ترجمة وتحرير: نون بوست
لإيقاف تفشي فيروس كورونا، سنحتاج إلى إجراء تغيير جذري لكل ما نقوم به تقريبًا، بما في ذلك الطريقة التي نعمل بها ونمارس خلالها الرياضة والتواصل الاجتماعي والتسوّق فضلا عن الاعتناء بصحتنا وتعليم أطفالنا ورعاية أفراد الأسرة. عموما، يُريد جميعنا أن تعود الأمور إلى طبيعتها بسرعة، ولكن ما لم يدركه معظمنا على الأرجح، هو أن الأمور لن تعود إلى نصابها بعد بضعة أسابيع، أو حتى أشهر قليلة، كما أن بعض الأشياء لن تعود إلى طبيعتها أبدا.
من المتفق عليه حاليا على نطاق واسع (حتى من قبل بريطانيا) أن كل بلد يحتاج إلى “إبطاء معدل الإصابة بالفيروس”، أي فرض التباعد الاجتماعي لإبطاء انتشار الفيروس حتى لا يتسبب عدد المرضى المصابين في آن واحد في انهيار نظام الرعاية الصحية، مثل ما يبدو أنه على وشك أن يحدث في إيطاليا في الوقت الراهن. ويعني ذلك أنه لا بد أن يستمر انتشار الجائحة بنسق منخفض، حتى يُصبح عدد كافٍ من الأشخاص المصابين بمرض فيروس كورونا 2019 محصنين ضده (بافتراض أن المناعة تستمر لسنوات، وهو أمر لسنا متأكدين منه) أو إلى أن يوجد لقاح للمرض.
لسائل أن يسأل، كم من الوقت سيستغرق ذلك؟ وإلى أي مدى يجب على القيود الاجتماعية أن تكون قاسية؟ من جهته، قال الرئيس دونالد ترامب يوم أمس أثناء إعلانه عن مبادئ توجيهية جديدة على غرار احتواء التجمعات لعشرة أشخاص فقط كحد أقصى، إنه “مع قضاء عدة أسابيع في العمل المركز، يمكننا قلب الموازين وتغييره بسرعة”. في الصين، بدأت الأسابيع الستة التي قضاها الصينيون في الحجر الصحي العسكري تأتي أُكلها بعد أن بدأ عدد الحالات الجديدة في التضاؤل.
مع ذلك، لن ينتهي الأمر عند هذا الحد. وطالما هناك أشخاص في العالم مصابون بالفيروس، يمكن أن يستمر هذا الفيروس في التفشي إذا لم تتوفر ضوابط صارمة لاحتوائه. وفي تقرير صدر يوم أمس، اقترح الباحثون في كلية لندن الإمبراطورية طريقة لاحتواء الفيروس من خلال فرض إجراءات تباعد اجتماعي أكثر صرامة في كل مرة ترتفع فيها الحالات التي تستوجب الانتقال لوحدات العناية المركزة، وتخفيف هذه الإجراءات في كل مرة يتضاءل فيها عدد الحالات. وفيما يلي الرسم البياني الذي يوضح ذلك.
النوبات الدورية للتباعد الاجتماعي تبقي الوباء تحت السيطرة.
يحدد الخط البرتقالي عدد الحالات المقبولة في وحدات العناية المركزة. وفي كل مرة يتجاوز فيها العدد الحد الأدنى، لنقل 100 شخص في الأسبوع، ستغلق البلاد جميع المدارس ومعظم الجامعات وتتقيد بالتباعد الاجتماعي. أما عندما يقل عدد الحالات عن 50 حالة، فستُرفع هذه التدابير. في المقابل، سيظل الأشخاص الذين يعانون من الأعراض أو الذين يعاني أفراد أسرهم من الأعراض محبوسين في المنزل.
