منذ الوهلة الأولى لإعلان الصين عن اكتشاف فيروس كورونا الجديد (Covid-19) في ولاية ووهان، ديسمبر الماضي، وما تلاه من قرارات وقف عجلة الانتاج لعشرات المصانع والشركات العالمية، ذهب البعض إلى أن نجم الصين بدأ في الأفول، وأن الإمبراطورية الاقتصادية الثانية عالميًا ستكون المتضرر الأول لمثل هذه الأزمة.
لكن ما أن انقضت الأشهر الثلاثة الأولى لهذا الفيروس الذي تحول إلى وباء عالمي، بدأت بكين في استحداث استراتيجية قاسية في التعامل معه، نجحت خلال الأيام الماضية في تحجيم تمدد كورونا بصورة أثارت الكثير من التساؤلات المصاحبة للجدل، في الوقت الذي يئن فيه العالم بمختلف توجهاته من تأثيره الذي أصاب الكثير من الاقتصاديات بالشلل.
المتابع لبدايات انتشار الفيروس يلاحظ أنه مثًل وبصورة كبيرة دعاية سلبية للحكومة الصينية، لكن اليوم وقد بدأ عدد الحالات يتناقص بحدة فيها ويتزايد في غيرها من دول العالم لاسيما منافسين الصين الأكبر، الولايات المتحدة وأوروبا، هنا قلبت بكين الصورة لصالحها على أكثر من مستوى.
فالغرب المتقدم الذي اطمأن بداية أن كورونا مجرد جائحة صينية بحتة وجد نفسه اليوم بؤرة الفيروس الرئيسية، بعد أن نجح الصينيون في السيطرة على الوباء عبر الالتزام والتعاون في ضوء إجراءات وقائية وصفت بـ “القاسية” لكنها في النهاية أثبتت القدرة على عبور المرحلة الحرجة التي كان يمكن أن تمثل ضربة قاصمة لثاني أكبر اقتصاديات العالم.
وبعيدًا عن السجال الدائر بشأن الاتهامات المتبادلة بين واشنطن وبكين بشأن مسئولية كل منهما عن انتشار هذا الفيروس للتأثيرعلى الأخر، في إطار الحرب التجارية المستعرة بينهما، إلا أن الأمور وصلت إلى مآلات أخرى بعدما تجاوز الوباء الحدود الجغرافية الصينية كبؤرة أولية لتفشي الفيروس، ليتحول إلى شبح يؤرق مضاجع صناع القرار في مختلف دول العالم.
توظيف الأزمة
في الوقت الذي استخدمت فيه إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، الوباء للتنصل من الاندماج العالمي، حرصت الإدارة الصينية على توظيف الأزمة لإظهار عزمها على قيادة العالم بصفتها البلد الأوّل الذي تعرّض لضربة الفيروس، وهو ما ألمحت إليه مجلة “فورين أفيرز” الأميركية في تقرير لها.
التقرير أشار إلى أن الصينيون عانوا بشدّة على مدار الأشهر الثلاث الفائتة، لكنهم يتماثلون للتعافي في الوقت الحالي الذي يشهد استسلام بقية العالم للوباء، وبينما حرصت كل دولة على الانكفاء على نفسها فيما يتعلق بالصناعات الطبية المطلوبة للوقاية لمواجهة هذا الفيروس، فتحت الصين الباب على مصراعيه لتزويد العالم بتلك المستلزمات.
فبرغم الأخطاء المرتكبة في البداية والتي من المُرجَّح أن تُكلِّف آلافا من الأرواح؛ تعلّمت الصين كيف تكافح الفيروس الجديد، ساعدها على ذلك ما تملكه من مخزون كبير من المعدات اللازمة لصناعة المستلزمات الطبية، وهي الأصول التي وظفتها بصورة جيدة لتسويق نفسها من جديد كأحد الروافد الرئيسية لطمأنة العالم.
ووفق المجلة الأمريكية فقد ناشدت دول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها إيطاليا، بداية مارس الحالي، توفير معدات طبية للطوارئ بما أن النقص الحاد أجبر أطباءها على اتخاذ قرارات مفجعة بشأن فئة المرضى الذين سيحاولون إنقاذهم والفئة التي سيتعيّن عليها مواجهة الموت، وفي الوقت الذي لم تستجب فيه أي دولة أوروبية، جاءت الاستجابة من الصين التي عرضت إرسال أجهزة تنفس اصطناعي وأقنعة وبزّات واقية بالإضافة إلى الماسحات.
