ترجمة وتحرير نون بوست
تواجه البشرية في الوقت الراهن أزمةً عالمية، ربما هي الأكبر بالنسبة لجيلنا. إن القرارات التي سيتخذها السكان والحكومات في الأسابيع القليلة المقبلة ستُشكل العالم في قادم السنوات. لن يقتصر ذلك على أنظمتنا الصحية فحسب وإنما يشمل أيضًا اقتصادنا وسياستنا وثقافتنا. يجب علينا أن نتصرف بسرعةٍ وبطريقةٍ حاسمة. يجب أن نأخذ بعين الاعتبار العواقب طويلة المدى لأعمالنا. وعند الاختيار بين البدائل، يجب أن نسأل أنفسنا ليس فقط عن كيفية التغلب على التهديد المباشر، وإنما أيضًا عن نوعية العالم الذي سنعيشه بعد مرور العاصفة. نعم، ستمر العاصفة، ستبقى البشرية على قيد الحياة، سيظل معظمنا على قيد الحياة – لكننا سنعيش في عالمٍ مختلف.
ستصبح العديد من تدابير الطوارئ قصيرة المدى عنصرًا ثابتا من الحياة. تلك هي طبيعة حالات الطوارئ. إنها تُسرّع الصيرورة التاريخية. فالقرارات التي قد تستغرق سنوات من المداولات في الأوقات العادية، تُتخذ في غضون ساعات. وتصبح التكنولوجيا غير المكتملة وحتى الخطيرة في طور الخدمة، لأن مخاطر عدم القيام بأي شيء تكون أكبر.
أصبحت دول بأكملها مثل فئران التجارب في إطار القيام بتجارب اجتماعية واسعة النطاق. ماذا يحدث عندما يعمل الجميع من المنزل ولا يتواصلون إلا عن بعد فقط؟ ماذا يحدث عندما ترتبط المدارس والجامعات بأكملها عن طريق الإنترنت؟ في الأوقات العادية، لن تقبل الحكومات والشركات والمجالس التعليمية بإجراء مثل هذه التجارب. لكن هذه ليست أوقات عادية. في هذا الوقت من الأزمة، نحن أمام خيارين على درجة كبيرة من الأهمية، أولهما الاختيار بين المراقبة الشاملة واحترام حرية المواطنين، وثانيهما الاختيار بين العزلة القومية والتضامن العالمي.
المراقبة “من تحت الجلد”
من أجل وقف الوباء، باتت مجموعات بشرية بأكملها ملزمة بالامتثال لمبادئ توجيهية معينة. وهناك طريقتان رئيسيتان لتحقيق ذلك: إحداهما تتبعها الحكومة لمراقبة الأشخاص ومعاقبة أولئك الذين يخالفون القواعد. اليوم، ولأول مرة في تاريخ البشرية، تتيح التكنولوجيا مراقبة الجميع طوال الوقت. وقبل خمسين عامًا، لم يكن باستطاعة لجنة أمن الدولة مراقبة 240 مليون مواطن سوفيتي على مدار 24 ساعة، كما لم يكن بمقدورها معالجة جميع المعلومات التي يقع تجميعها بشكل فعّال. لقد اعتمدت هذه الوكالة الاستخباراتية على عملاء ومحللين بشريين، إلا أنها لم تتمكن من مراقبة كل مواطن. ولكن يمكن للحكومات في الوقت الراهن الاعتماد على أجهزة استشعار في كل مكان وخوارزميات قوية بدلاً من الاعتماد على “أشباح” من لحم ودم.
مدرج كولوسيوم في روما
في معركتها ضد وباء فيروس كورونا، استخدمت عدة حكومات بالفعل أدوات المراقبة الجديدة. ولعل خير مثال على ذلك الصين. فمن خلال مراقبة الهواتف الذكية للأشخاص عن كثب، والاستفادة من مئات الملايين من الكاميرات المزودة بتقنية التعرف على الوجوه، وإلزام الأشخاص بفحص درجة حرارة أجسامهم وحالتهم الطبية والإبلاغ عنها، استطاعت السلطات الصينية تحديد حاملي الفيروس المشتبه بهم بسرعة وتتبع تحركاتهم وحتى التعرف على أي شخص اتصلوا به. كما تحذر مجموعة من تطبيقات الهاتف المحمول المواطنين عند الاقتراب من المرضى المصابين.
