“في لحظةٍ يجب على الجميع فيها أن ينسوا خلافاتهم وأن يتضامنوا أمام وباء لا يفرق بينهم، وفي ضوء خطورته الشديدة على كبار السن والمرضى وأهمية العزلة الاجتماعية لمنع انتشاره، ستكون خطوةً إنسانية فارقة إذا تم الإفراج عن سجناء الرأي والمحبوسين احتياطيًا وغيرهم ممن تستدعي حالاتهم كذلك”.
بهذه التغريدة القصيرة التي دونها أمس الثلاثاء على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، لفت محمد البرادعي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأسبق ونائب الرئيس المصري السابق عدلي منصور، الرأي العام العالمي، إلى إحدى أبرز المشكلات السياسية والإنسانية التي خلفها فيروس “كورونا” الجديد في مصر، وهي مشكلة المعتقلين.. كيف بدأت القصة؟
من طهران إلى القاهرة
بدأت مخاوف قطاعات كبيرة من الشعب المصري بشأن ملف سلامة المعتقلين السياسيين في السجون المصرية من تبعات فيروس كورونا تتبلور بوضوح، مع شروع السلطات الإيرانية في إطلاق سراح آلاف السجناء، خوفًا من تفشي الفيروس داخل هذه المجالات الحيوية التي يفترض أنها شديدةُ الإحكام والانضباط.
وقد شرع النظام الإيراني، بدوره، يطرح فكرة الإفراج عن أكثر من سبعين ألف سجين منذ مطلع مارس/آذار الحاليّ، بعد أن بات فيروس كورونا المستجد خطرًا وجوديًا يهدد حياة الأمة الإيرانية، ويصيب كبار زعمائها السياسيين والروحيين، مُتسببًا في أكثر من سبعين ألف إصابة وألفي حالة وفاة، بخلاف ما لم تعلنه السلطات على الجماهير وما لم تتمكن من رصده بسبب طبيعة المرض غير المرئية.
وبحسب كثيرٍ من النشطاء المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن إيران قد تشترك مع مصر في سمة رئيسية قد تدفع الأخيرة إلى القبول بالتخفيف عن المعتقلين عبر بعض قرارات العفو الرئاسي كما حدث أكثر من مرة قبل ذلك، وهي أن نظامي الحكم في البلدين يمسكان بالمجتمع بقبضة من حديد، وبالتالي فإنه سيكون من السهل على السلطات إعادة القبض على المفرج عليهم بعد انتهاء الأزمة، فيما سيحظى المطلق سراحهم بفرص أفضل في الحياة والنجاة من خطر الفيروس.
وسوف يتجنب النظام تعريض رجاله من القوى الأمنية إلى خطر الاختلاط ببؤر الإصابة المحتملة في السجون خلال التعاملات اليومية، كما سيمنح نفسه مكسبًا أخلاقيًا ومساحة مناورة تساعده على التعامل مع الانتقادات الخارجية التي تطال هذا الملف مستقبلًا.
استبعد كثيرٌ من المتشائمين أن ينصاع النظام في مصر لأي مطالبات اجتماعية
لم يقم الإيرانيون بالإخلاء التام والفوري للسجون، بل طرح الإيرانيون “مقاربة” سريعة لمعالجة هذا الملف بعد انتشار المرض في البلاد، حيث قصرت الطريقة الإيرانية قرار الإفراج على المساجين من غير ذوي الخطورة على الأمن العام، وقد حددت لذلك معيارًا وهو ألا تتجاوز مدة الحكم القضائي الذي يحمله المفرج عنه أكثر من خمس سنوات، كما سيدفع السجين الذي سيحظى بعفو مؤقت (إجازة) كفالةً مالية تذهب إلى خزينة الدولة، مع مراعاة إجراء فحصٍ عشوائي على المساجين للتأكد من عدم انتشار المرض في تجمعاتهم قبل الخروج من السجن، في إشارةٍ ضمنية من السلطات إلى أن هذا القرار احترازي يستهدف منع حدوث كارثة جديدة في البلد المنكوب.
ولكن في المقابل من الرأي الأول، استبعد كثيرٌ من المتشائمين أن ينصاع النظام في مصر لأي مطالبات اجتماعية من هذا القبيل، لعدة أسباب أبرزها، بحسب استقراء تدوينات النشطاء: أن مصر – حينئذ – لم تسجل إلا أعدادًا قليلة من الإصابات بالفيروس، وأن ظروف إيران الصعبة بسبب العقوبات الأمريكية المفروضة منذ عام ونصف قد ساعدت في تعقيد المشهد الوقائي، بما يمنح ما جرى في إيران خصوصيةً استثنائية في هذا الصدد. لذلك، على الأرجح، كانت المطالبات بالإفراج عن المعتقلين تظهر على استحياء من بعض الدوائر الإسلامية واليسارية، وكانت أقرب إلى التراشق السياسي على أحقية الخروج بين هذين الدائرتين، كما رصدنا في هذه الفترة.
