في التاسع من مارس الجاري أعلنت الرياض عن زيادة كبيرة في إنتاج النفط مع خفض سعر البرميل بما يتراوح بين 6 و8 دولارات، وذلك ردا على رفض موسكو تمديد اتفاق خفض الإنتاج بين الدول الأعضاء في منظمة “أوبك” وخارجها (“أوبك+”) بشروط سعودية.
ومنذ ذلك الحين دخل الطرفان فيما يشبه حرب استنزاف في أسعار المادة الخام مما بات يكبد جميع اللاعبين خسائر مالية فادحة،بعد تراجع سعر برميل النفط لما دون ثلاثين دولارا، كأحد الأثار الناجمة عن تفشي فيروس كورونا الجديد، الأمر الذي تتعز معه مخاوف تعرض الأسواق المالية وأسواق الطاقة إلى هزة عنيفة.
بنك “ستاندرد تشارترد” في تقرير له يوم 17 مارس، توقع هبوط متوسط الطلب في 2020 بواقع 3.39 مليون برميل يوميا، وهو ما سيكون رقما قياسيا جديدا يتخطى الهبوط المسجل في 1980، والبالغ 2.71 مليون برميل يوميا من حيث عدد البراميل لا النسبة المئوية من إجمالي الطلب.
فيما أشارت كبيرة محللي شؤون النفط لدى “إنرجي أسبكتس”، أمريتا سين، أن “النمو الاقتصادي والطلب على النفط سيصيبهما مزيد من الضعف قبل بلوغ مرحلة التعافي، والتي لن تأتي إلا برفع إجراءات المباعدة الاجتماعية”، مضيفة أن برنت قد يسقط إلى مستوى العشرة دولارات، وهو سعر غير مشهود منذ 20 عاما، وذلك بسبب هبوط الطلب وارتفاع قياسي في الإمدادات من السعودية، والتي تطارد الحصة السوقية منذ انهيار اتفاق بين “أوبك” وروسيا للحد من الإمدادات هذا الشهر.
حالة من الترقب المحفوف بالقلق تخيم على سوق النفط العالمي جرًاء استمرار تلك الحرب التي من الواضح أنه لا رابح فيها، فالكل خاسر على ما يبدوا، وفق ما أشار العديد من الخبراء، وهو ما صًعد من تحذيرات الكثيرين بشأن ضرورة فرض التهدئة تجنبا لخروج الوضع عن السيطرة.
أسباب تراجع النفط
الخبير الاقتصادي الدولي السابق في مؤسسة “غولد مان ساكس” إسماعيل الكنوني، استعرض العديد من الأسباب التي أدت إلى تراجع النفط عالميًا، على رأسها حالة الهلع التي تنتاب العالم من كورونا، بسبب تراجع حجم الصادرات القادمة من الصين، وتراجع في النشاط الصناعي العالمي، فضلا عن ألاف مناطق الحجر الصحي وعشرات ألالاف ممن يدخلونها.
أما ثاني تلك الأسباب بحسب الكنوني في حواره مع “الجزيرة“، فتتعلق بطبيعة السوق المالي العالمي الذي لا يتحمل الخوف والشك، ويشتغل بمنطق “نبيع الآن ونطرح الأسئلة فيما بعد”، مضيفا : نحن الآن أمام وضع استثنائي جاء من خارج الأسواق المالية، والناس غير قادرين على قياسه، لأنه لحد الآن لا نعرف حجم الخسائر التي سيتسبب فيها فيروس كورونا، ولا عدد الناس الذين سيعانون منه.
كما تأتي حالة الاضطراب التي شهدها سوق النفط بصفة عامة كأحد الأسباب الرئيسية وراء تراجعه، حيث تغيرت النظرة بشأن انخفاض أسعار النفط من الشيئ الإيجابي للمستهلك قبل ستة أشهر إلى مؤشر سلبي، لاسيما بعد التراجع في الطلب، بجانب أن الشركات الصناعية سيتراجع نشاطها وبالتالي حجم الحاجة للنفط سيهوي، وهذا يعني أن انخفاض الأسعار لن يلعب دورا محفزا لزيادة الطلب النفطي كما كان في السابق.
