لا يختلف المراقبون في العراق والمنطقة أن هناك توجهًا دوليًا لوضع حد لمنظومات وفواعل اللادولة non state actors ووضع نهاية لأدوات الحرب بالوكالة proxy war التي يجري جزء منها في العراق بدعم من الحرس الثوري الإيراني، وعلى ضوء ذلك، لا بد أن تحدد السلطات العراقية مع التحالف الدولي تلك الجهات ليتم ضبطها أو دمجها بالجيش والمؤسسات الأمنية وإعادة هيكلتها خاصة أن معظمها متماهٍ مع الأجهزة والمؤسسات العراقية.
لكن الأطراف القريبة من إيران تريد الإبقاء على الحشد الشعبي وميليشياته الولائية مستقلة عن أي مؤسسة أمنية وتحت سيطرة وسلطة نفوذها، وهو ما لا تقبله واشنطن ولا التوجه الدولي ولا الداعون لحصر السلاح بيد الدولة في بغداد ولا دول الجوار القلقة من تصرفاتها وتهديداتها.
الاستعداد للحرب والتغيرات التكتيكية
بدأت ملامح المواجهة الشاملة بين ميليشيات اللادولة والتحالف الدولي تتكشف، فقد بدأت 10 ميليشيات ولائية على الأقل بنقل مقارها ومخازن أسلحتها إلى أماكن جديدة وغير مكشوفة لتتجنب القصف الانتقامي الأمريكي المتكرر، فحاولت الميليشيات (حزب الله العراقي، النجباء، سيد الشهداء، الخراساني، إلخ) تخزين أسلحتها بمقار الجيش العراقي والشرطة الاتحادية لإحراج التحالف الدولي إن قصفها، لأن تلك المقار تابعة للأجهزة الأمنية الرسمية وليست خاصة بالميليشيات كما حصل في الهجوم الأمريكي الأخير على مقار كتائب حزب الله العراقي في جرف الصخر الذي أدى لسقوط 3 جنود من الجيش وضابطين في الشرطة ومدني.
إن خطورة هذه التحركات تكمن في نقل المخازن إلى المدن وقرب الأحياء السكنية لحمايتها بالمدنيين وهو أسلوب اتبعته داعش إبان سيطرتها على الموصل وتكرره الميليشيات اليوم بصورة سرية.
من جهة أخرى، قامت القوات الأمريكية والتحالف الدولي بما يمكن تسميته إعادة انتشار، فقد أفرغت قوات التحالف معسكر القائم غرب العراق، وقد يتكرر ذات الفعل في معسكر القيارة جنوب الموصل ومعسكرk1 في كركوك لعدم امتلاكهما للبنى التحتية الكاملة لصد هجمات الميليشيات المتكررة، علمًا أنها معسكرات سبق أن غادرتها القوات المشتركة وعادت إليها مع تغير الظروف الأمنية.
“عُصبة الثائرين”.. فصيل جديد
فصيل جديد أعلن عن نفسه وتبنى الهجمات على القوات الأمريكية في قاعدة التاجي والمنطقة الخضراء بالتزامن مع تهديدات فصائل وميليشيات ولائية قريبة من إيران لم تتبن أي عملية لكنها باركتها وأيدتها. الفصيل يدمج في أسلوبه وعملياته وخطاباته بين المجاميع السنية قبل عام 2011 والميليشيات الشيعية الولائية من أجل تضييع المسؤولية.
من جهة أخرى، حاولت هذه الميليشيات عبر وسائلها الإعلامية مصادرة جهود الفصائل السنية وعرض أرشيف مقاطع سجلت في فترة الاحتلال على أنها عمليات تابعة لها تستهدف فيها القوات الأمريكية في محاولة لتضييع الجهة التي تقف خلفها، لكن الجهود الأمريكية على ما يبدو من خلال متابعة التحقيقات ودراسة الفصائل ووجود القبضة الأمنية والتعاون العراقي والرقابة الجوية ستحد من فاعليتها واستمرارها بصورة خفية.
ويبدو بحسب المراقبين الأمنيين أن هذا الفصيل سيعتمد على إطلاق الصواريخ محدودة التأثير والقنص والتفخيخ والاختراق والاغتيال من أجل استفزاز القوات الأجنبية وليس هدفه قتل عدد كبير من القوات الأجنبية، فالموقف ليس جهاديًا إنما سياسيًا ويتوافق مع المواقف الإيرانية وميليشياتها الولائية.