كيف تغير الوضع؟
شهدت الأيام الأخيرة تسارعًا في انتشار حركة الفيروس داخل المجال الحيوي المصري، سواءً في الفئات العمرية أم في الجنسيات أم في بؤر الانتشار أم في تسجيل الوفيات، حيث سجلت مراصد الصحة الرسمية إصابة أكثر من 150 شخصًا بالمرض، من بينهم طلبة مدارس وجامعات، ونحو أربع حالات وفاة لأشخاص أجانب ومصريين، كما بدأت السلطات تفرض إجراءات مشددة على حركة المواطنين في ثلاث محافظات هي: دمياط والمنيا والدقهلية.
وبحسب وزير التربية والتعليم المصري طارق شوقي، فإن قرار تعليق الدراسة الذي صدر مطلع الأسبوع الحاليّ، كإجراء احترازي لمدة أسبوعين، قبل ظهور الوباء في بعض البؤر الحضرية، قد يمتد لمدد أكثر من ذلك بعد انتهاء الأسبوعين. كما أخذت وحدات سلاح الحرب الكيميائية التابعة للقوات المسلحة تنتشر في المجالات الحيوية الرسمية بشكل أكثر وضوحًا بغرض معاونة الكوادر الطبية المدنية في مهمة احتواء الفيروس، بدايةً من الجامعات الكبرى.
ومنذ إعلان هذا التوسع الرأسي والأفقي في خريطة انتشار المرض، ما أدى إلى رفع درجة الاستعداد الرسمي إلى مستوى الثاني (ما قبل الانفجار)، وسط تكهنات أجنبية بأعداد ضخمة من المصابين غير المكتشفين تصل في بعض الأحيان إلى أكثر من أربعين ألف حالة، أخذت المطالبات بالتخفيف عن المعتقلين تنهال على رأس السلطتين القانونية والتنفيذية في مصر من كل حدب وصوب.
قدم النائب البرلماني أحمد الطنطاوي، عريضةً يطالب من خلالها بالإفراج الفوري عن السجناء احتياطيًا لمدة تتجاوز 150 يومًا
مساء الإثنين، أبرق تحالف القوى المدنية المؤلف من عدة أحزاب يسارية وليبرالية مثل التحالف الشعبي الاشتراكي وحزب الدستور وحزب العدل، برسالةٍ إلى النائب العام المصري يطالبه فيها بالإفراج المشروط عن المحبوسين احتياطيًا ممن لم يصدر ضدهم أي أحكام قضائية بالإدانة، على أن يمثلوا إلى جهات التحقيق فور طلب السلطات، وذلك كمقدمة لبعض الإجراءات الأخرى التي تهدف إلى تخفيف الزحام في السجون وإصلاح أوضاعها لاحقًا، وقد وقع على البيان عددٌ من الشخصيات المعروفة في العمل العام والمجال الحقوقي والصحافة المستقلة على رأسهم مرشحا الرئاسة السابقين حمدين صباحي وخالد علي.
وفي “نداء باسم الإنسانية” وثقه بالنشر على صفحته بموقع “فيسبوك” مُذيلًا بالوسم “أنقذوا السجناء من الوباء”، قدم النائب البرلماني والباحث في العلوم السياسية أحمد الطنطاوي عريضةً من خمسة طلبات، اثنين منها إلى النائب العام يطالبه من خلالهما بالإفراج الفوري عن السجناء احتياطيًا لمدة تتجاوز 150 يومًا دون حكم قضائي، والمحتجزين على ذمة قضايا رأي ممن لم تثبت إدانتهم في أعمال عنف، كما طالب مصلحة السجون برفع درجة الطوارئ الطبية لتقديم الرعاية الصحية الواجبة للمسجونين كافة، وتطبيق قواعد قانون العقوبات ممثلةً في الإفراج الشرطي والصحي وفقًا لقانون تنظيم السجون، بينما طالب رئيس الجمهورية بإصدار عفو عام عن المُسنين والحالات المرضية، معتبرًا أن هذه المطالب الخمس تأتي “اتساقًا مع الإجراءات التي تتخذها الدولة لمواجهة هذا الوباء ومنع انتشاره”.