ما الذي يعتبر “تباعدا اجتماعيا”؟ يعرّف الباحثون التباعد الاجتماعي على أنه العملية التي “تقلل فيها جميع الأسر اتصالها مع الناس خارج المنزل أو المدرسة أو مكان العمل بنسبة 75 بالمئة”. لكن لا يعني ذلك أنك ستقضي الوقت مع أصدقائك خارج المنزل مرة واحدة في الأسبوع بدلاً من أربع مرات. بمعنى آخر، يجب على كل شخص أن يفعل كل ما بوسعه لتقليل الاتصال الاجتماعي، ما سيؤدي إلى انخفاض دائرة المعارف بنسبة 75 بالمئة.
في ظل هذا النموذج، خلص الباحثون إلى أن التباعد الاجتماعي وإغلاق المدارس يجب أن يكون ساري المفعول حوالي ثلثي الوقت، أي تفعيله لحوالي شهرين ثم التوقف عن تفعيله لشهر واحد، حتى يتوفر اللقاح الذي سيستغرق صنعه وتوزيعه 18 شهرًا على الأقل (في حال نجاحه). كما أشار الباحثون إلى أن النتائج “متشابهة نوعيا بالنسبة للولايات المتحدة”.
ثمانية عشر شهراً؟ يجب أن تكون هناك بالتأكيد حلول أخرى. لماذا لا توفر الدول المزيد من وحدات العناية المركزة أو تعالج المزيد من الناس في وقت واحد على سبيل المثال؟ وفقا لنموذج الباحثين، لن تحل مثل هذه التدابير المشكلة. في الواقع، وجد الباحثون أنه دون التباعد الاجتماعي لجميع السكان، سيؤدي حتى اتباع أفضل استراتيجية للتخفيف من انتشار الفيروس، على غرار عزل أو وضع المرضى وكبار السن وأولئك الذين تواصلوا مع المرضى في الحجر الصحي بالإضافة إلى إغلاق المدارس، إلى ارتفاع عدد الأشخاص المصابين بأمراض خطيرة بنسبة أكبر بثماني مرات مما يُمكن لنظام الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أن يتحمله.
(في المنحنى الأزرق في الرسم البياني أدناه؛ يشير الخط الأحمر المسطح إلى العدد الحالي لأسرة وحدة العناية المركزة)، وحتى إذا طالبت المصانع بإنتاج الأسرة والمروحات وجميع المرافق والمستلزمات الأخرى، فستظل بحاجة إلى المزيد من الممرضات والأطباء لرعاية الجميع.
في جميع الحالات التي لا يُنفذ فيها التباعد الاجتماعي على نطاق واسع، يطغى عدد حالات فيروس كورونا على نظام الرعاية الصحية. ولكن، ماذا عن فرض قيود على دفعة واحدة فقط من خمسة أشهر أو نحو ذلك؟ في الحقيقة، لا يعد ذلك جيدا. فبمجرد رفع الإجراءات، ستنتشر الجائحة من جديد، في فصل الشتاء فقط، وهو ما يعد أسوأ وقت بالنسبة لأنظمة الرعاية الصحية المحملة فوق طاقتها.
إذا وقع فرض التباعد الاجتماعي وتدابير أخرى بصفة شاملة لمدة خمسة أشهر، ثم رفعها، ستظهر الجائحة من جديد.
ماذا لو قررنا أن نكون وحشيين، من خلال رفع مستوى الحد الأدنى للقبول في وحدة العناية المركزة بهدف تحفيز التباعد الاجتماعي، وقبول فكرة أن المزيد من المرضى سيلقون حتفهم؟ في الحقيقة، تبين أنه لا يوجد فرق كبير. فحتى عندما يتعلق الأمر بالسيناريوهات الأقل صرامة للكلية الإمبراطورية، فإننا سنجد صعوبات في أكثر من نصف الوقت. ولا يمثل ذلك خللا مؤقتًا، بل يمثل بداية أسلوب حياة مختلف تمامًا.
