لاعب جودو بحزام أسود أعاد فك وتركيب الدولة الروسية المتهالكة في مرحلة ما بعد أفول الاتحاد السوفيتي، على نحو يلائم سعيه إلى حكم قوي ومديد، يترافق مع طموحاته السياسية وإرث بلاده التاريخي، من خلال الالتفاف على بعض الشروط الدستورية تفرّد بصولجان الكرملين وإلى أمد يستعصي تقديره حتى على الراسخين في علم إدمان السلطة وشهوتها، همّش المعارضة الداخلية واجتاح الشيشان وغزا جيرانه الجورجيين والأوكرانيين، وأرسل طائراته إلى ما وراء المياه الدافئة لينقذ ديكتاتورًا من السقوط، بهذه الطريقة – وبصورة القيصر – قدّم الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” نفسه للعالم.
أما السلطان، فقد بدأ حياته كلاعب كرة قدم، وتولى فيما بعد منصب عمدة إسطنبول، ينتمي إلى حزب ذي لون إسلامي معتدل، حملته صناديق الاقتراع إلى حكم تركيا بعد نحو ثمانين سنة من علمنتها على يد كمال أتاتورك، استحدث تغييرات جذرية على خريطة مراكز القوى داخل الدولة، وجعل دائرة النفوذ السياسي من نصيب حزبه في البلاد.
لم تتراجع تركيا في عهده عن طرق أبواب جيرانها والاتحاد الأوروبي والشرق العربي، معتدّةً بنهوض اقتصادي كبير وبتجربة ديمقراطية شفافة فضلًا عن عضويتها في حلف شمال الأطلسي، ومدّ جسور الدولة نحو الجوار الإقليمي، هكذا عبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن سلطنته في حكم تركيا أمام العالم.
لا ذاك بقيصر في اللقب الرسمي ولا هذا بسلطان، ولكن الإرث التاريخي الذي حملته إمبراطوريتان كبيرتان لعقود من الزمن يوحي إليهما – ولمن طرق باب تاريخهما الغابر – بإرثٍ موحٍ بالألقاب التاريخية، وبلغات الدم والحروب والمنافسة الشديدة والصراعات الجيوسياسية، لإحياء المكانة والنفوذ.
تاريخ جفاء وصفاء حافل بالحروب والمواجهات المستمرة، تقابلها أحلام وأمجاد ترسم على طريق العودة، وتتقاطع اثنتاهما مع مجموعة من المصالح المشتركة والتعاون المتبادل، ماذا تعرف عن الحقب التاريخية المشتركة للإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية؟
روسيا وتركيا.. تاريخ حافل بالجفاء والصفاء
ثلاث حقب تاريخية لروسيا شهدت جميعها مواجهات قوية ومنافسات شديدة مع تركيا التي كانت لأربعة قرون من الزمن كبرى الإمبراطوريات في العالم تحت اسم “الدولة العثمانية”، ومن جهة أخرى عايش الطرفان أيضًا موجات من خفض حدة التوتر والصراع بينهما وإقامة اتفاقات ومعاهدات تضن أمان مصالحهما.
الحقبة الأولى.. “الإمبراطورية الروسية“
ربما كانت هذه الفترة بحسب التاريخ المروي الأكثر دموية بين الطرفين الروسي والتركي، إذ إنها شهدت عشرات الحروب والمواجهات التي غيرت خريطة النفوذ والمكانة لكلا الطرفين.
-
اندلعت أول الحروب بينهما عام 1570 المعروفة بـ”حرب مدينة أستراهان” استولت فيها قوات القيصرية الروسية على المدينة التي كانت تابعة لولاية القرم التابعة للدولة العثمانية وقتها.
-
الحرب الثانية وقعت بين عامي 1571 – 1574 وتعرف بـ”حريق موسكو” وقد قامت بها جيوش ولاية القرم مدعومة بالقوات العثمانية، أدت هذه الحرب لاحتراق معظم العاصمة الروسية.