كيف هي الأوضاع داخل السجون؟
لدينا ثلاث شهادات مختلفة لمعتقلين سابقين تحكي عن ظروف الاحتجاز وطرق مواجهة الحالات الطارئة ومستجدات التعامل داخل السجون المصرية، بعد إعلان فيروس كورونا وباءً عالميًا ورفع درجة الاستعداد المحلية.
الشهادة الأولى لسيف الإسلام عيد، باحث العلوم السياسية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات والمعتقل السابق في السجون المصرية، وقد كتبها في مقالة صحافية بالعربي الجديد تعليقًا على التطورات الأخيرة، يقول سيف شارحًا ظروف الاحتجاز الأولية (قبل التحقيق) في قسم شرطة كفر الدوار، يناير/كانون الثاني 2014، إنه كان “في زنزانةٍ عرضها ثمانين سنتيمترًا، وطولها لا يتعدى المترين ونصف المتر، مع 19 من المعتقلين، ينقص العدد أحيانًا ويزيد أحيانًا أخرى، ولا يدخل الهواء إلا من نافذة مغلقة، بسلك شائك في أعلى الزنزانة، وليس فيها مصدر للضوء إلا من خارجها، إضافة إلى صنبور كان مصدر الماء الذي ينقطع أكثر مما يأتي، وحفرة لقضاء الحاجة يسمونها “حمامًا””.
وفي تعليق على الأزمة الحاليّة أيضًا، روي الصحفي أحمد جمال زيادة واقعة خطيرة عن تعامل وزارة الداخلية غير المهني مع أحد الأمراض المعدية المعروفة التي يتوافر لها بالفعل علاجات وأطباء بكثرة، وهو مرض “الجرب” الذي انتشر في السجن، حيث كان يقطن زيادة، إلى الحد الذي جعل الضباط يخشون الاقتراب من الزنازين الموبوءة، بيد أن مسؤولي السجن رأوا أن الحل المناسب لهذه الأزمة هو “حلاقة شعر كل المساجين، بس كلهم حلقوا بنفس مكنة الحلاقة، ومن غير تنظيف المكنة بعد كل حلقة، يعني اللي ماعندوش جرب يتفضل ياخده”، على حد قول زيادة.
ولكن السؤال هل تغير الوضع بعد ظهور وباء كورونا؟ تقول إسراء الطويل المعتقلة السابقة التي تذهب بانتظام إلى زيارة خطيبها المسجون على ذمة إحدى القضايا “عُمر”، إن أمناء الشرطة يتظاهرون بمعرفة طرق الوقاية الأساسية من الفيروس، بينما يقومون في الواقع بكل الممارسات التي حذرت منها الجهات الطبية المتخصصة مثل البصق والتقبيل عند التحية، مؤكدةً أن أحد الأمناء رفض إدخال أحد الأدوية المقوية للمناعة قبل تفريغ محتويات “العلبة” ولمس أقراصها بيده، معللًا ذلك بالدواعي الأمنية.
وفي أحدث مقالاتها عن الأوضاع في السجون المصرية بالتزامن مع تطورات وباء كورونا، قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” إن السلطات المصرية تعلق الزيارات إلى مقرات الاحتجاز وقضاء العقوبات منذ الـ10 من مارس/آذار الحاليّ، وقد تفاقم الوضع منذ الـ12 من نفس الشهر، حينما ضربت البلاد موجة شديدة من الطقس السيئ تسببت في أضرار اجتماعية واسعة، كان من بينها انقطاع الكهرباء وتسريبات الأمطار داخل مقرات الاحتجاز، وذلك فضلًا عن رفض إدخال “الصابون” والمطهرات، مما يقطع بعدم جاهزية هذه السجون للتعامل مع فيروس مُستجد مثل “كورونا”.
زياد العليمي
يعد زياد العليمي واحدًا من أبرز المعتقلين الذين ينطبق عليهم كثير من المحاذير الصحية التي تخشاها المنظمات الحقوقية وأحزاب المعارضة، كما يعد مثالًا واضحًا لمعتقلي الرأي الذين صادرت السلطات حرياتهم بسبب محاولتهم الاشتباك مع السياسي، دون أن يثبت تورطهم في أي أعمال عنف وإرهاب.
