الاحتلال الفرنسي، حيث تحصن المقاتلون بأحد بيوت المدينة، فقام الفرنسيون بمحاولة انتحارية للقبض عليهم، وهنا يقول قائد قوات الاحتلال في قوص في رسالة بعث بها إلى رئيسه ديزيه: “أصدرت الأمر باقتحام البيت وشق الطريق إلى باحته، وإشعال النار في البناء، فهبط المكيون من البيت عدوًا وهم عراة، يمسك كل منهم سيفًا بيد، وباليد الأخرى يمسك بندقية، ويطلقون النار على جنودنا ويحاولون إطفاء النار بأقدامهم”.
ثم تأتي معركة قنا، حيث المواجهة الأشرس بين الطرفين، وفيها نجح الفرنسيون في هزيمة كتيبة المتطوعين، فيما قتل العشرات من أفراد الجيش على رأسهم شقيق الجيلاني وابن اخته، غير أن تلك المعركة كانت الشرارة التي ألهبت الحماس في صدور المصريين في شتى ربوع البلاد.
في هذه الأثناء انتفض المصريون عن بكرة أبيهم زودًا عن مقدرات بلادهم بعدما كان الخوف لجامهم الذي أقعدهم منازلهم لفترات طويلة، وفق ما ذهب أحمد عبد الجواد، الباحث بالجمعية المصرية للدراسات التاريخية، الذي أرجع الفضل لجيش المتطوعين العرب الذي أجرى دماء الانتقام والمقاومة في عروق بقية المصريين.
ويضيف عبد الجواد في حديثه لـ”نون بوست” أن المؤرخين الثقات ممن تعاملوا مع التاريخ بموضوعية وأمانة، يثمنون دور العرب في ساحات المعارك التي تم خوضها فوق التراب المصري، لافتًا إلى أن معظم الانتصارات التي حققها المصريون على مدار تاريخهم الحديث والمعاصر كانت بمساعدات عربية، وهو ما يعيدنا إلى ما وثقه الجبرتي بأن مصر لم تكن يومًا مصرية خالصة.