إن الزعامة والطريق مخوفةٌ .. غير الزعامة والطريق أمان
– فؤاد الخطيب
فرقٌ بين الزعامة والقيادة، فليس كل قائدٍ زعيمٌ بالضرورة، والزعامة في الشعوب نادرة ندرة الكبريت الأحمر، وحيثما وجدت الشعوب زعيمًا عضت عليه بالنواجذ وتشبثت به تشبث الطفل بأمه في العتمة المخيفة، فإن رأيت قومًا يفرطون بزعاماتهم فاعلم بأنهم نكبوا في أنفسهم نكبةً يجدون ثمارها النكدة حين تتخطفهم الدروب الوعرة.
إعلاء مصلحة المجموع على الذات
كان السياسي السوري عصام العطار (93 عامًا) ذا نظرة سياسيةٍ ثاقبةٍ يدرك ما يدور حوله بعين السياسي وفراسة المفكر وعمق المحلل، فكان موقفه عام 1957 عدم مشاركة جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية لتقديره أن هناك ظروفًا ووقائع تم ترتيبها للحيلولة دون نجاحهم، غير أن قرار الجماعة كان خلاف ذلك، وخاض الدكتور مصطفى السباعي المراقب العام للجماعة الانتخابات التي منيت فيها الجماعة بخسارة كبيرة وقد تحقق ما حذر منه العطار من التلاعب والتزوير.
أصيب السباعي بالشلل إثر ذلك، وصار العطار القائم الفعلي بشؤون المراقب العام للجماعة في ظل مرض السباعي الشديد.
قامت الوحدة بين مصر وسوريا على يد عبد الناصر الذي اشترط حل الأحزاب والتنظيمات، ولم يكن هناك أي خلافٍ داخل الجماعة التي تتوق إلى الوحدة وتنادي بها وتؤصل لها، فأعلن السباعي حل الجماعة.
وفي مسجد جامعة دمشق حيث يولي آلاف الشباب وجوههم يوم الجمعة كان عصام العطار المتمسك بالوحدة والمنظر لها الصوت الأبرز في مواجهة طغيان عبد الناصر الذي زاد عن حد الاحتمال، فكان يهدر بالحق منتقدًا الإجراءات القمعية التي تفرضها سلطات الوحدة، وكان يعلن بوضوحٍ بأن طريق الوحدة يتناقض مع الديكتاتورية، ويحذر عبد الناصر من مغبة انتقاص حقوق الإنسان وأن ذلك سيكون وبالًا على الوحدة برمتها.
أعلن عصام العطار من على المنبر رفضه لاستلام العظمة رئاسة الوزراء كونه شيوعيًا سيحرف سوريا عن توجهها العربي والإسلامي
وفعلًا وقع ما حذر منه العطار وأعلن الانفصال، وقع القوميون والشيوعيون والاشتراكيون الذين كانوا يعلنون تأييدهم لعبد الناصر على وثيقة الانفصال، وبعضهم ممن أسس هذه الوحدة أمثال أكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار، أما الإخوان فقد اختلفوا في الرأي غير أن العطار كان حازمًا واضحًا في رفض التوقيع على وثيقة الانفصال بأي شكلٍ من الأشكال، واستطاع توحيد الإخوان على رأيه فأعلنوا جميعًا رفضهم للانفصال على الرغم من أنهم كانوا الأكثر تعرضًا للاضطهاد في ظل الوحدة.
وكان العطار يجيب عندما يسأل عن سبب رفضه التوقيع على وثيقة الانفصال: “كيف تريدونني أن أبارك حركةً هدمت حلمًا يسكن أبناء الأمة منذ قرون، إن خلافنا مع نظام الوحدة شيء، وتمسكنا بالوحدة شيء آخر” وكانت عبارته التي يرددها على منبر مسجد الجامعة: “إن الوحدة أكبر من أخطائها”.
من على المنبر أسقط الانقلابات والحكومات
بعد الانفصال لم يتوقف العطار عن رسالته الداعية إلى إرساء الحرية السياسية، فدعا الحكم الجديد إلى انتهاج الديمقراطية.
دعا معروف الدواليبي المكلف بتشكيل الوزارة عصام العطار للمشاركة فيها، غير أن العطار أعلن بكل وضوح: “لا يمكنني القبول بالمشاركة في حياةٍ تقول إنها ديمقراطية ولكنها جاءت بانقلابٍ عسكري، وهذه الانتخابات لن تعيش طويلًا حتى يتم الانقلاب عليها من جديد”.
وفعلًا كان ما توقعه وبعد أشهر وقع الانقلاب الذي أطاح بالرئيس ناظم القدسي، وتم اختيار 13 شخصيةً لاستلام الحكم وكان من بينها عصام العطار الذي أعلن من على منبر مسجد الجامعة رفضه للانقلاب ورفضه للمشاركة في لجنة استلام الحكم وطالب بإعادة رئيس الجمهورية المنقلب عليه مع تهديد بإجراءات شعبية مناهضة للانقلاب فما كان من سلطة الانقلاب إلا الرضوخ والإفراج عن الرئيس ناظم القدسي وإعادته إلى رئاسة الجمهورية.
