بدأت معظم دول العالم تستفيق من سباتها العميق حيال الخطر الهوائي الذي يتهددها والمعروف بفيروس كورونا المستجد أو كوفيد 19، وذلك بعد أن تأكدت مؤخرًا أنه لم يعد فيروسًا صينيًا كما يقول الرئيس الأمريكي، وتبين لها أنه وباء لا يعرف الحدود في عالم متعولم، كما تقول منظمة الصحة العالمية.
وبينما تفعل الآن هذه الدول ما في وسعها من الإجراءات بغرض الحد من انتشار المرض وتقليل خسائره، فإن دولة الاحتلال، في امتداد لاقترانها بكل ما هو استثنائي، شرعت في الآونة الأخيرة، تفرغ ما في جعبتها من الأوراق الاحتياطية وأدوات إدارة الأزمات، بأشكال غير معهودة، بيد أن نتائج هذه الإجراءات الجديدة ما زالت إلى الآن غير مؤكدة، خاصة أنها تتقاطع زمنيًا مع ظروف معقدة على الصعيدين السياسي والاقتصادي. لذلك، فإننا نحاول في هذا التقرير تسليط الضوء على آخر مستجدات مكافحة كورونا في “إسرائيل” وتبعاتها خلال الأسبوع الأخير.
تضييق المجال العام
كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيامين نتنياهو واضحًا في قراءته للأزمة منذ البداية، عندما قال صراحةً: “فيروس كورونا سيصل إلينا عاجلًا أم آجلًا، وفي خضم هذه الحقيقة، فسوف تتركز مهمة الحكومة على تأخير وصوله قدر الإمكان”، وذلك في إشارةٍ إلى التدابير الاحترازية القاسية التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية ضد القادمين من الخارج، خاصة من الصين، وأسفرت في النهاية عن أزمة سياسية بين البلدين، قالت فيها الصين إنها لم تغلق أبوابها أمام اليهود عندما تعرضوا للاضطهاد منتصف القرن الحاليّ، وردت دولة الاحتلال بأن المعلومات القادمة من الصين عن الفيروس غير موثوقة، نظرًا لطبيعة النظام السياسي هناك، بينما تشير البيانات القادمة من نظام مفتوح مثل كوريا الجنوبية إلى أن الوضع ليس على ما يرام.
ومع بداية تضاعف أعداد الإصابة بالفيروس في “إسرائيل” وخضوعها للمنحنى “الأُسي” بدايةً من الأسبوع الرابع، عقب تسجيل أول إصابة لأحد القادمين على متن السفينة اليابانية المنكوبة في الـ21 من فبراير/شباط الماضي، أخذت الحكومة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو تفعِل خطة الحد من الانتشار الجماهيري في المجال العام، لتنقل التعامل من الخارج إلى الداخل.
أسفرت سلسلة اجتماعات حكومية بدأت مطلع الأسبوع الماضي عن تعليق الِراسة في جميع المراحل التعليمية، الروضة والمدارس والجامعات، كما حظرت الحكومة أي تجمعات جماهيرية أو رسمية تتجاوز عشرة أشخاص. ومن أجل التأكد من تطبيق قرار منع هذه التجمعات، شددت الحكومة القيود على التجمعات غير الضرورية في المطاعم والملاهي والحانات والأندية، وقلصت من حركة النقل العام ليلًا وفي العطلات، وطالبت جميع الشركات الرسمية والخاصة بتخفيض أعداد موظفيها وتحويل المهمات الإدارية إلى العمل من المنزل.
وفي استمرار للسياسات المتشددة حيال القادمين من الخارج التي تعتبرهم الحكومة المصدر الأول للمرض، قالت السلطات الإسرائيلية إنها لن تستقبل أيًا منهم ما لم يتعهدوا بالخضوع للحجر الصحي، طوعًا أو إجبارًا، لمدة أسبوعين، حتى لو كانوا مواطنين أمريكيين.
الشاباك والموساد
من ضمن ما أقرته الحكومة الإسرائيلية في اجتماعاتها خلال الأسبوع الماضي كان إدراج تقنية أمنية استحدثها جهاز الأمن العام (الشاباك) من أجل التعرف على هُوية المقاومين ضمن نطاق محدود ضمن خطة الحكومة للتعرف على المخالطين لحاملي الفيروس. تقوم فكرة هذه التقنية على ربط جميع الهواتف المحمولة في البلاد بشبكة تعقب واحدة ضمن سيطرة مركزية طوال الوقت، وفي حال تم التأكد من إصابة أحد الأشخاص بالفيروس سواء من خلال الأعراض في المستشفى أم عبر الكشف العشوائي، يجري مباشرة تحديد الأشخاص الذين خالطهم هذا المصاب عبر العودة إلى مواقع الهواتف التي اقتربت من هاتف المريض في الفترة الأخيرة.