-
الحرب الثالثة اندلعت بين عامي 1676 – 1681 وكانت مواجهة قوية مباشرة بين القيصرية الروسية والدولة العثمانية، انتصرت فيها الأخيرة بالهيمنة على أوكرانيا وبسط النفوذ على مدينة “شيهرين” ذات الموقع الإستراتيجي على نهر الدنيبر.
-
انطلاقًا من ذات العام السابق نشبت “حرب موسكوفا” التي سعت من خلالها القيصرية الروسية لبسط سيطرتها على أوكرانيا ورومانيا.
-
بعد حرب موسكوفا وفي عام 1683 نشبت “حرب فيينا” العاصمة النمساوية، حينما كان العثمانيون يقفون على أعتابها، انضمت آنذاك روسيا للحلف الأوروبي للدفاع عن فيينا وتراجع العثمانيون لمنطقة البلقان وسط أوروبا على إثرها.
-
عام 1696 اندلعت “حرب مدينة آزوف” المشاطئة لبحر آزوف المتفرع عن البحر الأسود، وقد نجح الروس في الاستيلاء عليها، وفي عام 1711 استعاد العثمانيون المدينة وردوا الروس على أعقابهم.
-
ما بين 1735 – 1739 اشتعلت “حرب البلقان” الشهيرة، تواجهت فيها الجيوش العثمانية مع الجيوش الروسية والنمساوية، وانتهت هذه الحرب بما يعرف تاريخيًا “صلح بلغراد”.
-
في عام 1827 اندلعت “حرب اليونان” بين تركيا وروسيا، وقد شارك الأسطول الإنجليزي بالحرب على العثمانيين إلى جانب الروس، انتهت هذه الحرب باستقلال اليونان وتوقيع اتفاقية “أدرنة” عام 1829 التي تتيح استخدام السفن التجارية الروسية للمياه العثمانية.
الحقبة الثانية.. “الاتحاد السوفيتي“
تشهد هذه الفترة بداية حسن الجوار بين الروس والأتراك، ما بعد الثورة البلشفية في روسيا واستلام لينين الحكم ووصول مصطفى كمال أتاتورك للحكم في بلاده أيضًا، فقد كانت هذه الفترة التي يمكن القول إنها بدأت عام 1917 واستمرت حتى انهيار الاتحاد السوفيتي، فترة معاهدات واتفاقات بين الطرفين بعد أن عانى كلاهما لعقود كانت مليئة بالحروب والمعارك استنزفت الكثير من الجهد والحلم.
عام 1945 طالبت روسيا بضم ولايتي قارص وآرداهان الواقعتين شمال شرق الأناضول، وطالب الروس بتعديل الحدود التركية على الجانب الأوروبي، وسبق هذه الفترة اضطرابات واسعة بين الطرفين بسبب عدم تجديد توقيع روسيا لاتفاقية الحياد وعدم الاعتداء السوفيتية – التركية.
في تلك الفترة كانت تركيا تخشى من الاعتداء السوفيتي على مناطق نفوذها، ولم تكن في حال يسمح لها بالمواجهة العسكرية مع أي طرف، مما دفع تركيا للاستفادة من المشروع الذي قدمه الرئيس الأمريكي ترومان عن طريق مساعدات اقتصادية وعسكرية لتركيا واليونان.
بعد التدخل العسكري التركي في قبرص لم يرم الاتحاد السوفيي بثقل عسكري نحو الأزمة الحاصلة لكي لا يعيد ترتيب الأوراق المبعثرة بين الغرب وتركيا من جديد
عام 1949 انضمت تركيا إلى “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD” ضمن المجلس الأوروبي. بعد هذا التطور وفي عام 1950 أصدرت الحكومة التركية بيانًا يقتضي رفضها للمطالب السوفيتية المتعلقة بمشاركة الأخيرة لتركيا في المضائق.
