“لا يمكن للصراع أن يصل إلى خاتمته دون سقوط العلوية السياسية تمامًا كما أن الحرب في لبنان ما كان يمكن أن تصل إلى خاتمتها دون سقوط المارونية السياسة وليس الموارنة في لبنان”، فتح هذا الكلام للمفكر السوري صادق جلال العظم جدلًا كبيرًا منذ سنوات وما زال مستمرًا حتى يومنا هذا عن مصطلح “العلوية السياسية” في سوريا، بين متبنٍ لهذه النظرية ورافضٍ لها.
خلال سنوات الثورة السورية لم يتراجع بشار الأسد وزمرته المتسلطة عن تكريس الحكم الطائفي في البلاد، ليس فقط سياسيًا وإنما ترسخت “العلوية الاجتماعية والعلوية العسكرية” إلى جانب تمددها بمجالات الفن والثقافة، وتأتي هذه الخطوات امتدادًا للأسلوب الأسد الأب الذي طبع البلاد بطابعه الطائفي، مكرسًا وجود أبناء طائفته في مفاصل الدولة ومفاصل الحياة العامة كافة.
لم يكتفِ الأسديون بـ”علونة” الجيش وأجهزة المخابرات، بل فرضوا في كثير من الأحيان نمط الحياة والأسلوب العلوي على المجتمع والثقافة والفنون بما فيها الموسيقى والدراما وغيرها.
العلوية السياسية
جاء مصطلح “العلوية السياسية” الذي استخدمه بعض السوريبن قياسًا على “المارونية السياسية” في لبنان، التي تعني “تحويل الطائفة المارونية من كيان اجتماعي ديني إلى كيان سياسي صاحب امتيازات من الدرجة الأولى ومستقل في هويته السياسية كما الدينية عن باقي المجتمع السياسي اللبناني”، لكن الاختلاف واضح بين النهجين كما يرى نبيل ملحم الباحث السوري الذي يقول: “المارونية السياسية في لبنان لم تستطع أن تجعل الدولة اللبنانية كأنها ملكية خاصة حصرية للطائفة المارونية، أي لم تستطع أن تحول كيان الدولة ليبدو وكأنه امتداد طبيعي للطائفة المارونية حتى في ذروة قوة وسطوة المارونية السياسية وذروة قوة الصيغة اللبنانية الطائفية”.
بنى النظام السوري نفسه على أساس “مشروع تكوين سلالة عائلية حاكمة إلى الأبد، فقامت لتحقيق ذلك بإعادة إنتاج الوجود الاجتماعي والاقتصادي والطبقي والسياسي والثقافي والأيديولوجي، بما يخدم مشروعها”، ويضيف الباحث ملحم “قامت العائلة الحاكمة السورية على مدى عقود وعقود من وجودها في السلطة بنسج شبكة واسعة من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والأيديولوجية مع العصبية الطائفية التي استندت إليها”.
لكن المصطلح الذي أطلقه المفكر العظم عن “العلوية السياسية” لم يرق للباحث السوري الفلسطيني والدكتور في الفلسفة أحمد برقاوي، الذي يرى أن “دكتاتورية النظام السوري حافظت على مبدأ الغلبة العسكرية الانقلابية، ثم البحث عن شرعنة هذه الغلبة، عبر الجبهة التقدمية ومجلس الشعب والاستفتاء على اختيار الرئيس الذي يرشحه حزب البعث قائد الدولة والمجتمع”، مضيفًا أنه لم تجر “عملية دستورية لاقتسام السلطة، عبر عقد اجتماعي طائفي بين الطوائف والأديان السورية، يكون بموجبها توزيع رئاسة السلطات التشريعية والرئاسية والتنفيذية بين الطوائف السورية”.
يرى الكاتب اللبناني زياد ماجد في رده على جلال العظم أنه لا يمكن تشبيه الحالة السورية باللبنانية، فيقول: “يبدو لنا أن العصبية الطائفية التي ساهمت في تعاضد أكثرية علوية مع حكم الأسد في سورية، استندت بشكل خاص إلى الاستقطاب في الجيش والنشاطات الدينية التعبوية والسرديات التاريخية العاطِفَة اضطهادًا دينيًا على اضطهاد اجتماعي”، ويشير ماجد أيضًا إلى أن العصبية العلوية السورية لم تكن موجودة في الحالة المارونية اللبنانية طيلة السنوات التي سبقت الحرب الأهلية.
خصائص العلوية السياسية
يسلم الكثير من الباحثين والدارسين للحالة السورية وتشعبات الحالة السياسية فيها بموضوع “العلوية السياسية”، لكن ليس الكل يربطها بالمارونية السياسية اللبنانية، فالباحث نبيل ملحم يرى أن الحالة السورية تتميز بعدة نقاط هي:
-
لم يكن وعي الطائفة العلوية لضرورة العصيان بالسلطة والدولة فحسب بل مركزيتها، وتمحورها حول رأس النظام الأب ثم الابن، لا بوصفه قائدًا سياسيًا تتحقق من خلاله عملية العصيان بالسلطة، بل باختلاط واندماج ذلك مع المعتقد الديني العلوي الذي رأى في رأس النظام قائدًا يصل في درجته إلى مرتبة الألوهية.