العيش في ظل تفشي جائحة
على المدى القصير، سيكون هذا الأمر مدمرًا بشكل كبير لأعمال التجارية التي تعتمد بشكل أساسي على الأشخاص الذين يجتمعون بأعداد كبيرة؛ على غرار المطاعم والمقاهي والحانات والنوادي الليلية وصالات الرياضة والفنادق والمسارح ودور السينما والمعارض الفنية ومراكز التسوق والمعارض الحرفية والمتاحف والموسيقيين وغيرهم من مؤديي العروض والملاعب الرياضية (والفرق الرياضية) وأماكن انعقاد المؤتمرات (ومنتجي المؤتمرات) وخطوط الرحلات البحرية وشركات الطيران والنقل العام والمدارس الخاصة ومراكز الرعاية النهارية.
في المقابل، لا يعني ذلك شيئًا مقابل الضغوط التي يمارسها الآباء على الأطفال من أجل تعليمهم في المنزل، والأشخاص الذين يحاولون رعاية أقاربهم المسنين دون تعريضهم لعدوى الفيروس، ناهيك عن الأشخاص الذين يربطون علاقات مؤذية مع شركائهم، وأي شخص ليس لديه احتياطي مالي يخول له التعامل مع التقلبات التي تطرأ على دخلهم.
علاوة على ذلك، سيجد الناس حلولا تمكنهم من التأقلم مع الوضع بالطبع. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تبدأ صالات الألعاب الرياضية في بيع المعدات المنزلية وتنظيم جلسات التدريب عبر الإنترنت. وعموما، سنرى انفجارًا في الخدمات الجديدة، التي تندرج ضمن “الاقتصاد المغلق”.
يمكن للمرء أن يتأمل في الطريقة التي قد تتغير بها بعض العادات، حيث يمكن أن يلجأ الناس إلى القيام برحلات تقوم على حرق كمية أقل من الكربون، واعتماد المزيد من سلاسل التوريد المحلية، ورياضة المشي وركوب الدراجات. في المقابل، سيكون من المستحيل معالجة تعطّل سير عمل العديد من الشركات التجارية وموارد الرزق، نظرا لأن أسلوب الحياة المغلق لا يعد حلا مستدامًا على المدى الطويل.
من هذا المنطلق، كيف سنعيش في هذا العالم الجديد؟ نأمل في أن يرتبط جزء من الإجابة بإرساء أنظمة رعاية صحية أفضل، مع إنشاء وحدات الاستجابة للجائحات التي يمكن أن تتحرك بسرعة لتحديدها قبل أن تبدأ في الانتشار، ناهيك عن القدرة على تكثيف إنتاج المعدات الطبية، ومعدات الاختبار والأدوية. ومن المرجح أن يكون ذلك متأخرًا للغاية لإيقاف انتشار فيروس كورونا المستجد. في المقابل، سيساهم اتخاذ مثل هذه الإجراءات في التصدي لأية أوبئة في المستقبل.
على المدى القريب، من المحتمل أن نتوصل لحلول وسط غريبة تتيح لنا الاحتفاظ ببعض مظاهر الحياة الاجتماعية. وربما ستشغل دور السينما نصف مقاعدها، وستعقد الاجتماعات في غرف أكبر مع كراسي متباعدة. فضلا عن ذلك، ستطلب منك الصالات الرياضية حجز وقت التمارين مسبقا حتى لا تكون الصالة مزدحمة. مع ذلك، أتوقع في نهاية المطاف أننا سنستعيد القدرة على الاختلاط بأمان من خلال تطوير طرق أكثر تعقيدًا لتحديد الأشخاص المعرضين لخطر الإصابة بالمرض فضلا عن غير المصابين به. في المقابل، من الناحية القانونية، يعد هذا الإجراء التمييزي ضد المصابين.
ما لم تكن هناك قواعد صارمة حول كيفية تقييم مخاطر الإصابة بالأمراض، يمكن للحكومات أو الشركات وضع أي معايير مناسبة لها
في الوقت الراهن، يمكننا أن نلمس ذلك في التدابير التي تتخذها بعض البلدان. وعموما، ستستخدم إسرائيل بيانات موقع الهاتف الخلوي التي تتتبع بها المخابرات الإرهابيين لتعقب الأشخاص الذين كانوا على اتصال مع حاملي الفيروس المعروفين. حينها، تقوم سنغافورة بتتبع جهات الاتصال بشكل شامل وتنشر بيانات تفصيلية حول كل حالة معروفة. وسنتخذ كل هذه الخطوات مع عدا تحديد أسماء الأشخاص المصابين بالاسم.