في عام 1952 وبعد أن أقامت تركيا علاقات وثيقة جدًا مع الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت عضوًا في منظمة حلف شمال الأطلسي NATO بحكم التطابق الكبير بين المصالح الأمنية التركية والأمريكية، إذ كان يجمعهما هدف مشترك يتمثل بردع التهديد السوفيتي وسياسات الاحتواء التي يهدف إليها التوسع السوفيتي.
عام 1963 خلال الأزمة القبرصية بين تركيا واليونان وتصريح حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة الأمريكية بعدم الوقوف إلى جانب تركيا إذا تدخل الاتحاد السوفيتي، استغل الأخير هذا الموقف وعبّر عن ترحيبه بالمطالب التركية وأحقية القبارصة الأتراك بالولاية التركية لقبرص.
في العام التالي كانت أول زيارة بعد انقطاع طويل من تركيا لموسكو عن طريق وزير الخارجية، وفي عام 1972 وقع الطرفان وثيقة تنص على مبادئ حسن الجوار.
عام 1974 وبعد التدخل العسكري التركي في قبرص لم يرم الاتحاد السوفيتي بثقل عسكري نحو الأزمة الحاصلة لكي لا يعيد ترتيب الأوراق المبعثرة بين الغرب وتركيا من جديد، في محالة منه لاستمالة تركيا إلى صفوف الاتحاد.
وفي عام 1978 تم توقيع اتفاقية كان قد أرساها فيما سبق لينين وأتاتورك، أكدت إحياء علاقات حسن الجوار والصداقة والثقة المتبادلة ووحدة الأراضي، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والأمن المتبادل، وامتناع الطرفين عن اللجوء إلى التهديد أو استخدام القوة، وغيرها من البنود.
الحقبة الثالثة.. “القيصر والسلطان”
بعد وصول فلاديمير بوتين لسدة الحكم في روسيا قبل 20 عامًا من اليوم، ووصول رجب طيب أردوغان للحكم في بلاده عام 2003، تزامن انطلاق مشروع الرئيس الروسي بوتين عام 2000 لاستعادة قوة روسيا الاقتصادية ونفوذها الخارجي، مع مشروع حزب العدالة والتنمية عام 2002 لإحياء المكانة الإقليمية والدولية لتركيا.
من هذا المنطلق شكّل مطلع القرن الواحد والعشرين انطلاقةً فارقةً للدولتين معًا على صعيد النهوض السياسي والاقتصادي.
-
روسيا
خرجت روسيا من فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي في شكل جديد، ومع أنها فقدت السيطرة على الكثير من الأراضي والموارد، إلا أنها حافظت إلى حد كبير على استقلالها الخارجي ونفوذها في محيطها الإقليمي المباشر، وتأثيرها في أجزاء من الشرق الأوسط، كما احتفظت بمكانة دولية مؤثرة بفضل مقعدها الدائم في مجلس الأمن وقوتها النووية التي تعد إحدى ركائز التوازن الإستراتيجي العالمي.
وأيقنت أن استعادة مكانتها الدولية تتطلب أبعد من الحفاظ على الوضع القائم، وخلصت روسيا إلى أنه في حين تم استبعاد التنافس الأيديولوجي الذي ساد في الحرب الباردة، فإن الصراع لتحقيق أهداف جيوبوليتيكة لا يزال قائمًا، من هنا أعادت نسج تحالفات مع دول إقليمية مثل الصين والهند وعقد شراكات إستراتيجية معهما، وأعادت تشكيل روابط مع محيطها الحيوي كتأسيسها للاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وفي هذا السياق، تعتبر تركيا بمكانتها الاقتصادية المميزة ودورها السياسي الفاعل وموقعها كمدخل للغرب والشرق الأوسط، هدفًا مهمًّا لتوسيع نفوذ روسيا الخارجي وتفعيل مكانتها الدولية.