روسيا.. الوضع أكثر تعقيدًا
يعد الاقتصاد الروسي أحد أبرز الاقتصاديات الدولية تأثرًا بهذا التراجع في أسعار النفط، فعلى الرغم من تعافي أسعار النفط بحلول نهاية الأسبوع وتجاوزها عتبة 30 دولارا، إلا أنها لا تزال بعيدة تماما عن الرقم 42.4 دولارا المعتمد ضمن الموازنة الروسية للعام الحالي.
هذا الفارق في الأسعار دفع المصرف المركزي الروسي لبيع نحو 100 مليون دولار من الاحتياطات لإنقاذ الروبل الروسي من الانهيار بعد أن تجاوز الدولار عتبة 80 روبلا لأول مرة منذ فبراير 2016، مستقرا عند مستوى 78.5 روبلا بحلول نهاية الأسبوع.
ورغم هذه الوضعية الصعبة إلا أن الناطق باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، رفض اعتبار أسعار النفط الحالية كارثية على الاقتصاد الروسي في الأفق المتوسط، مؤكدا وفاء الدولة بكل التزاماتها الاجتماعية، وفي المقابل اعتبر رئيس قسم التحليل بصندوق أمن الطاقة الوطني في موسكو، ألكسندر باسيتشنيك، أن الوضع اليوم بات أكثر تعقيدا مما كان عليه أثناء حرب أسعار النفط السابقة في عامي 2015 و2016، نظرا لتفشي كورونا وانعدام إمكانية تفعيل آلية “أوبك+”.
باسيتشنيك يشبه الوضع الراهن بما حدث قبل 4 سنوات، مضيفًا : “تعتمد الموازنة الروسية لعام 2020 سعر النفط 42 دولارا للبرميل، فيما أدى هبوطها دون هذا الرقم إلى توظيف الاحتياطات، وهي لا تزال متوفرة، ولكن روسيا قد تضطر لإعادة النظر في بنود الإنفاق الاجتماعي وأولوياته في حال إطالة أمد الوضع الحالي”.
تتصاعد المخاوف من تعرض الاقتصاد العالمي لحالة من الركود لم يشدها طيلة الأزمات المالية التي تعرضت لها دول العالم المختلفة
الكل خاسر
دخل الطرفان، السعودية وروسيا، مفاوضات غير مباشرة طيلة الفترة الماضية لأجل خفض الإنتاج وحماية الأسعار، في حين رفضت موسكو تخفيض انتاجها، لافتة إلى أن الإبقاء على أسعار النفط في مستوى معين يخدم الشركات الأميركية، لذلك اتخذت قرارا بأن تحافظ على مستوى مرتفع لإنتاج النفط، بينما كان موقف السعودية أن ما يخدم مصالحها هو الحفاظ على سعر البرميل في حدود 50 برميلا.
وعندما واصلت روسيا سياستها انخفضت أسعار النفط، فما كان من السعودية -التي تعتمد بشكل كبير على عائدات النفط- إلا أن دخلت في معركة “خاسر-خاسر” لأنه لا أحد مستفيد من هذا الوضع، بحسب الخبير الاقتصادي الدولي السابق في مؤسسة “غولد مان ساكس.
ويرى الخبير الدولي أن الوضع العالمي الحالي قد يؤدي إلى أزمة حقيقية، والبنك المركزي الأميركي قد صرح بالفعل بأن الوضع الحالي قد يؤدي إلى أزمة اقتصادية مشابهة لتلك التي حصلت في عام 2008، لافتًا إلى أن هذه التوقعات تفيد بأن ما يحدث حاليا لن يتم حله أو تجاوزه خلال أسبوع أو أسبوعين، ولكن نحن نعيش في مرحلة ستتطلب سنة إلى سنتين من أجل تجاوزها، مع الكثير من التخطيط والدعم، حتى يكون العالم قادرا على جعل نتائج هذه الأزمة خلف ظهره.
