يمثل الدستور الإطار العام للعمل السياسي في أي بلد، كما يُعد الأساس السليم وصمام الأمان لبناء الدولة بعد صياغة العقد الاجتماعي بين القوى السياسية والاجتماعية، وينبغي للدستور الناضج أن يكون حجر الزاوية لكل من النظام والمجتمع والسلطات والقوى السياسية والعملية السياسية من أجل الوصول إلى بناء دولة مستقرة على أسس سليمة ودستورية.
قبل الاعتراف بالدستور، لا بد أن يمر بثلاث مراحل أساسية قبل تثبيته وإقراراه وعرضه على الشعب للتصويت عليه أولها: مرحلة التصورات والرغبات والإرادات والحاجات، ولا بد أن تشارك جميع مكونات الشعب بهذه المرحلة لأنها المرحلة الأوسع والأهم وتقع على عاتق المفكرين والقيادات.
أما ثاني المراحل فهي مرحلة التكيف مع الظروف السياسية وطبيعية المرحلة وكل ما يتصل بالظروف الإقليمية والدولية وتقع هذه المرحلة على عاتق فقهاء السياسة ومنظريها.
وثالث المراحل هي إنضاج النص وصياغته القانونية وهي مرحلة فنية بحتة تقع على عاتق الخبراء في القانون الدستوري، فالدستور لا يتعلق بأوضاع الحاضر فقط وإنما بالماضي والمستقبل.
الدستور: “المجتمع والنظام والدولة”
من الصعب التمييز بين علاقة الدستور والدولة والمجتمع والنظام السياسي لأن تلك العناصر المشكلة للدولة متداخلة وذات علاقة بنيوية معقدة مع بعضها ويكمل كل عضو الآخر في بناء متكامل، لكن سندخل بالسياق الطبيعي لمرحلة الوصول إلى الدستور ومساهمته (من عدمها) في بناء الدولة.
الدستور والمجتمع
إن أي علاقة بين طرفين أو أطراف متعددة دائمًا ما تضبط وتنظم بعقد توقع عليه الأطراف المعنية من خلال بنود لا يختلف عليها أي منهم وبالتراضي، وتكون واضحة وثابتة ليس فيها لبس وأساس لكل الاتفاقات والحقوق الأخرى، ليكون ذلك العقد بمثابة الأساس الذي تعود إليه تلك الأطراف في حالات الخِلاف بينها، كما هو معروف قانونيًا “بالعقد شريعة المتعاقدين”.
نظم المفكرون والسياسيون العلاقة بين المجتمع بكل شرائحه والسلطة وأسموه “العقد الاجتماعي” في عصر النهضة الأوربية، وبنوه على افتراض الوصول إلى عقد سياسي هو “الدستور” يؤدي بدوره لبناء الدولة الوطنية التي تقبل وتحتوي جميع المكونات وبمشروع وطني يتعامل مع الجميع بمسافة واحدة، فهو إما أن يكون لبنة وأساس لبناء ما بعده أو يكون معول هدم للدولة، وإما أن يكون عامل للقوة أو عامل للضعف.
ولنفهم ذلك أكثر تتكون الدولة من ثلاثة عناصر هي: الأرض والشعب والسلطة السياسية، بمعنى آخر الجغرافيا والمجتمع والنظام السياسي، ومن يحدد حالة ما قبل الدولة وما بعدها هو وجود دستور ينظم الحياة السياسية والاجتماعية ويقود إلى بناء الدولة بكل ركن من أركانها، وغيابه سيعني الذهاب والعودة التدريجية إلى منظومة اللادولة والمرحلة الفوضوية لما قبلها وما قبل العقد الاجتماعي.
فالدولة حالة متقدمة تبدأ بالعقد الاجتماعي وتمر بصياغة دستور سياسي لتنظيم وتوزيع السلطة وحقوق الأفراد ويؤدي احترام الدستور في النهاية إلى دولة وعدم احترامه أو تغييبه عن الحياة السياسية (وليس عدم وجوده) إلى فوضى عارمة.
الدستور والنظام السياسي
يعد الدستور الصيغة النهائية للتفاعلات السياسية والاجتماعية، ويعبر عن تاريخ وهوية الدولة، يخرج على شكل مواد تُعد “القانون الأعلى” الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة (بسيطة أم مركبة) ونظام الحكم (ملكي أم جمهوري) وشكل الحكومة (رئاسية أم برلمانية) وينظم السلطات العامة فيها من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات والحدود التي بين السلطات ومهام كل سلطة والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات ويضع الضمانات لها تجاه السلطة، فهو يحدد العلاقة بين السلطات وآلية حل الخلافات بينها إن نشبت وتداخلت، ويحدد طبيعة تكوينها.
إن عدم احترام النظام السياسي والقوى السياسية لدستور الدولة، سيؤدي إلى إيقاع نفسه “النظام” بأزمة “شرعية وجود” التي نص عليها الدستور نفسه كما يجري في العراق، وسيؤدي إلى انفراط العقد الاجتماعي الذي صاغته القوى الاجتماعية والسياسية الذي أدى إلى الدستور، خاصة إذا استخدمت القوى السياسية العنف والفوضى في التنافس على السلطة وجرَّت صراعاتها إلى القاع الاجتماعي وفجرت تناقضاته التي لا يمكن ضبطها بسهولة، وسيعني ضمنيًا إسقاط مباشر للدولة وهذا ما يجري في العراق في المرحلة الحاليّة كنتيجة طبيعية لعدم احترام الدستور وتغييبه عن الحياة السياسية.
الدستور والدولة
غياب أو تغييب الدستور عن أي دولة سيعني عدم معرفة آليات التنافس بين القوى السياسية والاجتماعية، وسيستخدم العنف “شريعة الغاب” للوصول إلى الأهداف، وسيغيب احترام العقد الذي صاغه المجتمع وقواه السياسية في لحظة تاريخية مهمة أفرزت نظامًا سياسيًا ودولة وعرّفت الشعب بحقوقه وواجباته.
فغياب أو تغييب الدستور سيعني وضع الدولة والسلطة والنظام بيد شخص مستبد أو جهة مسيطرة أو قوى متعددة تتنافس دون ضوابط ولا آليات واضحة، وسيفتح الباب أمام انهيار سريع للدولة في حال حدوث أي تغير في ميزان القوى.
إن كل ما يجري اليوم في العراق هو نتاج طبيعي لعدم احترام الدستور الذي صاغته ذات القوى التي لا تحترمه ولا تطبقه وسمحت بتمريره في 2005 رغم وجود ألغام ومطبات ساهمت بالخلافات التي عصفت بالعراق طوال 17 عامًا، كما وتتعامل معه بطريقة “قائمة الطعام” تنتقي منه ما يعجبها من المواد وتترك التي لا تحقق مصالحها كما وتفسر مواده الدستورية بحسب توازن القوى، وبالتالي تزداد خروقاته وينفرط عقده مع كل مرحلة.
أخيرًا، إن هذه المرحلة العراقية بحاجة لتعديل الدستور واتفاق الأطراف العراقية على ذلك وبإشراف أممي، ولا بد أن يجري ذلك مع الانتخابات القادمة باستفتاء شعبي، وذلك لإيقاف انحدار الدولة العراقية نحو الفشل الأمني والاقتصادي والسياسي، فأي علاجات ترقيعية لن تنقل العراق إلى أي طريق معبد نحو الاستقرار والأمن إنما إلى مزيد من الفوضى.