وفي المقابل كانت الاستجابة الأمريكية بطيئة للغاية،والتي اعتقدت أن حظر السفر إلى أوروبا هو أفضل دفاع ضد المرض الذي بدأ يتفشى بالفعل على أراضيها، كما كشفت الأزمة شح الموارد الأمريكية بما لا يُمكّنها من توفير شيء للدول الأخرى، ومما يزيد الأمور سوءا أن أميركا قد تجد نفسها عما قريب تتلقّى الصدقات الصينية، حيث عرض “جاك ما”، الملياردير الصيني والمؤسس المشارك لموقع “علي بابا”، التبرع بنصف مليون عدّة اختبار ومليون قناع طبي، بحسب ما ذكر التقرير.
استطاعت بكين إحداث تحوُّلا كبيرًا في السياسات العالمية، فحتى اللحظة لم تكن أمريكا هي القائد في الاستجابة العالمية لفيروس كورونا، إذ تنازلت عن بعض من هذا الدور، على الأقل، لصالح الصين، الأمر الذي جعل البعض يتنبأ بإعادة الوباء تشكيل الجغرافيا السياسية للعولمة بشكل جديد.
انتصار إعلامي
الألية التي اتخذتها الصين لمحاربة الوباء والسرعة في تحقيق إنجازات على أرض الواقع من الممكن أن يكون لها تداعيات إيجابية ستوظفها الدولة بلا شك لتحقيق انتصار سياسي وإعلامي يحسب لها، فالرواية الصينية حال تصديقها من قبل دول العالم فإن الآثار الجيوسياسية للأزمة ستستمر حتى إلى ما بعد إيجاد لقاح للمرض
وبعدما كان العالم ينظر لأمريكا ودول أوروبا على أنهم المنقذ الأول للبشرية وقت الأزمات، بات الوضع اليوم مختلفًا، إذ ستعيد الأزمة الأخيرة تشكيل معتقدات الناس بصورة كبيرة، حيث سيتعزز الاعتقاد بأن الصين في صعود والغرب في أفول، كما أن المدافعين عن الاستبداد والمناوئين للديمقراطية سيجدون من يستمع إلى خطابهم في الصين وفي بلاد الغرب والشرق، وهو ربما ما كانت تسعى إليه الصين طيلة السنوات الماضية.
الأسبوع الماضي أرسلت الصين أطباء ومعهم 31 طنا من المعدات الطبية لإيطاليا في وقت كان الإيطاليون يشتكون من غياب الدعم من دول الاتحاد الأوروبي، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ بدأت بكين في عرض مساعداتها على دول العالم المختلفة، حيث قدمت 250 ألف قناع، الشهر الماضي، لإيران، وهي واحدة من أكثر الدول تضرراً من الوباء (ودولة صديقة لبكين)، و200 ألف للفلبين، فيما قالت إنها سترسل خمسة ملايين قناع إلى كوريا الجنوبية، وستصدّر 100 ألف جهاز تنفُّس و2 مليون قناع جراحي إلى إيطاليا.
وفي هذا الإطار بدأت الآلة الدعائية في الصين في العزف على أوتار مدح الرئيس شي جينبينغ والنظام السياسي في البلاد، فقد كتبت صحيفة “الشعب” أن “الصين تتعامل مع الفيروس بشجاعة، بينما الولايات المتحدة تعاني”، وكتبت وكالة شينخوا أن تعامل “شي” مع الأزمة دليل على أن “قلبه أبيض مثل المولود الجديد”.
ربما تقابل تلك الأوصاف بشيئ من السخرية لدى دول الغرب، لكن في العموم فإن تصرف الرئيس الصيني يبدوا أكثر قوة من نظيره الأمريكي، الذي بات اليوم محل انتقاد من الغرب الذي بدأ في لوم النظام الديمقراطي الأمريكي الذي وضع رجلا عديم الكفاءة في البيت الأبيض.
وبعد أن كانت إدارة ترامب تخطط لتقليل اعتماد أمريكا على الصين ثم أصبح العالم كله يتحدث عن ضرورة تقليل الاعتماد على الصين بعدما أصيبت التجارة الدولية بأضرار جراء تراجع الإنتاج الصيني، يبدو أن الصورة قد عكست والصين تخطط لجعل كورونا وسيلة للهيمنة الاقتصادية والسياسية.
مكاسب سياسية واقتصادية
حزمة من المكاسب من المتوقع أن تخرج بها الصين من وراء أزمة كورونا، على رأسها ما يتعلق بتعزيز اعتماد العالم على الاقتصاد الصيني كمصدر أساسي للموارد والمخرجات في آن واحد، فعلى مدى ثلاث سنوات، كانت إدارة ترامب تحاول الضغط على الصين لوقف ممارساتها التجارية غير العادلة، وذلك باستخدام التعريفات والمفاوضات والإجراءات لحماية الصناعات الأمريكية.
