قبل ربع قرن من الآن استيقط العالم على واحدة من أبشع المذابح في تاريخ البشرية بعد الحرب العالمية الثانية، تلك التي تعرض لها مسلمو البوسنة على أيدي القوات الصربية المدعومة من روسيا، التي أودت بحياة 8 آلاف مسلم في مجزرة واحدة فقط، بجانب المذابح الأخرى التي تعرضها لها البوسنيون.
أربع سنوات كاملة وقع فيها الشعب البوسني بين مطرقة الوحشية الصربية الروسية وسندان التخاذل الأوروبي والدولي، سقط خلالها (الفترة من أبريل 1992 وحتى نوفمبر 1995) ما يقرب من 250 ألف قتيل، اكتشف منهم 16500 جثة فقط في أكثر من 300 قبر جماعي، فيما ظل الأغلب في طي النسيان لا يعرف أحد عنهم شيئًا.
قتل جماعي، اغتصاب للأطفال والنساء، تنكيل وتهجير وتعذيب، هدم للبيوت وتشريد للأسر، تدمير للبنية التحتية وتفتيت لمقومات الحياة، عنصرية فجّة، همجية لم يشهد التاريخ مثلها، تواطؤ دولي وخنوع إقليمي واستسلام محلي.. مرادفات وتعبيرات وصفت بها مجازر الصرب (الذراع العسكرية للروس في يوغسلافيا)، بحق البوسنة والهرسك، لتبقى تلك الجريمة – مهما مر عليها الزمن – وصمة عار تلاحق كل من تورط فيها، بالمشاركة أو الدعم فضلًا عن الصمت وغض الطرف.
حين يتحول الاستقلال إلى جريمة
كانت جمهورية البوسنة والهرسك إحدى الولايات المنضوية تحت لواء جمهورية يوغوسلافيا العظمى التي كانت تضم قبل تفتتها 7 دول كاملة (كرواتيا – صربيا – البوسنة والهرسك – سلوفينيا – الجبل الأسود – مقدونيا – كوسوفو) تحت حكم شيوعي وكانت تعد من أقوى الدول الأوروبية.
خضعت تلك الجمهورية الكبيرة للحكم السوفيتي بداية الأمر، لكن مع أفول نجم الاتحاد وتفككه بداية تسعينيات القرن الماضي، برزت النزعات القومية التحررية في تلك المنطقة الشاسعة من القارة الآسيوية، وعليه تصاعدت الأصوات المطالبة بالتفكك والانفصال عن يوغوسلافيا، وكانت سلوفينيا في مقدمة الدول التي انفصلت سنة 1991، مفسحة بذلك المجال لباقي الدول التي كانت تطالب بنيل استقلالها.
بدأت البوسنة في حذو المسار السلوفيني، وعلى الفور طُرحت فكرة الانفصال في استفتاء عام، ورغم المقاطعة والاعتراض من سياسيين صربيين بوسنيين، فقد أجري بالفعل في 29 من فبراير 1992، لتأتي النتيجة بتأييد كاسح لخطوة الانفصال من الأغلبية، ليتم الإعلان رسميًا عن جمهورية البوسة والهرسك كدولة مستقلة.
بعد أن دخلت القوات الصربية، عزلت الذكور بين 14 و50 عامًا عن النساء والشيوخ والأطفال، ثم تمت تصفية كل الذكور ودفنهم بمقابر جماعية
ويومًا تلو الآخر تزايد الاعتراف الدولي بالجمهورية المنفصلة مؤخرًا، وهو ما أقلق السلطات الصربية التي رأت في ذلك تقويضًا لنفوذها في المنطقة، لتبدأ التحركات العسكرية لقوات صرب البوسنة المدعومة من الحكومة الصربية بقيادة سلوبودان ميلوسيفيتش وميليشيا الجيش الشعبي اليوغسلافي التي كانت بمثابة يد الصرب الضاربة في البوسنة معلنين الحرب على مسلمي البوسنة.