-
العلوية السياسية لم تنشأ عن حالة استبطان العصبية في أحشاء الدولة، بل ترافق واندمج ذلك مع باطنية سياسية دينية نمت في أحشاء الدولة، هي من نوع الباطنية الدينية العلوية المعروفة تاريخيًا.
-
العلوية السياسية كانت مختبئة تحت طبقة من الاستبطان في أحشاء الدولة وطبقة من الباطنية الدينية، وهو الأمر الذي يجعل البعض يصعب عليه رؤيتها أو تصديقها.
العلوية العسكرية أو “الجيش العلوي السوري”
مع كل الجدل المصاحب لنظرية العلوية السياسية والأخذ والرد بين رافضٍ للفكرة أو متفق معها، إلا أن الأمر كان يتضح لكل سكان سوريا بأن النظام بنى نفسه على الأساس الطائفي العلوي، ولم تقتصر تلك الفكرة على الأمور السياسية والحكم والمناصب السيادية، إنما تعداها للدخول في تصفية المؤسسة العسكرية لتصبح محكومةً بالعلوية، إضافةً للولوج في النسيج المجتمعي والسيطرة على صناعة الثقافة وتغيير الخريطة الطائفية والمجتمعية لصالحه، وما زال بشار الأسد على الرغم من كل ما حصل يكرس لهذه الفكرة الطائفية وترسيخها والعمل على ضرب وطنية البلاد من خلال تعزيز الطائفية، ويبرز ذلك في عدّة نواحي:
لا شك أن ما حصل في سوريا منذ بدايات الثورة وتوجيه قوات النظام بنادقها لصدور الشعب وتوغل هذا الجيش بدماء السوريين حتى بلغ مبلغًا لا يمكن العفو عنه كان نتيجةً لربطه طائفيًا، صحيح أن جيش الأسد يضم العديد من الطوائف ومنهم من هم من أبناء السنة ولكن تجد الحالة العلوية مسيطرة على مراكز القرار والقيادة والتحكم بكل الموارد واتخاذ القرارات.
“يسيطر العلويون على 100% من أهم 40 منصبًا قياديًا في الجيش السوري، بالإضافة لاحتفاظ بشار الأسد بقيادة الوحدات النوعية ضمن أبناء القرداحة أو ممن ينتمون لعشيرته أو لعشيرة أخواله”، هذا النص جاء في بحث أجراه مركز عمران للدراسات الإستراتيجية بعنوان “مراكز القوة في جيش النظام 2020: نهج الصفاء العلوّي“، وجاء في الورقة الصادرة عن المركز تحليل مفصل عن كيفية استيلاء الضباط العلويين على المراكز الحساسة، فيما بحث أيضًا الانتماءات المناطقية لهؤلاء الضباط.
طبقًا للتحليل؛ يشغل الضباط العلويون المنحدرون من محافظة اللاذقية 23 منصبًا قياديًا من المناصب الـ40، ومن ضمن تلك المناصب: القائد العام، وزير الدفاع، الحرس الجمهوري، الوحدات الخاصة، الفرقة الرابعة، بالإضافة لعدد آخر من الفرق والمناصب، في حين يشغل الضباط المنحدرون من محافظات طرطوس 7 مناصب وحمص 6 مناصب حماة 4 مناصب، واقتصر التوزع الجغرافي بشكل عام على ضباط من أربع محافظات فقط هي (اللاذقية – طرطوس – حمص – حماة) من أصل 14 محافظة سورية، وفصّل البحث أيضًا في كل فرقة أو جناح عسكري في الجيش على حدة ليتبين أن العلوية هي الحاكم المطلق.
يختم المركز بحثه بأنه لا “يمكن القول تحت أي عنوان بأن أساس ترفيع هؤلاء الضباط هو ترفيع مهني غير متحيز وبأنه ليس طائفيًا بل وحتى ليس عشائريًا، خصوصًا أن تعيين هؤلاء الضباط قد تم بشكل مباشر من بشار الأسد، ويمكن أن تتغير نتائج الورقة في أي عملية هيكلة سواء عملية هيكلة شاملة أم عملية فردية يقوم بها الأسد، ولكن يبدو بإمكاننا القول إن الجيش العربي السوري قد تحول رسميًا للجيش العلوي السوري”.