ورغم أن المحامي وأصغر نائب في تاريخ البرلمان، زياد العليمي، يعاني من “الربو” وعدد كبير من مشكلات الجهاز التنفسي والمناعة في محبسه، فإن السلطات المصرية، تتعنت وتماطل في قبول الطلبات القانونية المقدمة من عدد المراكز الحقوقية للسماح له بالعلاج في مستشفى خارج السجن على نفقة أسرته، مقابل إدانته في إحدى القضايا بسبب اعتراضه على “منتدى الشباب” الذي ينظم تحت رعاية الرئيس المصري بصفة دورية، كما لا يزال محبوسًا على ذمة القضية المعروفة باسم “قضية الأمل” مع شخصيات سياسية واقتصادية بارزة مثل رامي شعث وعمر الشنيطي، منذ يونيو/حزيران، بتهمة محاولة تأسيس تحالف سياسي لخوض الانتخابات البرلمانية.
لم ترد السلطات المصرية على مطالب الإفراج عن المعتقلين منذ بداية الأزمة
ونظرًا لتزامن الحكم الأخير بالسجن لمدة عام على زياد العليمي المصاب بهذه الأمراض مع تفشي مرض الكورونا في مصر والعالم، فقد تضامن عدد كبير من المراكز الحقوقية والصحفية مع النائب البرلماني الأسبق، مثل المركز الدولي للصحافة الاستقصائية ومنظمة العفو الدولية ونقابة المحامين البريطانية، معربين عن أسفهم لهذا الحكم القضائي، ومطالبين بتمكينه من متطلبات الرعاية الصحية اللائقة، وتوفير معايير التقاضي النزيهة.
بيد أن السيدة إكرام يوسف والدة زياد، الصحفية والمترجمة، التي لا تتوقف عن التدوين تحت وسمي “خرجوا السجناء البلد فيه وباء”، و”خففوا ازدحام السجون” منذ مدة طويلة، تقول إنه على الرغم من قضاء نجلها ثمانية أشهر تحت الحبس الاحتياطي في قضية الأمل قابلة للتمديد لأعوام أخرى في ظل سياسات الحكم الحاليّ، فإنها لا تخشى عليه وحده من تفشي العدوى، وإنما تخشى على الضباط وأفراد الشرطة الذين يخالطون المساجين أيضًا، منوهة عن آمالها في فك الاشتباك بين أبناء هذا الوطن المحشورين في هذا المشهد العبثي.
أنباء عن وصول كورونا
لم ترد السلطات المصرية على مطالب الإفراج عن المعتقلين منذ بداية الأزمة، إلا مرةً واحدة على لسان وزير الإعلام أسامة هيكل، الذي استبعد الإفراج عن المسجونين، منوهًا إلى الطابع المؤامراتي الذي يقف خلف هذه الدعوات، وذلك بعد قرارين اعتبرهما كثيرٌ من المراقبين استمرارًا في سياسة تجاهل الأزمة وتركها حتى الانفجار، وهما قرار تعليق الزيارات “حفاظًا على سلامة النزلاء” لمدة عشرة أيام، وقرار تعليق العمل في المحاكم لمدة أسبوعين، باعتبارها جزءًا من المنظومة الحكومية المعطلة في ضوء تفعيل السلطات للمستوى الثاني من التدابير الاحترازية.
ومنذ الثلاثاء، الـ17 من مارس/آذار الحاليّ، بدأت الأخبار عن تسجيل حالات إصابة بفيروس كورونا المستجد تتدفق من داخل السجون المحصنة إلى خارجها، حيث أكدت شبكة الجزيرة نقل إحدى الحالات الحاملة للمرض من سجن وادي النطرون، شمال البلاد، إلى مستشفى حميات إمبابة بالجيزة، بعد أن ظهرت عليها أعراض سعال وارتفاع شديد في درجة الحرارة، وسط تعتيم أمني شديد على هُوية الحالة وتفاصيلها، رغم نقلها إلى عدة مراكز صحية قبل استقرارها في إمبابة.
ووفقًا لما رصدته شبكة “نحن نسجل We Record” المعنية بتوثيق الانتهاكات الحقوقية ضد المعارضين في مصر، فقد ظهرت بالأمس أيضًا بعض حالات الاشتباه بالإصابة بفيروس كورونا في سجن “القناطر الخيرية”، بيد أن فزع الطواقم الطبية المتواضعة في السجن ورعونة بعض الكوادر الإدارية أدت إلى عدم إدارة المشهد بالاحترافية المنشودة، وذلك على الرغم من استلام هذا السجن عدد من الأجهزة المساعدة في التمييز بين الأعراض المتشابهة، مما تسبب في توتر الأوضاع داخل السجن.. تُرى هل ستستجيب السلطات المصرية إلى دعوات التخفيف عن معاناة المعتقلين لتحذو حذو كل من إيران والبحرين والأردن أم ستستمر في سياساتها الحاليّة رغم المخاطر الشديدة التي تحوم حولها؟