لماذا لم نسمع على مر التاريخ عن امرأة فيلسوفة؟ هل صارت الفلسفة حكرًا على الذكور دون الإناث؟ هل المرأة فعلًا غير مؤهلة لممارسة التفلسف أم أن العلوم الإنسانية برمتها خارج دائرة اهتمام المرأة؟ ولماذا أبدعت المرأة في مجالات الطب والعلم والحكم والأدب فيما غابت تمامًا عن الفلسفة؟ خمسة تساؤلات فرضت نفسها على موائد النقاش الإنساني فيما يتعلق بالعلاقة بين المرأة والفلسفة.
إشكالية جدلية تعود لعقود طويلة انزوت فيها المرأة عن العمل الفلسفي، وتركت الساحة شبه خاوية أمام الرجال إلى الحد الذي تعمقت فيه القناعات لدى البعض بأن الفلسفة عمل ذكوري في المقام الأول، وأن المرأة إذا حاوت الاقتراب منه على استحياء بين الحين والآخر يكون استثناءً لا يمكن تعميمه.
ورغم أن التاريخ يذكر العشرات من الفلاسفة النساء (فيلسوفات) والعديد من التجارب والمشروعات الرائدة في هذا المجال، لكن سرعان ما يسقطن من الذاكرة، ليحل محلهن الفلاسفة الذكور القدماء، وهي المعضلة التي دفعت العديد من المهتمات بالعلوم الإنسانية إلى البحث في هذه الظاهرة، في محاولة للوقوف على أسبابها ومحاولة التوصل إلى حلول عملية تعيد للمرأة كيانها الفلسفي المهضوم لحساب ذكورية بات من الصعب سحب البساط من تحت أقدامها دون جهد ملموس.
تجارب نسوية
تحت عنوان “تاريخ النساء الفلاسفة في العصرين اليوناني والروماني” حاولت الباحثة ماري إيلين ويث سد تلك الثغرة في غياب التجارب النسوية الفلسفية، وعبر سلسلة تقع في أربع مجلدات ألقت الضوء على عدد من الشخصيات النسائية اللاتي تميزت آراؤهن ومنجزاتهن بالمعرفة العميقة وابتكار النظريات، على مختلف أنواع هذه المعارف، حيث تقول في مقدمة كتابها: “المصادر القديمة تشير إلى أن النساء كن نشيطات، وأنهن لعبن دورًا جوهريًا في تطور الفلسفة المبكرة، إذ يخبرنا ديوجين لايرتوس بأن أرسطو كان دومًا يؤكد أن فيثاغورث استقى جزءًا كبيرًا من آرائه الأخلاقية من السيدة ثيميستوكليا”.
وفي مثال آخر قدمت ماري إيلين في كتابها، نموذجًا آخر عن سيدة عاشت في تلك الحقبة التي يؤرخ لها بقبل الميلاد، وهي لثيانو الكروتونية، التي كانت تلميذة لفيثاغورث، وعرف عنها تميزها بالعمق الفلسفي النسائي، ومن أقوالها المعروفة: “الحب الرومانسي ليس أكثر من الميل الطبيعي إلى نفس طاهرة”.
غير أن هذا المشروع قوبل بانتقادت وإشكاليات عدة، لعل أبرزها معايير اختيار الفيلسوفات، إذ وجدت ويث نفسها إزاء إشكالية أساسية جعلتها تحاول استعمال تعريف خاص للفلسفة، إلا أن محاولة حل هذه الإشكالية تتضمن هي الأخرى إشكالية نسائية مهمة، تتمثل في أنه إذا كانت الفلسفة بمعناها التقليدي على طول الخط ابتكارًا ذكوريًا في أساسه، ألسنا إذن عندما نختار أعمال النساء التي تناسب تلك التعريفات التقليدية، إنما نختار فحسب الأعمال التي وضعتها النساء اللاتي يفكرن مثل تفكير الرجال؟
لم تكن تلك المحاولة الوحيدة في هذا الباب، إذ ترى أستاذة الفلسفة في آداب القاهرة، زينب خضيري، أن هناك فيلسوفات معاصرات مثل سيمون دي بوفوار والفيلسوفة الألمانية حنا آرنت، ولها كتابات ممتازة وكتبت عن فلسفة الثقافة بطريقة شديدة العمق.