تكتيك “المنصات المتحركة”
بدأت الميليشيات الولائية كالفصيل الجديد “عُصبة الثائرين” تستخدم الشاحنات المتحركة وإخفاء منصات إطلاق الصواريخ من على ظهرها مع كثافة إطلاق صواريخ الكاتيوشا التي لا تستطيع التقنيات الحديثة – إن وجدت – التعامل معها أو صدها لصغر حجمها وكثرة عددها، وقد ربط مؤقت إطلاق – لنصف ساعة – في الشاحنة التي استهدفت قاعدة التاجي في المرة الأخيرة من أصل 3 هجمات خلال أسبوع، ليُتيح لها الهرب والحيلولة دون القبض عليهم، خاصة أنهم يهاجمون من مناطق خاضعة لسيطرة الجيش العراقي لتوريطه بدلًا عنهم وخلق رأي عام مناهض للوجود الأجنبي إذا رد على أي هجوم وأوقع عراقيين.
إن أسلوب حرب العصابات “اضرب واهرب” وحرب الشوارع الذي كانت تستخدمه الفصائل السنية نجح نجاحًا كبيرًا آنذاك في تحقيق ضربات في حرب الاستنزاف ضد الوجود الامريكي قبل 2011، لكن اليوم التعاون العراقي والجهد الاستخباري والبُعد السياسي وليس الجهادي في الهجمات سيحد منها وقد ينهيها في فترة ليست بالطويلة.
التحقيقات المشتركة
بعد الهجمات المتكررة على قاعدة التاجي العسكرية من الميليشيات الولائية (3 هجمات خلال أسبوع) بدأت قوات التحالف تتعامل مع القوات المشتركة والحكومة العراقية بصرامة لتتبع الفاعلين، ولم ترد على هجوم التاجي الأخير وأفسحت المجال أمام التحقيقات لتأخذ مجراها كاختبار حسن النوايا، خاصة أنه لم يُوقع ضحايا إلا 3 جرحى من قوات التحالف.
وقد شاركت في التحقيقات مديرية الاستخبارات العسكرية وجهاز مكافحة الإرهاب وجهاز المخابرات العراقي، وطالب التحالف بغداد بالاطلاع على نتائج التحقيق بعد تيقن التحالف أن منصات إطلاق الصواريخ التي انطلقت من منطقة (المبزل) عبرت 3 حواجز عسكرية تابعة للجيش العراقي وهو ما أدى لاعتقال لواء قريب من ئاسة الوزراء العراقية سهل دخول الشاحنة وحاول حذف محتوى الكاميرات الخاصة بالحواجز التي مرت من خلالها الميليشيات ومنصات الصواريخ.
الدولة أمام اختبار صعب
من خلال الضغط الأمريكي والمجتمع الدولي بقواه الفاعلة اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا كالبنك الدولي والأمم المتحدة والتحالف الدولي، بدأت السلطات والقوى الفاعلة في استشعار القلق من رسائل التهديد الصريح والمبطن بضرورة تقديم شيء لتحسين الوضع في البلاد والجدية بوضح حد لمنظومات اللادولة والفساد الذي تستغله إيران للتمكن من الدولة وقراراتها، لأن تجاهل تلك الرسائل سيضع العراق باختبار صعب، إما باستمرار الدعم الدولي أو البدأ بإجراءات مؤذية للعراق في فترة عصيبة، مع تزايد الحديث عن فشل الدولة في أداء مهامها وسيطرة المسلحين على قرارها السيادي وعدم الجدية في محاربة الفساد ووضع حد لعوامل اللادولة.
صاغت الولايات المتحدة عرفًا جديدًا في التعامل مع الميليشيات والحكومة العراقية، وهو أن أي هجوم ضد القواعد المشتركة يسقط فيه جنود من التحالف الدولي، فإنها ستقوم برد أكبر منه كإجراء انتقامي، من جهة أخرى، ترغب بالتأكيد للسلطات العراقية أنه في حالة عدم التعاون في كشف الجناة وعدم التوصل لنتائج مرضية للتحالف، ستأخذ إجراءات العسكرية ضد الميليشيات حتى لو أدى ذلك لخرق السيادة العراقية ومقتل منتسبين ومدنيين عراقيين كأضرار عرضية.