لا يمكن – على وجه اليقين – معرفة كيف سارت المفاوضات خلال لقاء السعودية وروسيا مطلع الشهر الحاليّ الذي أعقبه هذا الهبوط التاريخي الذي أوصل أسعار النفط إلى ما دون الـ30 دولارًا. تقول الرواية الأولية إن المشكلة قامت على خلاف في حصص السوق، حيث رأت السعودية أن روسيا تريد الاستئثار بحصة أكبر في السوق وتخطي الاتفاق المبرم بينها وبين أوبك فقررت جعل موسكو تندم على قرار فض التحالف، حسب أحد المصادر التي حضرت الاجتماع، لكن مصادر أخرى عزت الموضوع إلى جانب سياسي أعمق من مجرد خلاف على حصص وعائدات مالية.
فسياسة روسيا النفطية الجديدة تهدف لأمرين: توجيه ضربة قاصمة لشركات النفط الصخري الأمريكية، وشن هجوم مضاد على العقوبات الأمريكية الموجهة نحو شركات الغاز والطاقة الروسية، التي كان آخرها معاقبة المتعاونين مع مشروع نورد ستيم-2 الذي ينقل الغاز بين روسيا وألمانيا، وهو ما عبر عنه الناطق باسم شركة روزنيفت الروسية للنفط ميخائيل ليونتييف قائلًا: “بإخضاع أسواقنا لسقف الإنتاج، نحن نستبدل النفط العربي والروسي رخيص التكلفة لصالح النفط الصخري باهظ الثمن، ونضمن فعاليته في السوق، هذا الاتفاق أشبه بالمازوشية”.
خلال الفترة بين عامي 2011 و2018، ارتفع إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة من 5.4 مليون برميل يوميًا ليصل إلى 11.8 مليون برميل، وأصبح يغطي حاجة الاستهلاك المحلي بنسبة 58% – تحتاج أمريكا إلى 20 مليون برميل يوميًا -، ما جعلها تتصدر إنتاج النفط في العالم.
استفادت شركات تنقيب النفط الأمريكية من ارتفاع الأسعار الحاصل بين عامي 2011 و2014 التي وصل النفط خلالها إلى 90 دولارًا للبرميل، وشكل هذا الصعود تهديدًا لباقي الشركات خاصة مع نجاتها من أزمة العام 2014 حين انخفضت أسعار النفط لما دون 40 دولارًا للبرميل.
مع هبوط الأسعار الآن، أصبحت كثير من الشركات حول العالم – من ضمنها الأمريكية – مهددة بالإفلاس بسبب ارتفاع تكلفة الاستخراج في بعض الدول، إذ تبلغ كلفة إنتاج البرميل الأمريكي الواحد 36 دولارًا، بينما تبلغ 52 دولارًا للبرميل في بريطانيا و48.8 دولار في البرازيل و41 دولارًا في كندا و17 دولارًا في روسيا و10 دولارات في السعودية، وهذا بالضبط ما يبدو أن الروس يطمحون إليه وتقاومه بطريقتهما الخاصة السعودية والإمارات (بعد إعلانها زيادة الإنتاج)، لكن هذه المعركة لها عواقب وخيمة على جميع الدول المصدرة للنفط عدا الولايات المتحدة!
على نفسها جنت أوبك!
حتى مع أكثر التفسيرات منطقية لما يجري التي تقضي بأن السعودية زادت إنتاجها لتكون الخسارة “عليها وعلى أعدائها” ما قد يجبر روسيا على التراجع، تبدو النتيجة عكس ذلك، فدول أوبك الأكثر تضررًا نتيجة اعتماد موازنتها بشكل كبير على النفط، يُضاف لذلك أن روسيا استعدت جيدًا لهذا الاحتمال، إذ قضت خمسة أعوام تقلل من نفقاتها وتبني احتياطيًا بقيمة 550 مليار دولار، وهو ما يقول المسؤولون إنه سيسمح لها بتحمل أسعار ما بين 25 – 30 دولارًا للبرميل حتى لو امتد ذلك عقدًا.
أولى الخطوات الروسية بدأت مع إعلان وزارة المالية سحب 150 مليار دولار من صندوق الثروة الوطني لدعم الميزانية، وهكذا فحتى لو وصل سعر النفط الخام إلى 27 دولارًا للبرميل فإنها لن تحتاج إلا لسحب 20 مليار دولار سنويًا لموازنة الميزانية، وهو ما تؤكده الخبيرة الاقتصادية في شركة Renaissance Capital والمسؤولة السابقة في البنك المركزي الروسي، صوفيا دونتز: “روسيا في وضع يسمح لها بعبور هذه الأزمة سالمة.. سيكون الأمر صعبًا، لكن لديها ما يكفي من الموارد لتجاوز الهبوط”.