العلوية الاجتماعية
الحالة الثقافية
اشتعلت في الآونة الأخيرة المنافسة بين فنانين سوريين على منصب رئيس نقابة الفنانين السوريين، وهما فادي صبيح وزهير رمضان، والشخصيتان من أبناء الطائفة العلوية، يُذكر أن زهير رمضان استلم إدارة النقابة منذ عام وانتهج طريقًا تشبيحيًا صرفًا، إذ إنه كان يهدد ويتوعد كل الفنانين الذين عارضوا نظام الأسد.
فصل رمضان بعض الفنانين من النقابة بسبب مواقفهم السياسية المعارضة للأسد، قائلًا إنهم حرضوا عبر المحطات وقبضوا لقاء ذلك بالدولار، مشيرًا إلى أنهم “زاودوا وتاجروا بالوطن”، وطالب باعتذار صريح من كل فنان يريد العودة إلى حضن الوطن. يشار إلى أن النقابة معروفة لدى أبناء الثورة السورية بمواقفها “التشبيحية“، وبات ينظر إليها المتابع على أنها فرع أمن تابع لمخابرات النظام.
سوق النظام مع تولي بشار الأسد سدة الحكم بشكل كبير لفنون هابطة على حساب الفن السوري الأصيل بما فيه الفن الساحلي واللون البحري الذي تتميز به سوريا، كما يقول الفنان السوري نعمان حاج بكري، مضيفًا “النظام السوري سوّق لنفسه عبر مجموعة من المطربين المحسوبين على جماعته”، وهنا يجدر الذكر أن هذا اللون عكف على تأديته أمثال علي الديك ووفيق حبيب ممن رُوج لهم بشكل كبير وما زال النظام يعتمد عليهم لتحشيد مؤيديه.
المغني علي الديك في أحد لقاءاته مع بشار الأسد
في فترة ما قبل 2011 كانت سوريا تمتلئ بالأصوات والأغاني التي طرحها إعلام الأسد بين الناس على جميع وسائله الإعلامية، فكان على المواطن أن يسمعها في كل الأمكنة، في المواصلات العامة والطرقات والمقاهي والمطاعم والتليفزيون والراديو، حتى صار هذا اللون من الغناء الهابط والمرتبط بطائفة معينة مشهورًا بأغاني “الكراجات” وهي أماكن اصطفاف وسائل النقل العامة، وهذا كله ضمن سياسة ممنهجة لمحو أي تراثٍ سوري أصيل مقابل الترويج لفن خرج من الأماكن التي نشأت منها العائلة الحاكمة حتى ولو كان هابطًا.
تكريس العمارة الطائفية
تنقسم العمارة في سوريا إلى عدة أصناف وهي العمارة العسكرية وتضم كل المباني الحكومية والقصور والمنشآت العسكرية والتماثيل الضخمة، والعمارة المدنية التي تضم المجمعات السكنية والأسواق والمباني الخدمية، وكلها كانت بالمحصلة أدوات للهيمنة، هذا التقسيم أورده الكاتب السوري يوسف موسى في تقرير سابق على “نون بوست“، حيث أشار إلى أن حافظ الأسد بدأ في بناء أحياء سكنية لتوطين القادمين الجدد إلى العاصمة من طائفته ومواليه، بهدف تفتيت النسيج المجتمعي السوري.
أنشأ النظام السوري عدّة مدن وأحياء كانت أشبه بحواجز لتشتيت حياة المدينة الطبيعية في دمشق، وكان منها مساكن للضباط العسكريين ضاحية الأسد في حرستا عند المدخل الشمالي لمدينة دمشق، ومساكن السومرية التي بناها رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد وقائد سرايا الدفاع المسؤولة الأساسية عن المجازر التي ارتكبت في ثمانينيات القرن الماضي.
يقول الكاتب موسى: “كُرس التوزيع الديمغرافي في بعض الأحياء على أساس طائفي، حيث امتاز بعضها بأن معظم سكانها علويون مثل حي الزهور التابع لمنطقة الشاغور، وأيضًا كانت البيوت المحيطة بمنزل الأسد ملكًا للمقربين منه من عسكريين وسياسيين، وحتى ممن هم من أبناء طائفته”، ويضيف الكاتب السوري “هذه الأحياء والمدن كانت في بعض الأحيان لا تسمح للغرباء بالدخول إلا بموافقة، فزادت هذه الأحياء من تشويه صورة المدينة معماريًا وعمرانيًا، في عدم تناغمها مع الهوية القائمة للمدينة والممتدة مئات السنين”.
كرس نظام الأسد خلال عهدي الأب والابن، سياسة طائفية في مختلف مجالات الحياة، العسكرية والمدنية بأشكالها كافة، ففرّق السوريين وأخلّ بالنسيج المجتمعي، ثم عمد إلى تجريم أي توصيف لطائفيته المتوحشة، فبات أي حديث عن الطائفية السياسية التي ينتهجها محط تخوين واتهام ببث الفتة ووهن نفسية الأمة، فيما يواصل بشار الأسد تعزيز صفوفه بمزيد من الطائفيين من أتباع طائفته وعشيرته.