لا يقتصر هذا النوع من التكنولوجيا على شرق آسيا فحسب. فقد أذِن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخرًا لوكالة الأمن الإسرائيلية باعتماد التكنولوجيا المخصصة عادة لمحاربة الإرهابيين في تعقب مرضى فيروس كورونا. وعندما رفضت اللجنة البرلمانية الفرعية المعنية الموافقة على هذا الإجراء، واجهها نتنياهو بـ “مرسوم الطوارئ”.
ربما تجادل بأنه لا شيء جديد في كل هذا. في السنوات الأخيرة، استخدمت كل من الحكومات والشركات تقنيات أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى لتتبع ومراقبة وتوجيه الأشخاص. ومع ذلك، إذا لم نكن حذرين، فقد يُمثل هذا الوباء نقطة تحوّل مهمة في تاريخ المراقبة. ليس فقط لأنها قد تجعل من انتشار أدوات المراقبة الجماعية أمرًا طبيعيًا في البلدان التي ترفض اعتمادها حتى الآن، وإنما لأنها تعني كذلك الانتقال الدراماتيكي من مرحلة المراقبة “من فوق الجلد” إلى مرحلة المراقبة “من تحت الجلد”.
حتى الآن، عندما يلمس اصبعك شاشة هاتفك الذكي وتنقر على رابط، فإن الحكومة تُريد أن تعرف بالضبط ما كان اصبعك ينقر عليه. ولكن مع فيروس كورونا، يتحول محور الاهتمام إلى معرفة درجة حرارة اصبعك وضغط الدم تحت الجلد.
بودينغ الطوارئ
من بين إحدى المشاكل التي تواجهنا في تحديد موقفنا من مسألة المراقبة أنه لا أحد منا يعرف بالضبط كيف يتم مراقبتنا، وما تخبئه لنا السنوات القادمة. تتطور تكنولوجيا المراقبة بسرعة فائقة، وما كان يبدو أنه من الخيال العلمي قبل عشر سنوات بات من الأخبار القديمة اليوم. كتجربة فكرية، تخيل حكومة افتراضية تُطالب كل مواطن بارتداء سوار مزوّد بمستشعرات حيوية يقوم بمراقبة درجة حرارة الجسم ومعدل ضربات القلب على مدار 24 ساعة في اليوم. يتم تجميع البيانات المتحصل عليها وتحليلها بواسطة الخوارزميات الحكومية، التي ستعرف أنك مريضٌ حتى قبل أن تعلم أنت ذلك، وأين كنت، ومن قابلت. يمكن اختصار مراحل العدوى بشكل كبير، بل وحتى إيقافها تمامًا. يمكن القول إن مثل هذا النظام قادر على إيقاف تطور الوباء في غضون أيام. وهذا الشيء يبدو رائعًا، أليس كذلك؟
بدأت الشركات والحكومات في جمع بياناتنا البيومترية بشكل جماعي، فيمكنها التعرف علينا بشكل أفضل بكثير مما نعرف نحن عن أنفسنا، ومن ثم لا يمكنها فقط التنبؤ بمشاعرنا وإنما أيضًا التلاعب بها
لكن الجانب السلبي لهذه التقنية، بطبيعة الحال، هو إعطاء شرعية لنظام مراقبة جديد مرعب. فإذا كنت تعلم، على سبيل المثال، أنني نقرت على رابط فوكس نيوز بدلاً من رابط سي إن إن، فيُمكن أن يعطيك ذلك نبذة عن آرائي السياسية وربما حتى شخصيتي. ولكن، إذا تمكنت من مراقبة ما يحدث لدرجة معرفة حرارة جسدي وضغط دمي ومعدل ضربات قلبي أثناء مشاهدة مقطع فيديو، فيمكنك حينها معرفة ما يضحكني، وما يبكيني وما يغضبني حقًا.
من المهم أن نتذكر أن الغضب والفرح والملل والحب ظواهر بيولوجية مثل الحمى والسعال. ويُمكن للتكنولوجيا نفسها التي تحدد السعال أن تحدد الضحكات أيضًا. إذا بدأت الشركات والحكومات في جمع بياناتنا البيومترية بشكل جماعي، فيمكنها التعرف علينا بشكل أفضل بكثير مما نعرف نحن عن أنفسنا، ومن ثم لا يمكنها فقط التنبؤ بمشاعرنا وإنما أيضًا التلاعب بها وبيعنا أي شيء يريدونه – سواء كان ذلك بضاعة أو أفكارًا.