-
تركيا
تشترك تركيا مع روسيا في تطلعها لإحياء مكانتها الإقليمية والدولية التي تليق بإرثها التاريخي العثماني، وموقعها الجغرافي وإمكاناتها الإستراتيجية الكامنة، إذ ترى أنها كانت ولا تزال دولة مركزية فاعلة، ويقول بذلك رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو: “الدول المركز مثل تركيا التي تحتل موقعًا مركزيًا في القارة الأم، لا تقبل أن تظل منحصرة في منطقة بعينها وتعرف بها، بل لديها القدرة على النفاذ إلى مناطق أخرى متعددة في آن واحد”.
من هنا الوضع الجيوبوليتيكي لتركيا أداة للانفتاح على العالم وتحويل التأثير الإقليمي إلى تأثير دولي بما يسمح لتركيا صنع سياسات دولية، ولذلك تعمل من أجل إحياء مكانتها على الحضور السياسي والاقتصادي في العديد من المناطق في الشرق والغرب، وعقد شراكات مع قوى إقليمية ودولية كبرى، ومنها خصمها التاريخي روسيا.
تلك كانت إستراتيجية القيصر والسلطان الجديدة لبلادهما التي رسمت طرق التعاون المتبادل والتفاهمات الدولية والإقليمية نوعًا معًا، في محاولة كل منهما لإحياء المكانة والنفوذ واسترجاع الإرث التاريخي الذي بات غابرًا في الزمان.
المصالح المشتركة ودوافع تطوير العلاقات
تأسس بين البلدين في عام 2012 “مجلس التعاون الإستراتيجي رفيع المستوى”، وفي عام 2014 عقدت قمة روسية – تركية في أنقرة كرّست الشراكة بين البلدين في مجالات إستراتيجية عديدة، كشفت من خلالها الدوافع الحقيقية وراء تحالف وتعاون الطرفين بعد عداء طويل.
تسعى روسيا من خلال تحالفها وشراكتها مع تركيا إلى:
-
مواجهة المخاطر الاقتصادية: إثر مرور الاقتصاد الروسي بفترة صعبة بفعل العقوبات الغربية الصارمة بعد أزمة أوكرانيا، وفاقم مشكلاتها انخفاض أسعار النفط بوصفها أكبر المنتجين في العالم، وفي ظل هذه الظروف تتطلع روسيا إلى تركيا كشريك اقتصادي قد يساهم في إعادة التوازن للاقتصاد الروسي.
-
محاولة استقطاب تركيا وتحييدها: تسعى روسيا بكامل سياستها لتحييد تركيا عن السياسات الغربية المتعلقة بروسيا مثل العقوبات أو أي سياسة احتواء “بوصف تركيا حليفًا تقليديًا للغرب”، وسعى بوتين للتأكيد على ذلك عبر إشادته مرارًا باستقلالية تركيا عن الغرب وتوقيعها اتفاقيات إستراتيجية مع روسيا. وتسعى روسيا لخلق تباينات بين تركيا وأوروبا عبر إظهار تركيا مستفيدة من الخسائر الأوروبية المتعلقة بآثار العقوبات على روسيا تارة، ومحاولة ربط أوروبا بالغاز الروسي عبر تركيا فقط وليس أوكرانيا تارة أخرى.
-
التأثير في سياسات تركيا الإقليمية: تعد الثورة السورية أكبر مثال يوضح تأثير روسيا على السياسات الخارجية لتركيا، وربما شوهد ذلك في موقف تركيا من أزمة أوكرانيا، وتجاهلها هيمنة روسيا على البحر الأسود – بعد ضم شبه جزيرة القرم -، وتمضي بجانب تركيا في تطوير العلاقات الثنائية.
