فضح تفشي فيروس كورونا نقاط الضعف في الاستجابة العالمية لمواجهة الفيروسات والأوبئة، في ظل تصاعد منحنى معدل الإصابات المؤكدة وحالات الوفيات التي تتزايد بصورة باتت ملاحقتها مسألة شاقة للدول والحكومات، الأمر الذي أثار الهلع في نفوس سكان الكرة الأرضية من أقصاها إلى أقصاها.
عرف العالم الأوبئة منذ قديم الأزل، بالتحديد في 430 قبل الميلاد، حيث أول تفشٍ لوباء، خلال الحرب البيلوبونيسية (بين حلفاء أثينا وحلفاء إسبرطة)، ومنذ ذلك التاريخ دفعت البشرية ثمنًا باهظًا لتلك الأمراض التي كان لها تداعيات كارثية على المجتمعات الحضارية، بداية من قتل نسب كبيرة من سكان العالم، وصولًا إلى جعل البشر يفكرون في أسئلة أكبر عن الحياة والوجود.
التاريخ يزخر بالعديد من التجارب الناجحة في كيفية مواجهة مثل هذه الأوبئة الفتاكة، على رأسها وباء الطاعون الذي انتشر بداية في أوروبا في القرنين الرابع والخامس عشر، وأودى بحياة ما يقرب من 25 مليون شخص، وهو تقريبًا نصف سكان القارة في هذا التوقيت.
وأمام تلك الكوارث فرضت مجتمعات ودول عديدة على مر التاريخ إجراءات احترازية لتطويق الوباء وتحجيم انتشاره قدر الإمكان، منها ما هو متبع حتى الآن مثل الحجر والطوق الصحي، فمن الطاعون والكوليرا في القرون الوسطى وعصر النهضة، إلى السارس وفيروس كورونا، تعد هذه الإجراءات بين الممارسات الأكثر فعالية في الحد من انتشار الأوبئة.
وتعد التجربة المصرية في مكافحة الطاعون أحد أبرز التجارب التي زخر بها التاريخ، حيث استطاع محمد علي باشا الذي حكم مصر نائبًا عن السلطان العثماني في الفترة من 1805 إلى 1848، في القضاء على هذا الوباء بعدما فشلت عشرات الحكومات السابقة في دحره وأسفر عن سقوط أعداد مهولة من المصريين.
القاهرة والفناء الكبير
لم يترك وباء الطاعون حين انتشر بلدًا إلا ودخله، وفيه يقول المؤرخ الإسلامي تقي الدين المقريزي (1364م – 1442م): “لم يكن هذا الوباء كما عُهد في إقليم دون إقليم، بل عم أقاليم الأرض شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، جميع أجناس بني آدم وغيرهم، حتى حيتان البحر وطير السماء ووحش البر”.
وفي مصر ورغم أن الوباء كانت بداية انتشاره خلال عامي (1347- 1349) فإنه حول القاهرة إلى مدينة أشباح، وصفها المؤرخ الشهير بقوله: “أضحت خالية مقفرة لا يوجد في شوراعها مار، بحيث يمر الإنسان من باب زويلة إلى باب النصر، فلا يرى من يزاحمه لكثرة الموتى والاشتغال بهم، وعلت الأتربة الطرقات وتنكرت وجوه الناس، وامتلأت الأماكن بالصياح فلا تجد بيتًا إلا وفيه صيحة، ولا تمر بشارع إلا وفيه عدة أموات، وصارت النعوش لكثرتها تصطدم والأموات تختلط، ويقال بلغت عدة الأموات في يوم واحد عشرين ألف، وأحصيت الجنائز بالقاهرة فقط في شهري شعبان ورمضان بتسعمائة ألف، وعدمت النعوش وبلغت عدتها ألف وأربعمائة نعش، فحُملت الأموات على الأقفاص وألواح الخشب، وصار يُحمل الإثنان والثلاثة في نعش واحد على لوح واحد”.
بين عامي 1757- 1758م، ظهر في مصر طاعون جديد.. كان يخص ببطشه صغار السن من الشباب
هذا التفشي غير المسبوق في التاريخ المصري ألقى بظلاله على الحياة العامة، فألحق ندرة كبيرة بأصحاب الحرف وفي جملتهم المقرئون والحمالون وحفارو القبور لكثرة الموتى، وما ترتب على ذلك من حراك اجتماعي صاعد، فأصبح بعضهم من أصحاب العقارات لهلاك أصحابها الأصليين من المماليك، وهنا يستطرد المقريزي إلى أن الزروع حين أتى وقت حصادها ولم يتوافر لها من يقوم بحصادها، فخرج أصحابها من الجنود وغلمانهم لينادوا: من يحصد ويأخذ نصف ما يحصده؟ فلم يجدوا من يساعدهم في ضم الزروع، فدرسوا غلالهم على خيولهم وذروها بأيديهم وعجزوا عن كثير من الزرع فتركوه.