في الواقع، لا ندرك كيف ستكون ملامح هذا المستقبل الجديد. في المقابل، يمكن للمرء أن يتخيل عالمًا ربما يتعين عليه فيه التسجيل في خدمة تتبع تحركاتك وتنقلاتك عبر الهاتف حتى يتمكن من السفر في رحلة جوية. علاوة على ذلك، لن تتمكن شركة الطيران من رؤية وجهتك، ولكنها ستتلقى تنبيهًا إذا كنت قريبًا من الأشخاص المصابين أو الأماكن الساخنة المرضية.
ستكون هناك متطلبات مماثلة عند دخول الأماكن الكبيرة أو المباني الحكومية أو محاور النقل العام. كما ستكون هناك ماسحات درجة حرارة في كل مكان، وقد يطلب منك مكان عملك ارتداء جهاز مراقبة لتتبع درجة حرارتك أو مؤشرات حيوية أخرى. عندما تطلب النوادي الليلية إثباتًا للعمر، فقد يطلبون في المستقبل دليل الحصانة أي مثل بطاقة هوية أو نوع من التحقق الرقمي عبر هاتفك، الذي يدل على أنك تعافيت بالفعل من أحدث سلالات الفيروس أو تلقيت تطعيما ضدها.
تبعا لذلك، سنتكيف مع هذه الإجراءات ونقبلها، مثلما تكيفنا مع عمليات الفحص الأمني الصارمة للمطارات في أعقاب الهجمات الإرهابية. وستعتبر المراقبة المتطفلة ثمنا صغيرا تدفعه مقابل حصولك على الحرية الأساسية لتكون رفقة أشخاص آخرين. كالعادة، ستتحمل التكلفة الحقيقية لهذه الإجراءات الطبقة الأفقر والأضعف في المجتمع. وفي الوقت الراهن، سيقع استبعاد الأشخاص الذين يحصلون على خدمات رعاية صحية أقل، أو أولئك الذين يعيشون في مناطق أكثر تعرضًا للأمراض، بشكل متكرر من الأماكن والفرص المتاحة للجميع.
من جانب آخر، سيلاحظ العمال المستقلين بداية من من السائقين والسباكين وصولا إلى مدربي اليوغا المستقلين، أن وظائفهم أضحت أكثر خطورة. بالإضافة إلى ذلك، سيواجه المهاجرون واللاجئون وأصحاب السوابق الجنائية أولئك غير المعروفين منهم عقبة أخرى أمام الحصول على موطئ قدم في المجتمع.
ما لم تكن هناك قواعد صارمة حول كيفية تقييم مخاطر الإصابة بالأمراض، يمكن للحكومات أو الشركات وضع أي معايير مناسبة لها. وعلى سبيل المثال، من المحتمل أن تكون معرضا لخطر كبير إذا كنت تكسب أقل من 50 ألف دولار سنويًا وتعيش في عائلة تضم أكثر من ستة أشخاص، وتقطن في مناطق معينة من البلاد.
مما لا شك فيك أن العالم تغير مرات عديدة، وسيتغير مرة أخرى. لذلك، سيتعين علينا جميعًا التكيف مع طريقة جديدة للعيش والعمل وإقامة العلاقات. ولكن كما هو الحال مع جميع التغييرات، سيكون هناك البعض الذين يتكبدون خسائر مقارنة بغيرهم. وأفضل ما يمكن أن نأمله هو أن عمق هذه الأزمة سيجبر البلدان، لاسيما الولايات المتحدة، على إصلاح التفاوتات الاجتماعية المتفاقمة التي تجعل شرائح كبيرة من مجتمعها هشة وضعيفة بشكل كبير.
المصدر: تكنولوجي ريفيو