من شأن المراقبة البيومترية أن تجعل أساليب اختراق بيانات كامبريدج أناليتيكا تبدو وكأنها شيء من العصر الحجري. تخيل كوريا الشمالية في سنة 2030، عندما يقع إلزام كل مواطن بحمل سوار مزود بمستشعرات حيوية على مدار 24 ساعة في اليوم. حينها إذا استمعت إلى خطاب القائد العظيم والتقط السوار علامات الغضب الواضحة عليك، فقد انتهى أمرك.
يمكنك بالطبع أن تنظر لقضية المراقبة البيومترية كإجراء مؤقت يُتخذ أثناء حالة الطوارئ، وسيُلغى حالما تنتهي حالة الطوارئ. مع ذلك، غالبا ما تُعرف التدابير المؤقتة بإطالة فترة حالات الطوارئ، خاصة أن هناك دائمًا حالة طوارئ جديدة في طريقها للحدوث. فعلى سبيل المثال، أعلنت إسرائيل – موطني الأصلي – حالة الطوارئ خلال حرب الاستقلال سنة 1948، وهو ما يُبرر اتخاذ مجموعة من الإجراءات المؤقتة بدءًا من الرقابة الصحفية ومصادرة الأراضي إلى القواعد الخاصة لصنع حلوى البودينغ (أنا لا أمزح بشأن ذلك). وقد فازت إسرائيل بحرب الاستقلال منذ فترة طويلة، لكنها لم تعلن أبدًا عن انتهاء حالة الطوارئ، وفشلت في إلغاء العديد من الإجراءات “المؤقتة” لسنة 1948 (حيث اُلغي قرار الحلوى الطارئ في سنة 2011).
حتى إذا انخفضت حالات الإصابة بفيروس كورونا وانعدمت، يمكن لبعض الحكومات المتعطشة للبيانات أن تجادل بأنها بحاجة إلى الحفاظ على أنظمة المراقبة البيومترية لأنها تخشى حدوث موجة ثانية من فيروس كورونا، أو لأن هناك سلالة جديدة من فيروس إيبولا بصدد التطور في أفريقيا. جرت معركة كبيرة في السنوات الأخيرة حول خصوصيتنا، وقد تمثل أزمة فيروس كورونا نقطة التحول في المعركة، لأنه عندما يُتاح للأشخاص الاختيار بين الخصوصية والصحة، عادة ما يختارون الصحة.
شرطة الصابون
إن مطالبة الناس بالاختيار بين الخصوصية والصحة تمثل في الواقع أصل المشكلة، لأن هذا الخيار ليس سوى خيار زائف. يمكننا وينبغي علينا أن نتمتع بالخصوصية والصحة معًا. بإمكاننا أن نقرر حماية صحتنا ووقف انتشار وباء فيروس كورونا في نفس الوقت، ليس عن طريق إنشاء أنظمة مراقبة استبدادية، وإنما عن طريق تمكين المواطنين. وفي الأسابيع الأخيرة، طبقت كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة بعض أنجح التدابير لاحتواء الوباء. وعلى الرغم من أن هذه البلدان استخدمت بعض تطبيقات التتبع، إلا أنها اعتمدت بشكل أكبر على الاختبارات المكثفة وعلى النزاهة في تقديم التقارير والتعاون الصادق لشعب واع بشدة.
في السابق، انتقل حتى الأطباء والممرضات من عملية جراحية إلى أخرى دون غسل أيديهم. أما في الوقت الراهن، يغسل مليارات الأشخاص أيديهم يوميًا
عموما، لا تُعد المراقبة المركزية والعقوبات القاسية الطريقة الوحيدة لإجبار الناس على التقيد بالإرشادات المفيدة. عندما يقع إخبار الناس بالحقائق العلمية، وعندما يثق الناس في السلطات العامة لإخبارهم بهذه الحقائق، يمكن للمواطنين أن يفعلوا الشيء الصحيح حتى دون رقابة. عادة ما يكون الشعب الذي يمتلك دوافع ذاتية ومطلعًا جيدًا على الوضع أكثر قوة وفعالية بكثير من شعب جاهل خاضع للشرطة.