أجبرت سلطة الانقلاب الرئيس قدسي على اختيار بشير العظمة لمنصب رئاسة الوزراء، فأعلن عصام العطار من على المنبر رفضه لاستلام العظمة رئاسة الوزراء كونه شيوعيًا سيحرف سوريا عن توجهها العربي والإسلامي وطالب بتشكيل حكومة ائتلافية يشارك فيها الجميع أو حكومة حيادية يطمئن إليها الجميع، فدعاه الرئيس إلى القصر الجمهوري وعرض عليه أن يقبل ببشير العظمة رئيسًا للوزارة مقابل أن يختار أربعة وزراء يسميهم بنفسه؛ فرفض العطار هذا العرض وما كان من حكومة بشير العظمة أمام موقف العطار إلا أن تقدم استقالتها.
ما زال السوريون منذ تولى البعث الحكم يتقلبون في محن يتبع بعضها بعضًا، ومن أهم المعضلات التي يعيشونها غياب الزعامة التي تجمع القوم وتتصدى للمحن بمسؤوليةٍ عالية
وفور انقلاب البعث عام 1963م اشرأبت الأعناق لموقف عصام العطار فزحفت عشرات الألوف إلى مسجد الجامعة في أول خطبة عقب الانقلاب لتجد المسجد محاطًا بعشرات الدبابات، وكل هذا لم يرهب العطار الذي خطب خطبةً عظيمة قال فيها:
“صفحتنا أنصع من أي صفحة، وجبهتنا أرفع من أي جبهة، وطريقنا أقوى من أي طريق، وأنا أتحدى كل إنسان كائنًا من كان أن يضع ذرة من الغبار، لا أقول على جباهنا المرتفعة، ولكن على أحذيتنا وأقدامنا، وأعلن أنني أرفض أي ضربٍ من ضروب الحكم الديكتاتوري الاستبدادي، والطغاة الماضون سقطوا طاغيةً بعد طاغيةٍ بعد طاغيةٍ تحت أقدامنا ونحن على هذا المنبر، وسيذهب الطغاة الجدد كما ذهب الطغاة القدماء”
وبعدها مباشرةً فرضت قوى الانقلاب عليه الإقامة الجبرية إلى أن خرج إلى الحج عام 1964 ومنع من العودة إلى سوريا بعد ذلك ليتنقل في منافي الأرض وليحط رحاله في منفاه الأخير في مدينة آخن الألمانية.
ضيعه الإخوان
عقب وفاة الدكتور مصطفى السباعي عام 1964 اختير العطار مراقبًا عامًا لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وبعد استلامه بدأت رحلة التشكيك في أهليته للقيادة من أجنحة الإخوان المختلفة.
تمزق الإخوان السوريون مناطقيًا بين دمشق وحلب وحماة، وكان لهذا التمزق أثرٌ في إضعاف تأثير العطار داخل التنظيم، الذي كان يتهم من الإخوان بالاستبداد حينًا والتفرد بالقرار أحيانًا وغموض الطباع حينًا آخر، وفي الحقيقة أن الخلافات تحمل طابعين اثنين رئيسين هما التعصب المناطقي والانتصار للذات، فهي خلافات شخصية لا تكاد تجد فيها شيئًا يخضع لمنطقٍ.
بلغت الخلافات ذروتها عام 1972 لتتخذ الجماعة قرارًا بعزل الأستاذ عصام العطار وتعيين الشيخ عبد الفتاح أبو غدة مراقبًا عامًا للإخوان، وبقي العطار يحمل في قلبه غصةً وحرقةً من هذا القرار الذي كان يتحدث عنه بألمٍ ويلمح إلى أنه كان استجابةً لرغبات وطلبات بعض الدول التي لم يكن يروقها وجود العطار على رأس قيادة الإخوان، ليغدو العطار من حينها خارج صفوف الجماعة ولا أثر له في توجهاتها أو قراراتها رغم ما بقي يحمله من ود وعلاقة طيبة مع بعض أركانها.
ضيعه السوريون
ما زال السوريون منذ تولى البعث الحكم يتقلبون في محن يتبع بعضها بعضًا، ومن أهم المعضلات التي يعيشونها غياب الزعامة التي تجمع القوم وتتصدى للمحن بمسؤوليةٍ عالية، إضافة إلى تمزق الصفوف وتشرذم الكيانات وتفرق الكلمة.
وتحت وطأة التصنيف المهيمنة تعامل المجموع مع العطار على أنه شخصيةٌ إخوانية لا على أنه شخصية سورية جامعةٌ تحمل مواصفات زعامة فذة، فلم يفيدوا منه وتم إقصاؤه واستبعاده تحت عناوين عدة تصب كلها في خانة تصنيفه الإخواني.
وحق للعطار أن يردد وهو على فراش المرض الشديد مخاطبًا الإخوان خصوصًا والسوريين عمومًا:
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا .. لِيومِ كريهةٍ وسِدادِ ثغر