شكّل عام 2003 بداية وصول أحزاب الإسلام السياسي الشيعي في العراق إلى السلطة، وترافق مع هذا الوصول نفوذ إيراني متصاعد كان عنوانه العريض الدفاع عن المكتسبات التي حصل عليها الشيعة بعد هذا التاريخ، وعلى هذا الأساس راحت دوائر صنع القرار في إيران تؤسس لمرحلة جديدة في العراق، وقد شملت عملية التأسيس هذه مجمل الحالة العراقية بتفرعاتها السياسية والعسكرية، فعلى الصعيد السياسي برز لنا التحالف الشيعي الحاكم منذ عام 2006، وعلى الصعيد العسكري برزت لنا العديد من الفصائل المسلحة، وبهذا الإطار فرضت إيران واقعًا جديدًا في عراق ما بعد الاحتلال.
شهدت مرحلة ما بعد اغتيال قاسم سليماني رفقة نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، حالة من التشتت السياسي والأمني في العراق، سواء كان ذلك على صعيد الإستراتيجية الإيرانية في العراق أم على صعيد الدور السياسي والعسكري للأحزاب والفصائل القريبة منها، ومرد هذا التشتت أن سليماني اختزل مجمل الحالة السياسية في العراق بشخصه ودوره، ومن ثم أفرزت حالة ما بعد غيابه حالة سياسية معقدة، ومرد هذا التعقيد أيضًا، فشل زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله من جهة، وخليفة سليماني إسماعيل قآني من جهة أخرى، في ملء الفراغ الذي خلفه سليماني في العراق.
وعلى الرغم من تعويل الجانب الإيراني على زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر في إعادة القوة للدور الإيراني في العراق فيما بعد، فإنه هو الآخر واجه صعوبة كبيرة في احتواء التظاهرات العراقية من جهة، والنزعة القيادية التي بدأت تظهر على الكثير من الشخصيات الموجودة داخل الحشد الشعبي من جهة أخرى، وحتى جهوده في تشكيل “المقاومة الدولية في العراق” التي تضم بين ثناياها العديد من الفصائل الموجودة داخل الحشد الشعبي، واجهت هي الأخرى تحديات كبيرة، وعلى هذا الأساس برزت حالة سياسية جديدة داخل البيت السياسي الشيعي وهي “ثنائية الهوية والدور”.
يمكن القول إن رفض عدنان الزرفي من إيران، يمكن أن يكون سببًا كافيًا لرفضه من الأحزاب القريبة منها
فمما لا يخفى على المتابع للشان السياسي العراقي، أن هناك حالة تفتت كبير بدأت تعتري العمل السياسي الشيعي في العراق، ومرد ذلك أسباب كثيرة أهمها التظاهرات العراقية وغياب ضوابط الإيقاع وغيرها، وهي أسباب دفعت الكتل السياسية الشيعية إلى أن تختلف فيما بينها في موضوع اختيار مرشح لرئاسة الوزراء أو التعاطي مع ملف التظاهرات أو الوجود الأمريكي في العراق، وأخيرًا في موضوع هيكلية الحشد الشعبي، وهي موضوعات عقدت كثيرًا من حالة التوافق القلق الذي كانت تتحرك من خلاله الأحزاب الشيعية خلال الفترة الماضية.
إذ بدأ الحديث في الآونة الأخيرة عن ثنائيات معقدة، أحزاب قريبة من إيران وأخرى متمردة على النفوذ الإيراني وفصائل ولائية وأخرى عراقية، وهو ما أوجد حالة من الانقسام الكبير اليوم، وقد برز هذا الانقسام على أشده عندما رفضت كتل سياسية شيعية عديدة منضوية ضمن اللجنة السباعية المكلفة بترشيح رئيس الوزراء، عملية ترشيح عدنان الزرفي المدعوم أمريكيًا، بحجة أنه تصرف شخصي من رئيس الجمهورية.
وبعيدًا عن الحديث عن مدى دستورية أو عدم دستورية الخطوة التي قام بها رئيس الجمهورية مؤخرًا، إلا أنه نجح في تغيير الكثير من التقاليد التي سارت عليها العملية السياسية في العراق منذ عام 2006، وأهمها أنه تجاوز الخطوط الحمراء التي كانت مرسومة من إيران حتى وقت قريب.
ويمكن القول إن رفض عدنان الزرفي من إيران، يمكن أن يكون سببًا كافيًا لرفضه من الأحزاب القريبة منها، مما يخلق حالة انقسام واضح بين اللجنة السباعية المؤلفة من أحزاب وكتل شيعية، ففي مقابل دعم تحالف سائرون والنصر والحكمة للتكليف، عارضت كتل دولة القانون وتحالف الفتح والنهج الوطني والعقد الوطني عملية التكليف، والأكثر من ذلك وصفت الكتل الرافضة السيد الزرفي بأنه خيار أمريكي وليس عراقيًا، مما يعني أننا أصبحنا اليوم أمام مفهوم جديد وهو (شيعة إيران وشيعة أمريكا)، ومتابعة المواقف السياسية التي صدرت عن الكتل السياسية الشيعية بعد عملية تكليف السيد الزرفي، ستكشف الكثير من حالة التمزق السياسي الذي يمر بها التحالف الشيعي الحاكم اليوم.
بدأت حالة عدم الثقة تأخذ أبعادًا سياسية خطيرة، إذ أصبح العمل السياسي الشيعي في العراق يؤسس لمفاهيم خطيرة
وفي مقابل ذلك شهدت الساعات الماضية إعلان العديد من الفصائل المسلحة المنضوية ضمن هيكلية الحشد الشعبي، سحب ملاكها من هيئة الحشد الشعبي ودمجها ضمن ملاك وزارة الدفاع العراقية، والحديث هنا عن الفصائل التابعة لمرجعية النجف وهي: (فرقة العباس القتالية وفرقة الإمام علي القتالية ولواء المرجعية ولواء علي الأكبر)، في تمايز واضح عن الفصائل الولائية التابعة للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وهذا فصل آخر من فصول الانقسام، وعلى هذا الأساس يمكن القول إن المشهد السياسي الشيعي في العراق يعاني من أزمة ثقة بدأت تعتري الكثير من الأطراف، وحالة عدم الثقة هذه متأتية من غياب الضوابط التي كانت تؤطر العمل السياسي الشيعي في العراق سابقًا.
بل والأكثر من ذلك بدأت حالة عدم الثقة هذه تأخذ أبعادًا سياسية خطيرة، إذ أصبح العمل السياسي الشيعي في العراق يؤسس لمفاهيم خطيرة مثل (التخوين وشيعة السفارة والجوكر وغيرها)، وهي مفاهيم الهدف منها شرعنة عملية الاستهداف السياسي والأمني للمعارضين للنفوذ الإيراني في العراق، ومن ثم فإن تبني مثل هذه المفاهيم قد ينعكس سلبًا على الواقع السياسي والأمني في العراق، ولعل رسائل الدم التي تبعث بها الفصائل المسلحة القريبة من إيران للأحزاب والحراك الشعبي وحتى رئيس الجمهورية خير مثال على ذلك.