وبحسب كبار مسؤولي الصحة في “إسرائيل”، فإن هذه التقنية تعالج مشكلة فارقة بسبب الصعوبة التي يجدها الاختصاصيون في التعرف على المخالطين للحالة المصابة، كما أنها توفر جهدًا كبيرًا ووقتًا بالغًا على الكوادر الصحية في محاولة استجواب المصابين في أثناء العلاج عن خطوط سيرهم خلال آخر أسبوعين، وقد حدد الكادر الصحي معيارًا واضحًا للمخالطين المستهدفين من هذه التقنية، وهو أن يكون الشخص المخالط اقترب من الحالة المصابة لمدة عشرة دقائق، من مسافة مترين، خلال آخر أسبوعين من اكتشاف الحالة.
يقول الموساد إنه استطاع الوفاء بالمهمة الموكلة إليه من الجهاز السياسي، وفق تعليمات القطاع الصحي
كما عرضت هيئة البث الرسمية “كان” نموذجًا للرسالة النصية الموجهة إلى إحدى المخالطات تقول “مرحبًا ميرنا، وفقًا لبحث وبائي، كنتِ قريبة من أحد حاملي الفيروس يوم السادس من مارس، ينبغي عليكِ دخول عزل طوعي حتى العشرين من نفس الشهر، وذلك بغرض حماية أقاربك والجمهور”، وحسبما يتضح من الرسالة، فإن السلطات تحرص ألا يعلم المخالط أي شيء عن طبيعة حامل الفيروس المشار إليه بغرض الحفاظ على خصوصيته.
وقد أُعلن يوم الأربعاء أن المنظومة نجحت بالفعل في تحديد 400 شخص خالطوا عشرات الحالات المكتشفة مؤخرًا في “إسرائيل”، وجرى التواصل معهم بنجاح، بيد أنه لا يزال النقاش جاريًا بشأن العقوبة المقترحة على من يخالف الأمر بالخضوع إلى العزل الطوعي، خاصة أن نظام التتبع يرتبط بالهاتف بشكل مباشر، وفي كل الأحوال استطاعت “إسرائيل” علاج مشكلة التعرف على مخالطي الإصابات المكتشفة إلى حد كبير، ولكن بالرجوع إلى أصل المشكلة تبين وجود نقص حاد في عدد الفحوص اليومية التي تجريها الطواقم الطبية بشكل عشوائي، حيث زاد العدد مؤخرًا من 500 فحص إلى 700 فحص، بينما لا يزال العدد المستهدف 5 آلاف فحص أو 3 آلاف على المدى القصير.
لذلك، وبعد تأخر عمل محطات الفحص المتنقل التابعة لنجمة داوود الحمراء التي كان يفترض أن تتولى الكشف على عشرات الحالات يوميًا دون الحاجة إلى مغادرة السيارة، قام الموساد الإسرائيلي بعملية سرية، مساء الأربعاء، أسفرت عن الحصول على 100 ألف جهاز كشف من إحدى الدول “المجاورة”، بحسب ما أعلنته القناة الإسرائيلية الثانية عشر، فجر الخميس.
يقول الموساد إنه استطاع الوفاء بالمهمة الموكلة إليه من الجهاز السياسي، وفق تعليمات القطاع الصحي، بينما يؤكِد إيتمار غروتو نائب مدير عام القطاع الصحي الرسمي أن ثمة خطأ وقع خلال العملية أدى إلى جلب أجهزة مختلفة عن الأجهزة المطلوبة، مشيرًا إلى أن هذه الأجهزة الجديدة تخلو من المسحات.
ورغم هذا التضارب في التصريحات، قالت مصادر في الجهاز الاستخباري إن القناة الدبلوماسية السرية التي حصلوا من خلالها على الأجهزة ما زالت مفتوحة، ومن ثم فإنه لا داعي للقلق، وبحسب ما أخبرنا به سعيد بشارات الباحث في الشؤون العبرية وأحد أعضاء شبكة “الهدهد” الصحفية، فإن الدولة المشار إليها لن تخرج عن الخماسي الخليجي: السعودية والإمارات وقطر والبحرين وعُمان، فيما أكد يوسي ميلمان الخبير المخضرم في الشؤون الإسرائيلية والكاتب في “ميدل إيست آي” في تصريحات أن الدولة المشار إليها، هي الإمارات، مشيرًا إلى دبي على وجه التحديد.