وفيه يروي المؤرخ المصري جمال الدين بن تغري بردي (ت 874هـ) في كتابه “النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة” ابتداء هذا الطاعون القاتل في مصر في خريف سنة 748هـ/1347م قائلًا: “كان فيها الوباء الذي لم يقع مثله في سالف الأعصار، فإنه كان ابتدأ بأرض مصر آخر أيام التخضير في فصل الخريف في أثناء سنة ثمان وأربعين، فما أهلَّ المحرّم سنة تسع وأربعين حتى اشتهر واشتدّ بديار مصر في شعبان ورمضان وشوّال، وارتفع في نصف ذي القعدة، فكان يموت بالقاهرة ومصر ما بين عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف نفس إلى عشرين ألف نفسٍ في كلِّ يوم، وعملت الناس التوابيت والدّكك لتغسيل الموتى للسبيل بغير أجرة، وحُمل أكثر الموتى على ألواح الخشب وعلى السلالم والأبواب، وحُفرت الحفائر وأُلقِيت فيها الموتى، فكانت الحفيرة يُدفن فيها الثلاثون والأربعون وأكثر، وكان الموتُ بالطّاعون، يبصقُ الإنسان دمًا ثمّ يصيح ويموت، ومع هذا عمّ الغلاء الدنيا جميعها، ولم يكن هذا الوباء كما عهد في إقليم دون إقليم، بل عمّ أقاليم الأرض شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا جميع أجناس بني آدم وغيرهم، حتى حيتان البحر وطير السماء ووحش البرّ”.
وبين عامي 1757- 1758م، ظهر في مصر طاعون جديد، وصفه المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي (1753-1822) بـ”قارب شيحة الذي أخذ المليح والمليحة”، وربما يقصد بهذا التعبير أنه كان يخص ببطشه صغار السن من الشباب، مثلما كان الحال مع بعض الطواعين التي شهدتها أوروبا إبان الجائحة الطاعونية الثانية.
وفي نهاية الحملة الفرنسية تعرض المصريون لوباء آخر، اجتاح الشام كذلك، وفي وصفه كتب الشيخ حسن العطار رسالة للجبرتي من مدينة أسيوط (جنوب) قال فيها “كان يموت من أسيوط زيادة على الستمئة.. وعلى التخمين مات الثلثان من الناس، ولو شئت أن أشرح لك يا سيدي ما حصل من أمر الطاعون لملأت الصحف”.
ومع مرور الوقت انحصر الوباء في دول أوروبا في مطالع العصر الحديث، لكنه ظل في بعض الدول من بينها مصر، حتى بداية القرن التاسع عشر، حين تقلد محمد علي (1769- 1849) مقاليد الأمور، بعد سنوات من الفشل في التعامل مع هذا الطاعون الذي كان سببًا في هلاك معظم المصريين في هذا الوقت، وهنا يذهب المؤرخون إلى أن عدد سكان مصر وصل بداية حكم الوالي العثماني الجديد إلى 3 ملايين شخص بعدما كان العدد ثلاثة أضعاف ذلك قبل ذلك.
الاستفادة من الأتراك
ورث محمد علي عرش مصر والأوضاع لم تكن على ما يرام، بل كان المصريون يعانون أشد المعاناة من المرض وتداعياته على الحياة المعيشية، غير أنه بحكم خدمته في الجيش العثماني، استفاد من طلاب الطب الأتراك، حيث كان الأتراك متقدمين على المصريين بنحو نصف قرن في الطب بحسب الباحث شيلدون واتس، في كتابه “الأوبئة والتاريخ المرض والقوة والإمبريالية” الذي ترجمه المركز القومي للترجمة بالقاهرة.
واستطاع في وقت قصير فرض الاستقرار في مصر، وبعد أن أسس جيشًا بلغ تعداده نحو مئتي ألف محارب وأسطولًا بحريًا يتكون من ثلاثين سفينة، توجهت أنظاره إلى الإقليم السوري فضمه إلى ولايته، ثم حاول بعدها تحديث البلاد لتكون على قدم المساواة مع شركائها التجاريين الأوربيين، وعلى وجه الخصوص إنجلترا وفرنسا، وتُوسِّع كذلك تجارتها الكبيرة بالفعل في الشرق الأوسط، و”لو قدر له أن ينجح لربما كانت مصر الدولة الأولى غير الأوربية التي تتوصل بنجاح إلى تفاهم مع عالم الرأسمالية والإمبريالية الحديث”، بحسب واتس.