أما تركيا فتسعى من خلال التحالف والشراكة مع روسيا إلى:
-
تصحيح الخلل في التوازن الإقليمي: إذ إنها تعول على شراكتها مع روسيا لإحداث تحول إستراتيجي في مكانتها بعد أن اختل توازن القوى الإقليمي لمصلحة إيران و”إسرائيل” في المنطقة.
وتعد روسيا بالنسبة لتركيا مصدر مهم ومتاح لتمكينها من تسريع بناء مشاريع الطاقة النووية والأقمار الصناعية.
-
مركز إقليمي للطاقة: تطمح تركيا لتكون المركز الإقليمي الرئيس لنقل النفط والغاز الطبيعي من الدول النفطية الأساسية في الشرق إلى أوروبا، فبعد العديد من الاتفاقيات التي عقدتها تركيا مع أذربيجان والحكومة العراقية وإقليم كردستان العراق، حصلت تركيا على صفقة روسية ضخمة تصبح بموجبها الناقل الوحيد للغاز الروسي إلى أوروبا.
-
المكانة الاقتصادية العالمية: في ظل التقدم والازدهار الذي حققه حزب العدالة والتنمية العقد الأخير في تركيا من رفع مكانتها الاقتصادية بين دول العالم وطموحه لتكون تركيا ضمن أقوى عشر اقتصادات عالمية في 2023 فإن روسيا بما تستطيع تقديمه ومنحه لتركيا يعد اليوم السبيل الأمثل والوحيد لتحقيق الطموح التركي.
-
تعزيز الأهمية الغربية لتركيا: في ظل حرمان تركيا من منحها العضوية ضمن الاتحاد الأوروبي، لذلك تسعى من خلال شراكتها مع روسيا لتعزيز فرص التفاوض والقبول من الجانب الأوروبي – الغربي.
يوضح المشهد حاجة كل طرف لنظيره في ظل معاداة الغرب والولايات المتحدة الأمريكية لروسيا والخوف من بسط نفوذها الإقليمي من جديد الذي سيثير مخاوف أوروبا القديمة، وفرض الأخيرة مع أمريكا عقوبات صارمة على روسيا، والطموح الذي ولد مع ولادة القيصرية الروسية “الوصول للمياه الدافئة”، وفي ظل استياء تركيا من عدّها الرجل المريض الذي يمكن أن يستباح في أي وقت، وفرض الاتحاد الأوروبي العديد من القيود على تحركاتها في المنطقة، والحلم الذي يريد أن يرى النور من جديد “الدولة العثمانية”.
الشرق الأوسط وسوريا.. قلق وتوتر شديد
رغم جميع مواطن الخلاف والتنافس بين روسيا وتركيا، من القوقاز لأوكرانيا لشبه جزيرة القرم، ومن الحدود التي تباعدت بين الدولتين إلى البحر الأسود، فإن الشرق الأوسط يعد الساحة الملتهبة للخلافات الروسية – التركية.
إن الوزن الجيوستراتيجي للشرق الأوسط فرض على الطرفين التركي والروسي وضع هذه المنطقة الحيوية على سلم أولوياتهم، لا بسبب مساحته وتعداد سكانه ووفرة خيراته فحسب، بل لأن أي نظام عالمي لا يتشكل بعيدًا عنه، ولما يمثله من قلب للعالم، إذ إنه يعد مفتاح التوازنات الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية في العالم، فروسيا وفقًا لإرساء مكانتها ودورها كقوة عظمى خارج مجالها الحيوي وإرادتها بلعب دور القطب المنافس لأمريكا، ومشاركتها مع القوى الفاعلية الدولية في الشرق الأوسط (أمريكا والصين والاتحاد الأوروبي)، ولأن أكثر من نصف تجارة روسيا الخارجية تمر عبر البحرين المتوسط والأسود، ولاعتبارات أخرى هذه أهمها، لا تبتعد عن منطقة الشرق الأوسط مهما كلفها من ثمن – وثقلها العسكري في سوريا هو الدليل الأكبر – ولطالما شكل الشرق الأوسط نزاعًا عقيمًا بالنسبة للطرف الروسي.