ركود في الاقتصاد العالمي
تتصاعد المخاوف من تعرض الاقتصاد العالمي لحالة من الركود لم يشدها طيلة الأزمات المالية التي تعرضت لها دول العالم المختلفة، وهو ما ألمح إليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يتخوف من أنّ بلاده قد تكون متجهة صوب ركود كبير مع تباطؤ الأنشطة الاقتصادية في أنحاء العالم، وتراجع أسواق الأسهم.
وقد تأثرت أسعار النفط الخام بثنائية ضعف الطلب نتيجة تفشي كورونا في أكثر من 160 بلداً حول العالم، وخلافات روسية سعودية، دفعت إلى انهيار اتفاق لخفض الإنتاج دام 3 سنوات وثلاثة شهور، بينما أشار كبير الخبراء الاستراتيجيين للأسواق في “أكسي كورب”، ستيفن إينز أن السوق يتلقى دعماً من مقتنصي الصفقات الحاضرة وتغطية المراكز المدينة.
وأضاف إينز “لكن منشآت التخزين تلك تمتلئ بسرعة. وإذا امتلأت بالفعل، وقضت على هذا الطلب فستنهار أسعار النفط أكثر بلا شك وعندها ستضطر الأسواق العالمية لتعليق آمالها على حل الخلاف بين السعودية وروسيا قبل أن نصل لنقطة اللاعودة”، هذا في الوقت الذي يصب فيه رجالات الصناعة النفطية الأميركية، الكبار تحديداً، الغضب، على السعودية التي يرون أنها السبب في خسائرهم لأنها أغرقت السوق بالنفط.
مع طول أمد أزمة كورونا يبدوا أن تداعياتها ستتواصل إن لم ينجح العالم في الوصول إلى علاج ناجع للقضاء علي الفيروس الذي بات شبحا يهدد اقتصاديات الدول
من جهته هدد الملياردير هارولد هام، الذي يطلق عليه اسم “أبو النفط الصخري” في أميركا، بتقديم دعوى قضائية ضد السعودية بسبب إغراق الأسواق بالنفط، بحسب وكالة بلومبيرغ، بينما تسعى الإدارة الأميركية لترضية رجال الصناعة النفطية، عبر اتخاذ خطوات، حسب ما ذكرت نشرة “ذا هيل” التي تعنى بشؤون الكونغرس والبيت الأبيض.
وحسب تقرير لشركة “رايستاد إنيرجي” النرويجية المتخصصة في الصناعة النفطية، فإن أسعار النفط الحالية المقتربة من 30 دولاراً للبرميل، تعني أن مائة شركة أميركية تعمل في استخراج النفط الصخري ستتكبد خسائر من عملياتها، حيث إن كلفة الاستخراج أصبحت تفوق سعر البيع.
وفي تقرير حديث بهذا الشأن، لوكالة “بلومبيرج” أشار إلى أن انخفاض أسعار النفط بفعل تخفيض السعودية أسعار خاماتها وضخ المزيد من النفط إلى الأسواق، أدى إلى انخفاض أسعار أسهم شركات الطاقة الأميركية خلال الأسبوع الماضي، لافتة إلى أن أسهم شركات الطاقة المدرجة في البورصة الأميركية انخفضت بنسبة 24% الأسبوع الماضي، ويعتبر ذلك أكبر انخفاض أسبوعي منذ أكتوبر من العام 2008، لافتة إلى أن القيمة السوقية لشركات الطاقة الأميركية خسرت 196 مليار دولار، الأسبوع الماضي.
ومع طول أمد أزمة كورونا يبدوا أن تداعياتها ستتواصل إن لم ينجح العالم في الوصول إلى علاج ناجع للقضاء علي الفيروس الذي بات شبحا يهدد اقتصاديات الدول، وفي حال استمرت موسكو والرياض على موقفيهما بشأن أسعار النفط، فمن المتوقع أن تلقي هذه الحرب بظلالها القاتمة على الجيمع.. فلا رابح فيها ولا مستفيد.