مشكلات
قد تبدو ظاهريًا هذه الخطوات جيِدة لاحتواء الوباء في “إسرائيل” خلال الفترة المقبلة، خاصة بعد أن كسرت دولة الاحتلال حاجز 700 حالة إصابة، وسجلت أول حالة وفاة بشكل رسمي، لكن هذه الخطوات – مع ذلك – ربما لا تستمر بنفس الوتيرة، لأن المعارضة التي استطاعت الفوز في الانتخابات البرلمانية التي جرت في الـ2 من مارس/آذار الحاليّ، من خلال تحالف مكون من أزرق أبيض (بيني غانتس) والقائمة العربية المشتركة (أيمن عودة) وحزب العمل (عمير بيرتس) وإسرائيل بيتنا (ليبرمان)، ترى أن حكومة نتنياهو (الليكود – اليمين) تستغل الأزمة الإنسانية التي تعيشها البلاد حاليًّا، لتمرير إجراءات ديكتاتورية من شأنها إعاقة عمل التحالف الفائز في الحياة السياسية، كما قال يائير لابيد، أحد قيادات أزرق أبيض.
هذه النية في استغلال الأزمة من أجل تمرير الإجراءات الديكتاتورية المشار إليها، ظهرت جليًا بحسب قيادات يسارية، في قرار أمير أوحانا وزير القضاء الليكودي، بتعليق العمل في المحاكم قبل أربعة أيام من بدء محاكمة نتنياهو، مما أسفر عن تأجيل المحاكمة شهرين.
كما بدت واضحة أيضًا في قرار تعليق العمل باللجنة العامة للكنيست الذي اتخذه رئيس البرلمان يولي إدلشتاين (الليكود)، مما أعاق التصويت على الإطاحة بهذا الرئيس واختيار شخص آخر بدلًا منه، وأجهض مشروع تشريع محتمل يمنع المتهمين في قضايا جنائية من تشكيل حكومة (نتنياهو)، وأجِل عمل اللجنة العامة التي يفترض أن تنبثق عنها عدد من اللجان المؤقتة مثل لجنة الرقابة على الإجراءات التي تتخذها الحكومة في أزمة كورونا، في إشارة إلى منظومة الرقابة الجديدة التي تنتهك كثيرًا من خصوصية المواطنين.
وعلى نحو محدد، يقول أزرق أبيض إن “إدلشتاين” رفض مقترحًا بتشكيل لجنة كنيست عامة تتألف من 17 عضوًا، بأغلبية عضو واحد لصالح المعارضة، رغم تضمن المقترح إشارة إلى ترتيب الاجتماع في قاعةٍ كبيرة، تجمع 10 أشخاص تفصل بينهم مسافة متر كما تنص الإرشادات، ويحضر السبعة الآخرون اللقاء عبر “فيديو كونفرانس”، بينما يصمم (إدلشتاين) على التظاهر بالالتزام بالإرشادات التي نصتها حكومته المهزومة فيما يخص ضرورة ألا تزيد الاجتماعات عن 10 أشخاص، كي يُخرج لجنةً عامة متساوية العدد (5+5)، خلافًا لنتائج الانتخابات.
وليس بعيدًا عن هذا السياق، فقد أسفرت القرارات الحكومية بالتخفيف من أعداد الموظفين عن موجة بطالة غير مسبوقة في “إسرائيل”، حيث سجلت دائرة التوظيف زيادة على طلب الإعانة المالية لغير العاملين خلال هذا الشهر تقدر بأكثر من سبعة أضعاف الطلبات المقدمة في فبراير، وقد شهد الأربعاء الماضي وحده تسجيل 66 ألف طلب بمعدل 5 آلاف طلب في الساعة، مما أدى إلى انهيار خوادم موقع الدائرة، وسط تكهنات بزيادة أعداد العاطلين بنسب تتراوح من 500 ألف إلى 1.2 مليون عاطل بعد الأزمة.
وتقول عملية تحليل هذه البيانات الجديدة إن 84% من الطلبات المقدمة خرجت من القوة العاملة عبر إجازات غير مدفوعة الأجر، بعد قيام كبرى الشركات الخاصة الإسرائيلية مثل إلع عال بتسريح 70% من الموظفين (5500 موظف)، وكاسترو 80% (6 آلاف موظف)، بينما طرد نحو 11% من المتقدمين نهائيًا، مما يكبد الخزانة العامة ملياري شيكل ارتفاعًا شهريًا في مخصصات إعانة البطالة، و50 مليار شيكل انخفاضًا سنويًا في عوائد الضرائب المقدرة بـ330 مليار شيكل.
وبينما يحاول في هذه الأثناء الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين التوسط لحل الأزمة، منحازًا بشكل ما إلى بيني غانتس (أزرق أبيض) الذي كلفه يوم الثلاثاء بتشكيل حكومة، تقول شخصيات بارزة في المعارضة مثل موشيه يعالون إنهم قد يلجأون إلى تشكيل حكومة طوارئ سريعة بشكل منفرد، بالتوازي مع الطعن على شرعية قرارات “الليكود” الأخيرة قضائيًا في المحكمة العليا، بغرض إجهاض تلك التحركات التي تستغل الأزمة الإنسانية من أجل تحقيق مكاسب حزبية ضيقة، بعد إجراء ثلاث انتخابات برلمانية متتالية دون تشكيل حكومة.