قد لا تكون المبارزة النفطية الحاليّة هي الأولى بين روسيا والسعودية وربما لن تكون الأخيرة
على الجانب الآخر، ورغم أن السعودية تنوي استخدام احتياطيها النقدي، لا يبدو الوضع مماثلًا للجانب الروسي مع انحفاض الاحتياطات المالية عما كانت عليه في 2014، واعتماد المملكة على النفط بـ65% (قياسًا بـ37% في روسيا) من موازنتها العامة، موازنة تعاني أساسًا من عجز بلغ 50 مليار دولار، ومع الانخفاض الجديد ستحتاج إلى 70 مليار دولار لتفادي عجز منتظر بقيمة 120 مليارًا، ما يعني أن الرياض بحاجة إلى سعر لا يقل عن 80 دولارًا للبرميل، مقابل 42 دولارًا تحتاجها روسيا عن كل برميل نفط تبيعه.
بغض النظر عن عناد الطرفين، تبدو دول أوبك وأغلبها ممن يعتمد موازنة ترتكز على الإنفاق الحكومي في مأزق كبير خاصة أزمة فيروس كورونا التي عطلت الحياة فيها، العراق كان أول من نادى بضرورة تعديل الأوضاع مع دعوة وزير النفط ثامر الغضبان لعقد مؤتمر طارئ لأعضاء أوبك واتخاذ قرار بشأن خفض الإنتاج، ويمكن القول إن الصرخة التي أطلقها العراق مكبوتة في الدول الأخرى ولا تنتظر إلا بعض الوقت! وهنا يُطرح السؤال: من المستفيد من كل هذا؟
قد تكون الضربة ساحقة بالنسبة لشركات النفط الأمريكية، لكن الأمر عكس ذلك بالنسبة للمستهلكين الأمريكان وكذلك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أقل الخاسرين من هذا الصدام وذلك لأسباب ثلاث:
1. حتى مع الخسائر الرهيبة لشركات النفط، لا يُتوقع أن يمتنع العاملون في القطاع عن التصويت لصالحه، لأن البديل الآخر “بيرني ساندرز أو جو بايدن” وعدا بتنفيذ “الصفقة الخضراء الجديدة” “green new deal” التي تهدف لمعالجة التغير المناخي بتقليل الانبعاثات الغازية ما يعني تهديدًا وجوديًا لكل شركات النفط والغاز.
2. إحدى النتائج العرضية لانخفاض أسعار النفط هي انخفاض أسعار الغاز، وهو أمر يريده المستهلكون كما تشير إلى ذلك الخبيرة في الشأن الاقتصادي إلين والد قائلة: “هذا الهبوط أمر إيجابي وذو تأثير نفسي كبير بالنسبة لعامة الناس خاصة مع تجاوز الأسعار لأقل من دولارين في 17 ولاية، أمر سيعم بالربح على كل شركات النقل والطيران في أمريكا، وهو ما أكده ترامب في تغريدة له”.
3. إلى حين وقت الانتخابات، يمكن معالجة الأضرار الناجمة لتلك الشركات، فارتفاع أسعار النفط سينعش حظوظها وحظوظ شركات جديدة ستحصل على فرصة في السوق الأمريكية، وبكل الأحوال لن يكون ترامب الملام الوحيد في هذه الأزمة مع اجتياح فيروس كورونا العالم وتأثيره الكبير حتى قبل الأزمة على أسعار النفط.
هل حان وقت الطاقة البديلة.. لهذا العبث؟
قد لا تكون المبارزة النفطية الحاليّة هي الأولى بين روسيا والسعودية وربما لن تكون الأخيرة، لكن الأمر مختلف هذه المرة من حيث تأثيره على صناعة النفط نفسها في ظل منافسة تبدو حقيقة من الطاقة المتجددة، فانهيار أسعار النفط أمر متوقع مسبقًا والأمور سارت كما كانت الأوضاع توحي في السوق وغالبًا ستنتهي كما هو متوقع، ستدرك المملكة العربية السعودية قريبًا – كما فعلت عام 2015 – أن قرارها المميت بضخ المزيد من النفط لا يقتصر على قتل النفط الصخري والإضرار بالاقتصاد الروسي فحسب، بل على اقتصادها أيضًا.