ضع في اعتبارك مثلًا غسل يديك بالصابون، الذي مثل أحد أعظم التطورات على الإطلاق في ما يخص نظافة الإنسان. وفي الواقع إن هذا الإجراء البسيط قادر على إنقاذ ملايين الأرواح كل سنة. وبينما لا نأخذ هذا الأمر على محمل الجد، اكتشف العلماء أهمية غسل اليدين بالصابون في القرن التاسع عشر فقط.
في السابق، انتقل حتى الأطباء والممرضات من عملية جراحية إلى أخرى دون غسل أيديهم. أما في الوقت الراهن، يغسل مليارات الأشخاص أيديهم يوميًا، ليس بدافع الخوف من شرطة الصابون، وإنما لأنهم يدركون الحقائق المتعلقة به. من جهتي، أغسل يدي بالصابون لأنني سمعت عن الفيروسات والبكتيريا، ولأنني أفهم أن هذه الكائنات الدقيقة تسبب الأمراض، كما أعلم أن الصابون قادر على إزالتها.
قصر كاسيرتا
لكن لتحقيق مثل هذا المستوى من الامتثال والتعاون، أنت بحاجة إلى الثقة. يحتاج الناس إلى الثقة بالعلم والسلطات العامة ووسائل الإعلام. على مدى السنوات القليلة الماضية، زعزع السياسيون غير المسؤولين عمدًا ثقة الناس في العلم والسلطات العامة ووسائل الإعلام. أما في الوقت الراهن، قد يميل نفس هؤلاء السياسيين غير المسؤولين إلى اتباع أسرع طريقة نحو الاستبداد، بحجة أنه لا يمكنك الثقة في الشعب للقيام بالشيء الصحيح.
عادةً لا يمكن إعادة بناء الثقة التي تآكلت لسنوات بين عشية وضحاها، ولكننا لا نخوض الأوضاع العادية الآن. في لحظة الأزمة، يمكن أن تتغير طريقة التفكير بسرعة أيضًا. قد تكون متعودًا على خوض نقاشات شديدة مع أشقائك لسنوات، ولكن عندما تحدث حالات طوارئ، تكتشف فجأة بأنكم تثقون في بعضكم البعض بشدة، وأنكم مستعدون لمساعدة بعضكم البعض.
في الأيام المقبلة، يجب على كل واحد منا أن يختار الثقة في البيانات العلمية وخبراء الرعاية الصحية بدل نظريات المؤامرة
بدلاً من بناء نظام مراقبة، لم يفت الأوان لإعادة بناء ثقة الناس في العلم والسلطات العامة ووسائل الإعلام. يجب علينا بالتأكيد الاستفادة من التكنولوجيات الجديدة أيضًا، ولكن يجب أن تُكرس هذه التكنولوجيات لتمكين المواطنين. من جهتي، أنا أؤيد مراقبة درجة حرارة جسمي وضغط الدم لدي، ولكن لا ينبغي أن تُستخدم هذه البيانات لإنشاء حكومة قوية. وعوضًا عن ذلك، ينبغي أن تمكنني هذه البيانات من اتخاذ خيارات شخصية واعية، ومحاسبة الحكومة على قراراتها.
إذا تمكنت من تتبع حالتي الطبية الخاصة على مدار 24 ساعة في اليوم، لن أعرف ما إذا كنت سأشكل خطرًا صحيًا على الآخرين فقط، ولكنني سأعرف أيضًا العادات التي من شأنها أن تحافظ على صحتي. وإذا تمكنت من الاطلاع على إحصاءات موثوقةٍ حول انتشار فيروس كورونا وتحليلها، سأتمكن من تحديد ما إذا كانت الحكومة تخبرني بالحقيقة وما إذا كانت تعتمد على السياسات الصحيحة لمكافحة الوباء.