وفي أبريل 1992 بدأت الشرارة الأولى لحرب السنوات الأربعة، تلك الحرب التي تضمنت قصصًا وروايات عدة بشأن الانتهاكات الوحشية التي شهدتها من تطهير عرقي وإبادات جماعية وسفك الدماء بدم بارد واغتصاب النساء وتهجير المدنيين والعديد من المذابح، ربما لا يعرف الكثيرون عنها إلا مذبحة سربرنيتشا.
مجزرة سربرنيتشا
في مارس 1995 أصدر الزعيم الصربي رادوفان كراديتش قرارًا بتطويق البوسنة وحصار شعبها وتجويعه من أجل الضغط على الشعب للخروج من المدينة لإحكام السيطرة عليها بعدما أعلنت استقلالها وبات مسلموها العائق الوحيد أمام الصرب لإعادة تشكيل ما تبقى من الاتحاد اليوغسلافي.
وكانت مدينة سربرنيتشا (شرق) تشكل أحد أهم المناطق التي يوجد بها مسلمو الجمهورية، فضلًا عن كونها على رأس المدن المستهدفة من الصرب وخاصة بعد التغلغل الصربي في شرق البوسنة 1992، ومن ثم لم يجد الصربيون حرجًا في محاولة السيطرة عليها أيًا كانت الخسائر.
وفي الجهة الأخرى أعلنت الأمم المتحدة في أبريل 1993 أن سربرنيتشا منطقة آمنة تحت حمايتها وكان يمثل الأمم المتحدة عناصر للقوات الهولندية التي كان عددها نحو 400 عنصر، وفي مقابل ذلك فرضت الأمم المتحدة على المقاتلين البوسنيين الذين كانوا يحمون المدينة من المد الصربي نزع السلاح وتسليمه.
تجاهل الصرب قرارات الأمم المتحدة وبدأوا في الهجوم على المدينة، وفي يوليو 1995 نجحت القوات الصربية التي كانت تتلقى دعمًا عسكريًا ولوجستيًا من موسكو في الدخول لسربرنيتشا والاستيلاء عليها، لتبدأ معها سلسلة الجرائم والانتهاكات التي وثقتها صفحات التاريخ.
فور دخول الصرب المدينة شنوا عمليات تطهير عرقي ممنهجة ضد المسلمين البوسنيين والمعروفين باسم “البوشنياق”، على مرأى من الفرقة الهولندية التابعة لقوات حفظ السلام الأممية دون أن تفعل أي شيء لإنقاذ المدنيين، راح ضحيتها 8 آلاف مسلم في مجزرة وصفت بالإبادة الجماعية.
يذكر أنه وبعد أن دخلت القوات الصربية، عزلت الذكور بين 14 و50 عامًا عن النساء والشيوخ والأطفال، ثم تمت تصفية كل الذكور ودفنهم بمقابر جماعية، كما تمت عمليات اغتصاب ممنهجة ضد النساء المسلمات، وكان يلقى بهم في مقابر جماعية، بعضهن كن على قد الحياة.
خلال السنوات الأربعة سقط أكثر من 250.000 قتيل ومليوني لاجئ، أي نصف السكان تقريبًا، بجانب حالات الاغتصاب بين الأطفال وصغار السن، فيما نفذ الصرب 26 مذبحة ضد مسلمي البوسنة
حروب إبادة
من مشاهد التعذيب التي سجلتها تلك الحرب ما سجلته روايات وشهادات البعض، منها ما كانت تقوم به ﺍﻷﻡ البوسنية من توسل للجندي الصربي، ﺗﺮﺟﻮﻩ ﺃﻻ ﻳﺬﺑﺢ ﻓﻠﺬﺓ ﻛﺒﺪﻫﺎ، فيقطع يدها ثم ﻳﺠﺰ ﺭﻗﺒﺘﻪ ﺃﻣﺎﻡ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ، كذلك ﻛﺎﻥ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﻳﺘﻮﺳﻞون ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺼﺮﺑﻲ ﺃﻥ ﻳﺠﻬﺰ ﻋﻠﻴﻪم ﻣﻦ ﺷﺪﺓ ﻣﺎ ﻳﻠﻘون ﻣﻦ أﻟﻢ.