خضيري تعتبر أنه إذا كان الرجال ينكرون وجود نساء فيلسوفات فتعتقد هي أنه ليس هناك أيضًا رجال فلاسفة، منوهة أن دراسة الفلسفة دخلت الجامعات العربية للمرة الأولى 1925، وأن عدم اشتغال المرأة بالفلسفة لا يرجع إلى ضعف في عقل المرأة يحول دون قدرتها على التفلسف، ولكن لأن ظروف المرأة لم تكن مساوية لظروف الرجل وبالتدرج سيأتي اليوم الذي تتحقق فيه المساواة بين الرجل والمرأة.
بداية ظهور الفيلسوفات النساء ظهر في المدرسة الفيثاغورسية، التي مكّنت المرأة من التعلم والتفكير والمناقشة وإعمال العقل
بينما ذهبت أستاذة الفلسفة في جامعة عين شمس، منى أبوزيد، إلى أن فكرة ساذجة شاعت بين الرجال وقال بها أرسطو وأصبحت الفكرة السائدة عن النساء بصفة عامة، وهي أن المرأة أنقص عقلًا من الرجل، كاشفة أن أفلاطون وهو أستاذ أرسطو صرح بفكرة معاكسة لهذا في كتابه الجمهورية، ولكن لم تشتهر وتنتشر إلا فكرة أرسطو، وبقيت فكرة أفلاطون حبيسة رغم أنه صرح بمساواة الرجل والمرأة من حيث الكفاءة العقلية.
وفي إجابتها عن تساؤل بشأن مدى وجود فيلسوفات أجابت أبو زيد أن التاريخ الفكري عبر عصوره المختلفة يثبت ذلك، وهو حافل بالعديد من النماذج الفلسفية النسائية منذ مطلع الفكر حتى وقتنا المعاصر، فالمرأة رغم خضوعها الطويل للرجل وحرمانها من التعليم استطاعت أن يكون لها دورها في نشأة الفلسفة منذ فجر تاريخها، صحيح أنه دور صغير بسيط، ولكنه يثبت قدرة المرأة على التفلسف إذا أتيحت لها فرصة التعلم.
يذكر أن بداية ظهور الفيلسوفات النساء ظهر في المدرسة الفيثاغورسية، التي مكّنت المرأة من التعلم والتفكير والمناقشة وإعمال العقل، ومن أمثلة هؤلاء النساء ثيانو زوجة فيثاغورس، كذلك الفيلسوفة إسبازيا التي ناقشت سقراط ووصفت بأنها معلمة البيان، وفي مصر ظهرت فيلسوفة الإسكندرية هيباشيا التي عاشت في الإسكندرية وقتما كانت هذه المدينة قبلة التقدم العلمي والفلسفي للعالم القديم وعهدت إليها الحكومة الرومانية بمنصب رئاسة المدرسة الأفلاطونية بالإسكندرية.
تزامن ذلك مع ظهور فلاسفة أخريات في أثينا مثل إسكيبينيا التي طبقت فلسفة أفلاطون وأرسطو على الأفكار الدينية التي أثارتها المسيحية، بالإضافة إلى العديد من الأسماء الأخرى من نساء العالم القديم، كما شهدت العصور الوسطى وعصر النهضة والتنوير بأسماء أخرى لفيلسوفات، وتدلل ذخائر مكتبات الفاتيكان بأسمائهن أمثال جوليانا النرويجية وهيلجارد وأوليفا سابوكي ولكن لسوء الحظ أحرقت محاكم التفتيش الإسبانية أجزاءً من مؤلفات الأخيرة.
وفي العصر الحديث هناك كريستينا دي بيسان وآن كونواي وسوزان ستبنج وسوزان لانجر فيلسوفة وسويمون دي بوفوار وآخرها حنة أرندت التي هربت من النازية إلى الولايات المتحدة وصارت فيلسوفة سياسية تكتب عن أصول الحكم الشمولي، وعن العنف والحرية والثورة وحياة العقل وغيرها. وهؤلاء وغيرهن كثيرات يدحضن الزعم القائل بأنه لا توجد فلاسفة نساء.