تنظر تركيا لروسيا كمورّد مهم للغاز الطبيعي لأن ثلثي احتياجات تركيا مستوردة من روسيا مما يشكل ورقة ضغط تجاه السياسات الخارجية لتركيا
وبالنسبة لتركيا فإن الجزء الشمالي الشرقي من الشرق الأوسط يشكل مجالًا اقتصاديًا مهمًا وتهديدًا أمنيًا خطيرًا في الوقت نفسه – بسبب تداعيات القضية الكردية وبروز الجماعات الراديكالية والصراعات الإقليمية – ويتعلق الشرق الأوسط بطموح الدولة التركية بالتحول إلى قوة دولية مؤثرة بحلول 2023 – وهي الذكرى المئوية لاستقلال تركيا – وفاعل رئيس ومؤثر في خريطة الشرق الأوسط – التي قد تتزعمها من جديد – بحسب توقعات العديد من الباحثين عن القرن الواحد والعشرين ومستقبل المنطقة.
ترى روسيا أن تراجع تركيا عن منهج “تصفير المشكلات” مع الجوار بعد الربيع العربي قد يضر بمصالحها الاقتصادية ورؤاها الجيوسياسية، من خلال دعم تركيا لتغيير الأنظمة في المنطقة، ومما يثير مخاوف روسيا تجاه تركيا هو علاقات الأخيرة مع أطراف ثالثة في المنطقة، مثل التعاون التركي القطري لدعم المعارضة السورية، وبحكم دعم تركيا للمعارضة السورية وتبنيها إسقاط نظام بشار الأسد وقربها الجغرافي وعلاقتها التاريخية مع سوريا، فإن لتركيا دور كبير وفعال في رسم مستقبل سوريا ما بعد الأسد.
كل ذلك يثير قلق روسيا ومخاوفها ويعد بمثابة تهديد للمصالح والرؤى الروسية ويجعل خططها الجيوسياسية في مهب الخطر والزوال.
بينما تنظر تركيا لروسيا كمورد مهم للغاز الطبيعي – ثلثا احتياجات تركيا مستوردة من روسيا – مما يشكل ورقة ضغط تجاه السياسات الخارجية لتركيا المتعلقة بمصالح ونفوذ الروس، وحضور روسيا القوي في آسيا الوسطى والقوقاز المرتبط بالمجال الروسي ثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا يؤهل الأخير لممارسة ضغط جيوسياسي على تركيا والحد من طموحاتها السياسية في هذه المنطقة، وباعتبار تطابق المصالح الإيرانية والروسية في المنطقة في العديد من القضايا الإقليمية الساخنة – سوريا والعراق – فهذا يضعف دور تركيا الإقليمي وفاعليتها في المنطقة.
سوريا.. المعادلة الصعبة
حافظت روسيا منذ عقود وإلى اليوم على تحالفها مع النظام السوري من خلال تزويده بمساعدات مالية وعسكرية، ووقفت بكامل ثقلها العسكري والسياسي خلف نظام الأسد في الفترة الراهنة من الثورة السورية، بالنسبة لروسيا إن نظام الأسد هو حليفها الأساسي في المنطقة وسقوطه يعد خسارة كبيرة لها، لا سيما مع وجود قاعدتها البحرية في ميناء طرطوس على البحر المتوسط، وتعارض روسيا أي تدخل خارجي ضد النظام في سوريا، وترى أن تغيير النظام من الخارج يعد زعزعة للاستقرار في المنطقة.
وترى روسيا أن أي تدخل عسكري في سوريا يجب أن يكون عبر موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أي من خلال موافقتها نفسها على ذلك.