ومنها كذلك، أن ﺍﻟﺼﺮﺏ كانوا ﻳﻐﺘﺼﺒﻮﻥ المرأة البوسنية ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺔ، ﻭﻳﺤﺒﺴﻮﻧﻬﺎ 9 ﺃﺷﻬﺮ ﺣﺘﻰ ﺗﻀﻊ ﺣﻤﻠﻬﺎ، ﻟﻤﺎﺫﺍ؟ ﻗﺎﻝ ﺻﺮﺑﻲ ﻟﺼﺤﻴﻔﺔ ﻏﺮﺑﻴﺔ “ﻧﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﺗﻠﺪ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﺎﺕ ﺃﻃﻔﺎﻻً ﺻﺮﺑﻴﻴﻦ”!!، ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻨﺴﺎﺀ فقُتل بعضهن ﺣﺮﻗًﺎ، ﻭﺷﺮﺩت ﺃﺧﺮﻳﺎﺕ ﻓﻲ ﺍﻵﻓﺎﻕ، بحسب ما نقلت بعض المصادر عن مجلة نيوزويك.
وخلال سنوات الحرب نزح أكثر من مليوني شخص، وما بين 12 و50 ألف امرأة تعرضن للاغتصاب، وهي التهم التي وجهت للمجرم الصربي كارادزيتش الذي ظل يدافع عن حصار البوسنة، هذا الحصار الذي أودى بحياة أكثر من 14 ألف شخص، فضلًا عن تهديده للمسلمين هناك بالإبادة إذا استمرّوا في مطالباتهم بالاستقلال عن يوغسلافيا حين قال: “لا تظنوا أنكم بهذا لن تقودوا البوسنة والهرسك إلى الجحيم والشعب المسلم ربما للفناء”.
كما دمروا أكثر من 800 مسجد في مدن وقرى البوسنة والهرسك وحرقوا أكثر من مليون ونصف كتاب ومخطوطة، بينما كانوا يتخيرون ﻟﻠﻘﺘﻞ ﻋﻠﻤﺎﺀ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻭﺃﺋﻤﺔ ﺍﻟﻤﺴﺎﺟﺪ ﻭﺍﻟﻤﺜﻘﻔﻴﻦ ﻭﺭﺟﺎﻝ ﺍﻷﻋﻤﺎﻝ، فكانوا ﻳﻘﻴﺪﻭﻧﻬﻢ ﺛﻢ ﻳﺬﺑﺤﻮﻧﻬﻢ ﻭﻳﺮﻣﻮﻧﻬﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻬﺮ، إلى الحد الذي تحولت فيه مياه النهر للون الأحمر من الدماء.
ورغم تباين الإحصاءات بشأن ضحايا تلك الحرب، ذهب البعض إلى أنه خلال السنوات الأربعة سقط أكثر من 250.000 قتيل، ومليوني لاجئ، أي نصف السكان تقريبًا، بجانب حالات الاغتصاب بين الأطفال وصغار السن، فيما نفذ الصرب 26 مذبحة ضد مسلمي البوسنة، لا يعرف عنها إلا سربرنيتشا التي خلفت 12 ألف قتيل بحسب بعض المصادر مقارنة بما ذكره البعض قبل ذلك بأن العدد 8 آلاف فقط.
في الذكرى العاشرة لتلك المجازر في 2005، أشار الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، كوفي عنان، إلى أن اللوم يقع بالدرجة الأولى على أولئك الذين خططوا ونفذوا المذبحة والذين ساعدوهم، ولكنه يقع أيضًا على الدول الكبرى والأمم المتحدة كون الاولى فشلت في اتخاذ إجراءات كافية، والثانية – أي الأمم المتحدة – ارتكبت أخطاءً جسيمةً قبل وفي أثناء وقوع المجزرة، لافتًا إلى أن مأساة سربرنيتشا ستبقى “نقطة سوداء في تاريخ الأمم المتحدة إلى الأبد”، وفي فبراير 2007 وصفت محكمة العدل الدولية ما جرى في تلك المذبحة بأنه كان إبادة جماعية.