الفلسفة مفهوم ذكوري.. ما الأسباب؟
“الفلسفة هي عالم الرجال بوجه عام”.. هكذا أكد أستاذ الفلسفة العربية في آداب القاهرة، عاطف العراقي، لافتًا إلى أن طيلة الـ27 قرنًا الأخيرة لن نجد فيلسوفة واحدة، مطالبًا بالتفرقة بين الفيلسوف ومن يدرس الفلسفة، لأن الفيلسوف صاحب منهج ومبدع، أما الأستاذ فإنه يعتمد على ترديد أقوال الفلاسفة سواء كانوا قبل الميلاد كأفلاطون وأرسطو أم كانوا في العصر الوسيط كالقديس توما الأكويني أم كانوا في العصر الحديث مثل سارتر.
وفي تعليقه على بعض الأسماء التي يطلق عليهن لقب فيلسوفة، فقد نفى العراقي صحة هذا الكلام، وضرب مثالًا بهيباشيا فيلسوفة الإسكندرية الشهيرة متسائلًا ما المذهب الذي قدمته لنا هيباشيا؟ والإجابة – حسب الأكاديمي المصري – لا يوجد إطلاقًا، إنها تعد نوعًا من الدعاية من دون مبرر، بدليل أنه لا توجد فيلسوفة قبلها ولا بعدها بأكثر من عشرين قرنًا والتفكير الفلسفي يكاد يكون مقتصرًا على الرجال.
الرأي ذاته ذهب إليه أستاذ فلسفة الجمال بأكاديمية الفنون المصرية، صلاح قنصوة، الذي يرى أن عدم وجود نساء فيلسوفات يعد عرضًا طبيعيًا لذكورية الثقافة الإنسانية بشكل عام التي صنعها الذكور، وهي موسومة باستمرار بهيمنة قيم الرجل حتى إن زعمت أنها تساوي بين الرجل والمرأة خصوصًا الفترة الحاليّة.
وأوضح قنصوة أنه من الطبيعي ألا توجد نساء فيلسوفات لأن دور المرأة كان مقصورًا على بناء الأسرة وأن تكون تابعة للرجل ومربية لأطفاله وحارسة لقيمه الذكورية وليس في هذا تناقض ولا تقليل من شأن المرأة، ففي صعيد مصر سنجد أن مسألة الثأر لا تعترف بالمرأة كدم إنما الدم فقط للذكر، وعندما تقتل المرأة فهذا لا شأن له إطلاقًا بمسألة الثأر، ولكن يتعلق بالرجل في المقام الأول.
طالبت المرأة بإعادة النظر في مسألة تحديد دائرة اهتماماتها وترتيب أولوياتها ومسؤولياتها، بما يحقق أقصى استفادة منها
واختتم أستاذ فلسفة الجمال بالتأكيد على أن هناك فيلسوفات ولكن عددهن قليل وغير مؤثر، وتابع “لكن فيما بعد ربما ننسى هذه التفرقة بين الذكر والأنثى، ونحن في جامعاتنا ليس لدينا فلاسفة، ولكن دراسي تاريخ الفلسفة، ويتنافسون في حفظ نصوص الفلسفة لكنهم لا ينتجون فلسفة لأن المجتمع لا يسمح بالتنفس الفلسفي الذي يقوم على طرح الأسئلة، إنما أقصى ما نبلغه هو ترديد الإجابات الجاهزة سواء كانت مقتبسة من نصوص دينية أم من إنتاج فلاسفة آخرين”.
تحديات بيولوجية واجتماعية
تعد ظروف نشأة الفلسفة العربية في القرون الأولى للهجرة أحد أبرز الأسباب وراء غياب المرأة عن الحقل الفلسفي وفق ما ذهبت بعض المتخصصات في العلوم الإنسانية، حيث دفعت عوامل داخلية وخارجية المرأة لعدم التمكن من المشاركة في الحركة الفكرية التي كانت تتأسس في دور العلم وبيوت الحكمة أي في أماكن مخصصة للرجال.