عندما يتحدث الناس عن المراقبة، تذكر أنه يُمكن استخدام نفس تكنولوجيا المراقبة ليس فقط من قبل الحكومات لمراقبة الأفراد – وإنما أيضًا من قبل الأفراد لمراقبة الحكومات. وبالتالي يعد وباء فيروس كورونا بمثابة اختبار رئيسي للمواطنة. وفي الأيام المقبلة، يجب على كل واحد منا أن يختار الثقة في البيانات العلمية وخبراء الرعاية الصحية بدل نظريات المؤامرة التي لا أساس لها من الصحة والسياسيين الذين يخدمون مصالحهم الذاتية. إذا فشلنا في اتخاذ القرار الصحيح، فقد نُضطر للتخلي عن أثمن حرياتنا معتقدين أنها الطريقة الوحيدة لحماية صحتنا.
نحن بحاجة إلى خطة عالمية
الخيار الثاني المهم الذي نواجهه يتعلق بالعزلة الوطنية والتضامن العالمي. يمثل كل من الوباء والأزمة الاقتصادية الناتجة عنه مشكلة عالمية لا يمكن حلها بشكل فعال إلا من خلال التعاون العالمي. أولا وقبل كل شيء، نحتاج إلى مشاركة المعلومات عالميًا من أجل الانتصار على الفيروس. وهذه هي الميزة الكبرى التي يتمتع بها البشر للقضاء على الفيروسات.
لا يمكن لفيروس كورونا في الصين والولايات المتحدة مقايضة النصائح حول كيفية إصابة البشر. ولكن يمكن للصين أن تعلّم الولايات المتحدة العديد من الدروس القيمة حول فيروس كورونا وكيفية التعامل معه. فما يكتشفه طبيب إيطالي في ميلانو في الصباح الباكر قد ينقذ الأرواح في طهران في المساء. وعندما تتردد حكومة المملكة المتحدة بين العديد من السياسات، يمكنها الحصول على المشورة من الكوريين الذين واجهوا بالفعل معضلة مماثلة قبل شهر. ولكن لكي يتحقق هذا الأمر، نحتاج إلى التحلي بروح التعاون والثقة العالمية.
ينبغي أن تكون البلدان على استعدادٍ لتبادل المعلومات بشكلٍ علني والحصول على المشورة في كنف التواضع، وأن تكون قادرةً على الوثوق في البيانات والأفكار التي تتلقاها. نحن نحتاج أيضًا إلى جهد عالمي لإنتاج وتوزيع المعدات الطبية، ولا سيما مجموعات الاختبار وأجهزة التنفس. وبدلا من محاولة كل دولة القيام بذلك محليًا وتخزين أي معدات يمكنها الحصول عليها، من شأن الجهد العالمي المنسق أن يسرع الإنتاج إلى حد كبير ويضمن توزيع المعدات المنقذة للحياة بشكلٍ أكثر عدالة.
مثلما تقوم الدول بتأميم الصناعات الرئيسية خلال الحرب، فقد تتطلب منا الحرب البشرية ضد فيروس كورونا “إضفاء الطابع الإنساني” على خطوط الإنتاج الحاسمة. لذلك، يجب أن تكون الدولة الغنية التي سجلت عددًا أقل من حالات الإصابة بفيروس كورونا على استعداد لإرسال معداتٍ ثمينة إلى بلد أفقر يعاني من إصابات أكثر، وتكون واثقةً من أنه إذا احتاجت المساعدة بعد ذلك، تتجند البلدان الأخرى لمساعدتها.
تحتاج الدول إلى التعاون من أجل السماح لعددٍ محدودٍ من المسافرين الأساسيين على الأقل بمواصلة عبور الحدود، على غرار العلماء والأطباء والصحفيين والسياسيين ورجال الأعمال
قد نفكر في بذل جهد عالمي مماثلٍ لتجميع العاملين في المجال الطبي. يتعين على الدول الأقل تضررًا في الوقت الحالي أن ترسل طاقمًا طبيًا إلى المناطق الأكثر تضررًا في العالم، وذلك لمساعدتها عند الحاجة، ومن أجل اكتساب خبرة قيّمة. إذا تحول التركيز فيما بعد، فقد تبدأ المساعدة في التدفق في الاتجاه المعاكس.
في الحقيقة، هناك حاجة ملحة للتعاون العالمي على الصعيد الاقتصادي كذلك. فبالنظر إلى الطبيعة العالمية للاقتصاد وسلاسل الإمداد، إذا تحركت كل حكومة بمفردها متجاهلةً بشكل تام الحكومات الأخرى، فسينجر عن ذلك ظهور الفوضى وتعمّق الأزمة. لذلك، نحن في أمس الحاجة إلى خطة عمل عالمية فورية.