استقر في يقين محمد علي أن تعزيز مشروع إنتاجية المواطن لن يكون إلا بنظام صحي قوي قادر على دحر أي تداعيات للأوبئة، ومن ثم سعى لتوفير منظومة متكاملة من الرعاية الصحية
كما استحدث في إطار مكافحته للوباء نظام الاحتكار في القطن والكتان والسلع المصنعة، وأوجد أيضًا احتكارًا على التجارة المصرية مع أوروبا والأناضول، وأسس أسطولًا بحريًا لتعزيزها، كما سخر طاقة الشعب المصري كله لمهمة إنتاج القطن والحبوب والسلع الأخرى من أجل التصدير إلى الشرق الأوسط وأوروبا.
وهنا يصف الباحث في كتابه كيف كانت التركة التي ورثها الوالي العثماني قائلًا: “إذا كان الباشا قد فشل في النهاية فلم يكن نتيجة لأي خطأ بسببه ولكن بسبب الدول الأوروبية، التي كانت لديها موراد هائلة من الطاقة البشرية والتكنولوجيا المتقدمة وتمويل ائتمان متقدم، وكان لديها أيضًا مصادر هائلة من المواد الخام والأسواق، وفي مقابل بريطانيا ذات العشرين مليون نسمة، وفرنسا ذات الأربع وثلاثين مليون نسمة، فإن مصر محمد علي ذات الثلاثة ملايين نسمة ومعظمهم من الأميين ورثت أربعمئة وخمسين عامًا من التعرض الدوري للطاعون الدملي، وتعيش على منطقة صالحة للزراعة أصغر من هولندا”.
منظومة صحية متكاملة
استقر في يقين محمد علي أن تعزيز مشروع إنتاجية المواطن لن يكون إلا بنظام صحي قوي قادر على دحر أي تداعيات للأوبئة، ومن ثم سعى لتوفير منظومة متكاملة من الرعاية الصحية، ولذا أنشأ أول نظام صحي قوي تدعمه الحكومة في عالم البحر المتوسط، ربما لم يوجد نظام مشابه له في بريطانيا الليبرالية حتى مجيء الحكومة الاشتراكية عام 1945.
استعان الحاكم المصري بالطبيب الفرنسي كلوت بك الذي عهد إليه بتنظيم الإدارة الصحية للجيش المصري، وصار رئيسًا لأطباء الجيش، ثم افتتح “مدرسة الطب” في أبي زعبل عام 1827، وتولى إدارتها، وكانت أول مدرسة طبية حديثة على النمط الأوروبي في الدول العربية، وكانت تضم 720 سريرًا، التي نقلت بعد ذلك إلى القصر العيني.
ألحق الطبيب الفرنسي خريجي الأزهر والشريعة بمدرسة الطب، وبحلول عام 1830 انطلق خريجو “قصر العيني” للعمل في العيادات القروية فيما كان كلوت بك رافضًا أن يسموا أنفسهم أطباءً، وبعد أربع سنوات ضُربت مصر بأول نوبتي مرض شديدة بالطاعون.
فرض علي حجرًا صحيًا على السفن التركية بعد ظهور الطاعون في إسطنبول 1812، ثم أسس مستشفى للأمراض المعدية ومخزن بدمياط (ميناء مصر في هذا التوقيت) لكن رغم كل تلك الاحتياطات دخل الطاعون الموانئ المصرية الواقعة على البحر المتوسط بمعدلات كبيرة عام 1834، ما اضطره لاتخاذ إجراءات أكثر قسوةً لمواجهة الوباء.
كانت بعض الأسر تعتقد أن “الطاعون بلاء من الله واختبار لعباده المؤمنين”، وكانوا يصرون على التحايل على نظام الدولة، فكانوا لا يعلنون الإصابات ويدفنون موتاهم في حفر بساحات دورهم
إجراءات قاسية
وأمام تفشي الوباء اتخذت حكومة الوالي عددًا من القرارات والإجراءات الصارمة منها تجميع الأسر المشتبه في إصابة أحد أفرادها بالطاعون ليلًا ونقلهم إلى مراكز الحجر الصحي على حافة المدينة وكان الرصاص يطلق على الفور على أرباب الأسر الذين لم يبلغوا عن موت أحد أفراد الأسرة بالطاعون.
أثارت تلك الإجراءات غضب الكثير من المصريين في هذا الوقت، لا سيما رجال الدين وبعض المتلزمين، حيث تصاعدت الاعتراضات على طريقة تعامل الأطباء مع المصابين عن فحص وتشريح جثة المتوفي منهم، ما دفع السلطات وقتها إلى إطلاق الرصاص على من يعترض.