عميدة المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعة اللبنانية، سعاد الحكيم، ترى أن المرأة مارست نشاطها العلمي والحيوي عبر توجهات المجتمع فاتجهت النساء في تلك الأزمنة إلى التفقه في الدين وإلى الأدب والشعر، وكذا إلى العمل الاجتماعي والتدخل السياسي إما في ظلال الأزواج والأبناء والخلفاء والسلاطين والأمراء، أو بالسيطرة عليهم.
وكان نتاجًا لهذا التوجه وجود الكثير من أسماء النساء الفقيهات والشاعرات والأديبات وصاحبات السلطة والنفوذ وأحيانًا الاستبداد، لكن في مجال العلوم الفلسفية قلما تجد شخصية قادرة على منافسة الرجال في هذا المضمار، فالإطار التي تشكلت بداخله المرأة حال دون ذلك.
فريق آخر من الباحثين يفسر غياب المرأة الفلسفية بأنها لم تحظ بفرص مناسبة لتطوير ذاتها نتيجة لظروف اجتماعية أو أعراف قبلية، غير أن هناك من يرجع الأمر كله إلى تأثير الجانب البيولوجي، حيث يرون أن الاختلافات في التشكيل البيولوجي بين الذكر والأنثى تؤدي بطريقة أو بأخرى إلى اختلافٍ بين طريقة تفكير الرجل وطريقة تفكير المرأة، ومن ثم يقولون إن المرأة غير قادرة على التفلسف.
ناشدت الأنظمة والحكومات بضرورة فتح الباب مجددًا أمام العقل النسوي لاختراق هذا المجال عبر توفير الإمكانات المادية والتشريعية
وهو الرأي الذي تتفق معه أستاذ المنطق وعلم الكلام بجامعة الأزهر، في مقال لها تحت عنوان “ألم يأن للمرأة أن تتفلسف؟! دعوة للتفكير“، حيث أشارت إلى أن الأسباب التي أوردها الباحثون في هذه المسالة تنحصر في ثلاث مجموعات رئيسة، أسباب تاريخية وتوثيقية، وهي أضعف الأسباب، على حد قولها، وأخرى تتمحور حول النظرة الثنائية: ذكر وأنثى واختلاف طبيعة كل منهما عن الآخر، وأخيرة تتعلق بالموقف الفلسفي الذكوري من النساء، الذي يتلخص في عجزهن عن التفلسف.
فيما طالبت فوزية الجبالي، أستاذ علم الفلسفة بجامعة الأزهر، بضرورة وضع هذه الظاهرة قيد الدراسة والمناقشة، كاشفة أن المرأة يمكنها أن تسهم في إثراء المكتبة الفلسفية بالعديد من الإسهامات البناءة، فقط تُعطى الفرصة وتتاح لها الأجواء وتقدم لها الإمكانات، نافية تمامًا أن يكون للعامل البيولوجي أي دور في تفوق الرجل في هذا المضمار.
الجبالي لـ”نون بوست” طالبت المرأة بإعادة النظر في مسألة تحديد دائرة اهتماماتها وترتيب أولوياتها ومسؤولياتها، بما يحقق أقصى استفادة منها، وأن تخترق المجال الفلسفي الذي يعاني من فقر مدقع في النظريات التي تتعلق بالمسائل النسوية، التي من الصعب أن يعبر عنها الرجال.
كما ناشدت الأنظمة والحكومات بضرورة فتح الباب مجددًا أمام العقل النسوي لاختراق هذا المجال عبر توفير الإمكانات المادية والتشريعية بما يسمح لها ببذل كل الجهود لتقديم نفسها كفيلسوفة قادرة على منافسة الرجال، خاصة أنه خلال العقود الأخيرة خلت الساحة من الفلاسفة الجدد، ذكورًا كانوا أم إناثًا، وهي مدعاة أكبر لأن يتفح المجال لتعظيم هذا المجال الإنساني الحيوي الذي قاد البشرية للسمو والارتقاء عبر حضارات متعددة وثقافات ثرية متباينة.