يذكر أن مسلمي البوسنة تعرضوا لمجازر عدة غير سربرنيتشا التي سلط الإعلام الضوء عليها، سقط فيها عشرات الآلاف، منها مذبحة الحرب النمساوية (1683-1699)، ثم مجزرة 1711 التي قتل فيها ألف مسلم في السنجق والجبل الأسود، تليها مذبحة (1804-1867) عندما أعلن صرب البوسنة دولة مسيحية هناك، أعقبها مذبحة أخرى عام (1876-1878) عندما استولي الصرب على كوسوفا والسنجق والجبل الأسود بجانب المجزرة الكبرى في المدة (1914-1945) مع بداية يوغسلافيا الموحدة التي راح ضحيتها 5 آلاف مسلم ، وانتهاءً بقتل 103 آلاف من المسلمين في الحرب العالمية الثانية (1941 -1945).
روسيا.. كلمة السر
ما كان للصرب أن ينفذوا تلك المذابح بحق المسلمين دون دعم روسي في المقام الأول، إضافة إلى انحياز بعض القوى الدولية للطرف الصربي على حساب نظيره البوسني، وهو ما أكده رئيس مجلس الرئاسة السابق في البوسنة والهرسك الدكتور حارث سيلاذيتش الذي قال إن الصرب الذين كانوا يحاصرون المدن البوسنية في أثناء فترة الحرب (1992-1995) ويرتكبون المجازر بحق السكان المسلمين، كانوا يحظون بدعم القوة الروسية عسكريًا ومعنويًا.
وأضاف سيلاذيتش في شهادته لبرنامج “شاهد على العصر” المذاع على قناة “الجزيرة” في 26/12/2015 أن المجازر كانت تجرى في البوسنة تحت سمع وبصر الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، وقال إن الصرب كانوا يتلقون الدعم من القوى الكبرى مثل فرنسا وبريطانيا إضافة إلى روسيا، وفي المقابل كانت البوسنة دون أصدقاء كثر “نحن كنا نبني دولة من لا شيء”.
في 8 من يوليو 2015، استخدمت روسيا حق الفيتو ضد قرار لمجلس الأمن يصف مذبحة سربرنيتسا بالإبادة الجماعية
رئيس مجلس الرئاسة السابق في البوسنة والهرسك اعتبر أن المجتمع الدولي ارتكب أخطاءً على عدة مستويات، أولها أنه ساوى بين الضحية والجلاد (البوسنة والصرب)، وثانيًا أنهم قتلوا نموذج البوسنة الذي كان يمثل التعددية العرقية والتسامح، وذلك بسبب عداء بعض القوى الدولية للمسلمين، ولأن البوسنة لم تمتلك لا مناجم ذهب ولا مناجم نفط، أي أنها لم تكن مهمة لهم.
كان صناع القرار في الصرب يسعون للتخلص من المسلمين، (هو التوجه الذي كان غالبًا على الإستراتيجية الروسية في هذا الوقت)، ورأوا أن فترة الحرب كانت مواتية لهم لتحقيق هدفهم، وكانت لديهم إستراتيجية عسكرية وسياسية تقضي بالجمع بين الحرب والتفاوض في وقت واحد، ولذلك لم يحترموا قرار وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه، بحسب القيادي البوسني.
ومما يعزز الدور الروسي المحوري في مجازر البوسنة دفاع موسكو المستميت عن الصرب وزعيمهم رادوفان كارادزيتش الملقب بـ”سفاح البوسنة”، وهو ما تترجمه مواقفها الأممية، فضلًا عن الميدانية العسكرية، ففي 8 من يوليو 2015، استخدمت روسيا حق الفيتو ضد قرار لمجلس الأمن يصف مذبحة سربرنيتسا بالإبادة الجماعية.
وهكذا واصل الروس سجلهم الإجرامي المشين بحق المسلمين في مختلف البلدان، فمن يفلت من الاعتداء المباشر يقع أسير الدعم المطلق، العسكري والمعنوي، للأنظمة الديكتاتورية التي تستهدف الشعوب المسلمة، ورغم مرور 25 عامًا على مذابح البوسنة، تلك التي تعتبر أكبر مجزرة عرفتها الأراضي الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، تبقى دماء الأبرياء لعنات تطارد التاريخ الروسي مهما حاول طمس بعض صفحاته أو تجميل صورته لدى ضحاياه القدامى.