وبالنسبة لتركيا، فإن بقاء النظام السوري يعني خسارة كبيرة لنفوذ تركيا في سوريا والمنطقة، ويعني بالوقت نفسه تكريس النفوذ الروسي في الجوار التركي في المتوسط بعد أن تكرس في الشمال التركي والبحر الأسود بعد ضم شبه جزيرة القرم.
لذلك، تعد الثورة السورية وفق الحسابات الراهنة وبالنسبة للطرفين، ذات محصلة صفرية وحرجة، إذ إن ميل الكفة لصالح طرف دون آخر أو الدخول في مواجهة مباشرة، يؤثر إستراتيجيًا في مصير نفوذهما في المنطقة، ومصالحهما الاقتصادية على المستوى الداخلي، والسياسية في المناطق الحيوية المختلف عليها.
بعد أكثر من ثلاثة قرون من الحروب والمواجهات والعداء المستمر، أرسى بوتين وأردوغان مبادئ توطيد العلاقات الطيبة بينهما، ومدوا جسور التواصل والتعاون بين البلدين من خلال رعاية كل منهما لمصالح الآخر وتقديم الدعم الداخلي والخارجي، ولا يخفى أن كل طرف ينظر للطرف الآخر كضامن لتحقيق المصالح والمكاسب، وزعزعة هذه الأحكام والصلات بين الطرفين لا يمكن التنبؤ بنتائجها وفق المعطيات الحاليّة.
لا يمكن أن نرى الروسي قيصرًا ولا التركي سلطانًا، من خلال التنازلات المستمرة التي تقدم من كل طرف للآخر
يرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه قيصرًا لإمبراطورية لم تعد موجودة منذ عقود، ولكن حلم الوصول للمياه الدافئة لا ينفك يراود كل سياسيات وممارسات روسيا في المنطقة، فيما يرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه سليل السلطنة العثمانية ومعيد أمجاد امبراطورية آل عثمان.
يحاول كل من القيصر والسلطان خلال فترة حكمهما التوضيح للعالم أن ما يوحده الاقتصاد لا يمكن للسياسة أن تهدمه، ولكن حدة الخطابات، وبالآونة الأخيرة الممارسات، من كلا الطرفين في الملف السوري أشارت لتهديد مباشر وصريح بنسف جهود عقود من الزمن.
ربما يظهر عيانًا للجميع أن تأكيد الطرفين على أن ما يوحده الاقتصاد لا تهدمه السياسية من خلال التفاهمات والتعاون المتبادل في أكثر الأوقات حرجًا، لا يمكن تغييره بعد اليوم، وهو كما يشير الواقع لا يمكن تغييره في جميع القضايا المشتركة بين روسيا وتركيا في القوقاز مثلًا، وشبه جزيرة القرم، والهيمنة الكاملة على البحر الأسود، فتركيا تجاهلت الخطر المحدق بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية من توسع النفوذ الروسي، ولكنها لم تتجاهل مسألة التمدد الروسي في سوريا على حساب دعمها لقوات المعارضة السورية، ولا تزال تركيا قادرة على خلط أوراق اللعب الدولية والإقليمية في الملف السوري، فهي كما تظهر ليست أحادية القطب والجانب، كما روسيا.
لا يمكن أن نرى الروسي قيصرًا ولا التركي سلطانًا، من خلال التنازلات المستمرة التي تقدم من كل طرف للآخر أو من خلال مجموع التفاهمات الحاصلة بين الدولتين في مختلف النواحي، فكلاهما أشار وما زال يشير للسوط الذي يمكن أن يضرب به في حال المساس بالعمق الإستراتيجي لطموح الدولة.
والملف السوري كفيل – ولو طال به الأمد – ببروز قوى إقليمية جديدة للفاعلين الروسي أو التركي في المنطقة، وما يلوح به الإرث التاريخي لا يمكن للاقتصاد ولا للسياسة أن توحده أبدًا.
فهل سيحمل القيصر الصولجان أولًا أم يسبق السلطان في رفع عمامته؟