ثمة شرط آخر يتعلق بالتوصل إلى اتفاق عالمي بشأن السفر. فتعليق جميع الرحلات الدولية لأشهر سيتسبب في مواجهة صعوبات هائلة، ويعيق الحرب ضد فيروس كورونا. تحتاج الدول إلى التعاون من أجل السماح لعددٍ محدودٍ من المسافرين الأساسيين على الأقل بمواصلة عبور الحدود، على غرار العلماء والأطباء والصحفيين والسياسيين ورجال الأعمال. ويمكن القيام بذلك من خلال التوصل إلى اتفاقية عالمية بشأن الفحص المسبق للمسافرين من قبل بلدهم. إذا كنت تعلم أنه لا يُسمح إلا للمسافرين الذين تم فحصهم بعناية بصعود الطائرة، فستكون أكثر استعدادًا لقبولهم في وطنك.
لسوء الحظ، بالكاد تتخذ البلدان مثل هذه الإجراءات في الفترة الحالية. فقد أصيب المجتمع الدولي بحالة شلل جماعي. ويبدو أنه ليس هناك أشخاص راشدون للتصرف بمسؤولية في ظل هذا الوضع. قبل أسابيع، كان المرء يتوقع أن يعقد اجتماع طارئ لزعماء العالم لوضع خطة عمل مشتركة. ولكن لم يتمكن زعماء مجموعة الدول الصناعية السبع من تنظيم مؤتمر عبر الفيديو إلا هذا الأسبوع. في المقابل، لم يُفض المؤتمر عن أي خطة من هذا القبيل. خلافا للأزمات العالمية السابقة – مثل الأزمة المالية لسنة 2008 ووباء إيبولا لسنة 2014 – تولت الولايات المتحدة دور القائد العالمي. لكن الإدارة الأمريكية الحالية تخلت عن منصب القائد، فقد اتضح أنها تولي اهتمامها لعظمة الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من مستقبل البشرية.
يتعين على البشرية أن تختار. هل سنسير في طريق الانقسام، أم سنتبنى طريق التضامن العالمي؟
فعليًا، تخلت الإدارة الأمريكية حتى عن أقرب حلفائها. وعندما حظرت جميع رحلات السفر من الاتحاد الأوروبي، لم تكلف نفسها عناء إعطاء الاتحاد الأوروبي إشعارًا مسبقًا – ناهيك عن التشاور معه حول هذا الإجراء الجذري. لقد قامت بفعل يندى له الجبين تجاه ألمانيا من خلال تقديم مليار دولار لشركة أدوية ألمانية مقابل شراء حقوق احتكار لقاح جديد لفيروس كورونا المستجد. حتى لو قامت الإدارة الحالية في نهاية المطاف بتغيير مسارها ووضعت خطة عمل عالمية، فإن القليل سيتبعون زعيمًا لا يتحمل المسؤولية على الإطلاق، ولا يعترف أبدا بالأخطاء وينسب كل الفضل إلى نفسه بشكل اعتيادي بينما يلقي كل اللوم على الآخرين.
إذا لم يملأ الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة من قبل دول أخرى، فلن يقتصر الأمر على صعوبة إيقاف الوباء الحالي فحسب، بل سيستمر إرثه في تسميم العلاقات الدولية لسنوات قادمة. مع ذلك، إن كل أزمة هي عبارة عن فرصة كذلك. ويجب أن نأمل أن يساعد الوباء الحالي البشرية على إدراك الخطر الكبير الذي يشكله الانقسام العالمي.
يتعين على البشرية أن تختار. هل سنسير في طريق الانقسام، أم سنتبنى طريق التضامن العالمي؟ إذا اخترنا الانقسام، فلن يؤدي ذلك إلى إطالة أمد الأزمة فحسب، بل سيؤدي على الأرجح إلى حدوث كوارث أسوأ في المستقبل. أما إذا اخترنا التضامن العالمي، فلن ننتصر على فيروس كورونا فحسب، بل ضد جميع الأوبئة والأزمات المستقبلية التي قد تهاجم البشرية في القرن الحادي والعشرين.
المصدر: فاينانشال تايمز