وفي الناحية الأخرى كانت بعض الأسر تعتقد أن “الطاعون بلاء من الله واختبار لعباده المؤمنين”، وكانوا يصرون على التحايل على نظام الدولة، فكانوا لا يعلنون الإصابات ويدفنون موتاهم في حفر بساحات دورهم، ومنهم من كان يتركها في شوراع بعيدة حتى لا يمكن التعرف عليها وبذلك يجنبون أنفسهم العقاب.
وأمام الانتشار السريع للوباء لا سيما بين الفئران والبراغيث والسكان في جميع الأنحاء، لم يكن لدى محمد علي ما يفعله إلا الانتظار حتى يأخذ الوباء دورته، وفي الوقت الذي تراجع فيه الوباء في أكتوبر 1837، توفي ما يقرب من 75000 قاهري و125000 مصري آخرين، وكان مجموع الوفيات مساويًا لحجم الجيش كله الذي كان يبلغ نحو 7% من سكان مصر.
الدولة القوية
تعرض محمد علي لضغوط وتحديات كبيرة، فالأمر لم يعد يقتصر على انتشار الوباء في الداخل فقط، بل واجه ضغوطات من المستعمر البريطاني تهدف لإجهاض النجاحات التي حققها بشأن الاستقرار الاقتصادي كوسيلة لمقاومة المرض، ومنها السماح للوكلاء البريطانيين بشراء القطن مباشرة من المنتجين، وهو ما دمر احتكار الحكومة المصرية لمورد تصدير ودخل حيوي.
لم يستسلم الوالي لتلك التحديات، وسعى لمواجهتها بما لديه من إمكانات وسلطات، أسهمت بشكل كبير في تقليص عدد المصابين والوفيات، حيث أصدر قرارًا بمصاحبة الأطباء الأجانب كتائب من الجنود لعلاجهم، وكانت هناك معالجات من النساء للمصابات، لكن هذا النظام لم يلق قبولًا كذلك من الأهالي الذين رفضوا التعاون.
ومن الأمثلة على ذلك ما حدث عام 1841 حين قابل ثلاثمئة شيخ من شيوخ القرى بمحافظة الغربية (غرب) حاكم المحافظة، وأكدوا له أن فلاحيهم غير مصابين بالطاعون، وكان هذا كذبًا واضحًا، فبعد عدة أيام قليلة عُلم أن ستمئة وخمسين شخصًا أي نصف سكان إحدى القرى تقريبًا قد ماتوا بالفعل بسبب المرض، وفق ما ذكر “الأوبئة والتاريخ المرض والقوة والإمبريالية”.
ربما تتشابه الإستراتيجيات المتبعة حاليًّا في التعامل مع كورونا مع نظيراتها السابقة قبل مئتي عام مع وباء الطاعون، لكن تبقى إرادة الدولة هي الفيصل
وفي المقابل صعد الحاكم من فرض التدابير الصحية، وأمر جنوده باستخدام القسوة للحد من انتشار الطاعون، ففي أي قرية مشتبه فيها كان الفصل يتم بين الضحايا الأحياء وأفراد أسرهم عن الفلاحين الأصحاء فيوضعون في الحجر الصحي، وكانت القرية تحاط بأكملها بكردون صحي يحرسه جنود أُعطوا أوامر بإطلاق النار والقتل على كل من يحاول الفرار.
أما على المستوى الداخلي في القرى المصابة، كانت تحرق الملابس ومتعلقات المتوفي بالطاعون، وكان يتم ترحيل الفلاحين الآخرين ويفصلون بحسب الجنس ويجبر الرجال والنساء كل على حدة بالاستحمام وهو ما أثار حفيظة الأهالي الذين كانوا يرفضون التعري أمام الأطباء والممرضات، وبعد الانتهاء من الحمام كانت تقدم للفلاحين ملابس وجلاليب نظيفة، ويظلون لعدة أيام تحت الإشراف الطبي في العزل.
وعلى الحدود والممرات، فرضت الحكومة إجراءات قاسية على السفن القادمة من موانئ المتوسط المشتبه فيها، حتى تلك القادمة من عاصمة الدولة العثمانية ذاتها، وكانت النتيجة أن تناقص الطاعون تدريجيًا ثم انقطع، وأصبحت مصر بعد ذلك خالية من الطاعون وربما استمرت على ذلك طوال ثلاثة أجيال.
ربما تتشابه الإستراتيجيات المتبعة حاليًّا في التعامل مع كورونا مع نظيراتها السابقة قبل مئتي عام مع وباء الطاعون، لكن تبقى إرادة الدولة الفيصل حتى في ظل التحديات التي تواجهها سواء المتعلقة بغياب الوعي ومعاندة الأهالي وعدم استجابتهم للإجراءات الاحترازية أم تلك الخاصة بالتداعيات الاقتصادية المترتبة على تلك الإجراءات التي تكبد الدول خسائر جمة.