لن يكون من الغريب رؤية الرياض تطرق أبواب موسكو مرة أخرى، وبمجرد انهيار النفط الأمريكي، ستستأنف روسيا تعاونها مع المملكة العربية السعودية، وفي حال تعافي الاقتصاد العالمي من أزمة كورونا بحلول ذلك الوقت، ستؤدي التخفيضات في المعروض من البلدين إلى تسريع انتعاش سوق النفط وبالتالي سيعود النفط الصخرى مرة أخرى لينتعش مجددًا!
بينما تتعرض صناعة الوقود الهيدروكربوني لضربات تقلل عمرها، ينشغل الطرفان بالمقامرة بشأن قدرة الآخر على التحمل وإمكانيته على الصمود
مع ذلك، لا يزال هناك عاملان رئيسيان يعيدان تشكيل أسواق النفط والغاز:
-
تأثر أرباح صناعة النفط بسبب النفط الصخري.
-
الضغط المستمر من الطاقة المتجددة على القطاع.
أدى اجتماع هذين العاملين لوضع الصناعة الهيدروكربونية بأكملها تحت الضغط، ما يعني ورادات أقل من البترودولار لدول أوبك، وأرباحًا أقل لشركات النفط التي تشكل تقليديًا شريحة كبيرة من أسواق الأسهم، وهي مورد مهم لكثير من صناديق التقاعد الغربية.
لنبدأ بالعامل الأول: تاريخيًا، أدت المزايا الجيولوجية الفريدة إلى تحويل النفط في دول مثل المملكة العربية السعودية إلى سلعة مربحة للغاية، نظرًا لأن النفط والغاز يُنتجان بتكلفة أقل بكثير من سعر السوق وبالتالي درت أموالًا كثيرة، علاوة على ذلك، كان الاتفاق بين المنتجين منخفضي التكلفة إستراتيجية رابحة، وهو ما أدى لظهور منظمة الدول المنتجة للنفط التي تٌعرف اختصارًا بـ”أوبك”، كانت المنظمة تعوض على الدوام خسارة الحصة السوقية من خلال تخفيض الإنتاج ما يؤدي إلى رفع الأسعار مباشرة.
حين ظهر النفط الصخري في الولايات المتحدة، أحدث ثورة غيرت كل هذا، فجأة ظهرت منطقة كبيرة منتجة للنفط مع قدرة ملحوظة على الاستجابة بسرعة لتغيرات الأسعار وتقليص تكاليفها بمرور الوقت، ما جعلها منافسًا كبيرًا لباقي الشركات، خاصة مع قدرتها الإنتاجية الكبيرة التي وضعت أمريكا في المرتبة الأولى عالميًا، هذا الأمر أصبح يضر بربحية الصناعة النفطية نفسها، ولهذا السبب تحديدًا رفضت روسيا خفض الإنتاج هذا الشهر كما يرجح الدكتور بيير نويل الباحث الأقدم في معهد دراسة الطاقة في لندن الذي قال: “حتى لو أدى خفض الإنتاج إلى رفع الأسعار العالمية – وهو أمر مشكوك فيه بالنظر إلى الصدمة الهائلة التي أحدثها اندلاع فيروس كورونا – فهذا سيؤدي لإبطاء انكماش النفط الصخري وهو ما لا تريده موسكو بالتأكيد”.
على الناحية الأخرى، ظهرت ثورة الطاقة المتجددة لتزيد الطين بلة، فأصبحت الرياح والطاقة الشمسية في جميع أنحاء العالم أرخص من أي وقت مضى لتوليد الكهرباء، حتى في الولايات المتحدة ، تعمل مصادر الطاقة المتجددة على إزاحة الفحم والغاز، كما أن استخدام الكهرباء كبديل في السيارات والطائرات والسفن سيضعف الطلب أكثر. هذا لا يعني بالتأكيد أن نهاية صناعة الوقود الأحفوري على الأبواب، لكنه يعني أن نهاية الهيدروكربونات كصناعة مربحة بدأت تظهر جليًا في ظل حاجة السوق لمصدر طاقة موثوق لا يتأثر بالعوامل الجيوسياسية.
بالمحصلة، بينما تتعرض صناعة الوقود الهيدروكربوني لضربات تقلل من عمرها، ينشغل الطرفان بالمقامرة بشأن قدرة الآخر على التحمل وإمكانيته على الصمود، أمر يشبهه الخبير بشؤون النفط في مركز “أتلانتك كاونسل” جان فرانسوا سيزنك بالطريقة التي بدأت بها الحرب العالمية الأولى حين ذهبت كل من ألمانيا وفرنسا إلى الحرب، ظنًا منهما أن الأمر سيصل إلى نهايته مع حلول أعياد الميلاد، ثم قضتا أربع سنوات في الخنادق، فمن سيطلق الصرخة الأولى هذه المرة؟