الأمر الذي كرهته بكين بصورة كبيرة بداية الأمر، وعلى مضض أبرمت فقط صفقة “المرحلة الأولى” التجارية التي تعالج القليل من هذه القضايا، وفق ما ذهبت صحيفة Washington Post الأمريكية في تقريرها الذي أشار إلى أن العديد من الوكالات الحكومية والمسؤولين باتوا يتحدثون علناً عن مكاسب الصين من أزمة كورونا في مجالات متعددة، وكيفية استفادتها من كونها أول دولة تبدأ في التعافي من فيروس كورونا الجديد (لأنها كانت أول دولة أصيبت عليه) للهيمنة على صناعات المستقبل.
الصحيفة نقلت عن نيت بيكارسك، أحد مؤسسي شركة هورايزون الاستشارية، وهي شركة استشارية تتابع نشاط الحكومة الصينية والنشاط الاقتصادي، قوله عن الصين: “لديهم استراتيجية ما بعد الفيروس، وهي قيد التنفيذ بالفعل”، فيما أصدرت الشركة تقريرًا يوضح كيف تخطط بكين لاستخدام التباطؤ الاقتصادي في الغرب لصالحها، حيث تعتزم البحث عن المزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر، والاستيلاء على حصة في السوق في الصناعات الحيوية ومحاولة منع الغرب من مواجهة ما يصفه التقرير بـ “سلوكها السيئ”.
ومن أكثر المجالات المتوقع أن تفرض الصين هيمنتها عليها بعد تلك الأزمة، إنتاج الإمدادات الطبية ومكونات الأدوية، حيث من المتوقع أن يجعل لها اليد العليا في مجال مكافحة الفيروس عالمياً، وسينعكس عليها إيجابياً سياسياً واقتصادياً، فالعالم المذعور في مواجهة هذا الكائن الحي الذي لايرى بالعين المجردة، يحتاج بشدة إلى دعم الصين سواء بخبرتها في التعامل مع الفيروس أو عن طريق إمكاناتها الصناعية الهائلة في مجال الصناعات الطبية والدوائية التي كانت ضخمة أصلاً ثم صقلتها الأزمة.
وبالقدر ذاته الذي تهمين فيه الصين على تصنيع السيارات والصلب والإلكترونيات وغيرها من الضروريات، فإنه من المتوقع أن تكون الهيمنة نفسها على صناعة المعدات الطبية وتصديرها لدول العالم المختلفة، وهو ما يجعل في النهاية من الصين ملاذا لرأس المال الأجنبي خلال السنوات المقبلة.
لم يكن البعد الاقتصادي هو المكسب الوحيد للصين من وراء كورونا، فهناك العديد من المكاسب السياسية كذلك، فبجانب خطتها نحو التقليل من منافسيها وخصومها وعلى رأسهم الولايات المتحدة، فإنها تسعى لتحويل الانتقادات الموجهة لنظامها الاستبدادي إلى الترويج له ولقدرته في التعامل مع الأزمات.
فبعدما واجه الحزب الشيوعي الحاكم، عاصفة من الغضب من الجمهور الصيني بسبب أخطائه في بداية الأزمة، فإنه يحاول إعادة تأهيل صورته بإعادة تقديم نفسه كقائد للمعركة العالمية ضد الفيروس، حيث أشادت وسائل الإعلام الإخبارية التي تديرها الدولة برد الصين على تفشي المرض كنموذج للعالم، متهمة دولاً مثل الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية بالتصرف بشكل بطيء لاحتواء انتشار المرض.
مسئولو الحزب كذلك حاولوا أن يقدموا الأزمة كنموذج حي ودليل عملي على قوة النظام الاستبدادي في الصين وزعيمها شي جين بينغ، ووصل الأمر إلى الإعلان عن خطط لنشر كتاب بست لغات عن مقوامة الصين للفيروس يصور الرئيس الصيني على أنه “قائد قوي يرعى الناس”..
ورغم أنه من السابق لأوانه الحديث عن مكاسب وخسائر بشأن الفيروس الذي لا زال يلقي بظلاله القاتمة على المشهد العالمي، في ظل حالة الفوضى الناجمة عنه، إلا أن المؤشرات الأولية تذهب إلى أن الصين نجحت – حتى كتابة هذه السطور – في توظيف ما تعرضت له، لتحقيق العديد من الانتصارات على أكثر من مجال، ويبقى رد الفعل العالمي وقدرته على احتواء الوباء في أقرب وقت الترمومتر العملي لقياس حجم وطبيعة حصاد الصينين من تلك الأزمة.