تتزايد المؤشرات المتعلقة بتداعيات تفشي فيروس كورونا الجديد (Covid-19) على الاقتصاد العالمي، فمن المرجح أن يصل إلى مرحلة من الركود لا تقل فداحة عن تلك التي تعرض لها خلال الأزمة المالية العالمية 2008، فالضربة المؤلمة التي تعرضت لها عجلة الإنتاج الصينية وتراجع الطلب بصورة عامة عالميًا، من المرجح أن يقود قاطرة الاقتصاد العالمي إلى حالة من الركود.
ويومًا تلو الآخر، ومع اتساع رقعة انتشار الوباء، من حيث عدد الدول التي أصيبت به أو من حيث معدلات الإصابات والوفيات، سارعت الكثير من الدول إلى اتخاذ إجراءات جذرية وشاملة، بما في ذلك منع الحركة والسفر والتجمع وعزل مدن أو مجتمعات بأكملها، انتظارًا لنجاح العلماء في التوصل للقاح يقي من المرض، بغض النظر عن الآثار الهائلة على عجلة الإنتاج والاستهلاك والتبادل ومعدلات النمو الاقتصادي والانخفاض في مستوى إيرادات الدولة.
وبالتوازي مع ذلك فقد تعرضت أسواق الطاقة إلى هزة عنيفة لم تشهدها منذ سنوات، حيث أدت حرب الأسعار بين السعودية وروسيا إلى هبوط سعر برميل النفط إلى ما دون 30 دولارًا، وهو ما يضع الدول المنتجة للنفط في مأزق اقتصادي كبير، يجسده التهاوي المتواصل لبورصات الخليج خاصة وبورصات العالم المختلفة خلال الأيام الماضية بصفة عامة.
اليوم تراجعت أسواق الأسهم في الخليج تحت ضغط معظمه من البنوك في ظل تدهور التوقعات الاقتصادية للمنطقة في مواجهة تفشي الفيروس، ففي دبي، تراجع المؤشر 2% مع هبوط أكبر بنوك الإمارة، بنك الإمارات دبي الوطني 4.9% وانخفاض سهم إعمار العقارية القيادي 3.1%.
كما تراجع المؤشر السعودي 0.9% ونزل سهم عملاق النفط أرامكو السعودية 1%، في حين فقد سهم شركة البتروكيماويات الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك) 1.5%، بجانب هبوط مؤشر قطر 0.2%، مع انخفاض أسهم بنك قطر الوطني 1.2% والبنك التجاري القطري 0.7%.
حالة من الترقب تنتاب الخليجيين في ظل تصاعد الأزمة وضبابية مستقبلها، في الوقت الذي فرضت فيه حكومات المنطقة إجراءات احترازية قاسية على شعوبها للحيلولة دون تفاقم الوضع، رافقها خطوات أخرى تحفيزية لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فهل تنجح تلك الخطوات في امتصاص الصدمة قبل فوات الأوان؟
إجراءات تحفيزية
اتخذت دول العالم العديد من الإجراءات التحفيزية لاقتصاداتها في محاولة لتقليل الآثار والتداعيات المرتبتة على القرارات الاحترازية المتخذة للحد من انتشار الفيروس التي أصابت حركة الاقتصاد العالمي بحالة من الشلل، وكانت دول الخليج على رأس تلك الدول التي بادرت باتخاذ تلك المحفزات.
“نون بوست” في تقرير سابق استعرض أبرز تلك الإجراءات، البداية كانت مع قطر حيث خصصت الدولة حزمة محفزات مالية واقتصادية بمبلغ 75 مليار ريال قطري تعادل نحو 20.5 مليار دولار للقطاع الخاص، فيما وضع مصرف قطر المركزي الآلية المناسبة لتشجيع البنوك على تأجيل أقساط القروض والتزامات القطاع الخاص، مع فترة سماح لمدة 6 أشهر.
كما وجه بنك قطر للتنمية بتأجيل الأقساط لجميع المقترضين لمدة 6 أشهر، وإعفاء السلع الغذائية والطبية من الرسوم الجمركية لمدة 6 أشهر، وإعفاء قطاع الضيافة والسياحة وقطاع التجزئة وقطاع الصناعات الصغيرة والمتوسطة والمجمعات من رسوم الكهرباء والماء، كما أعفت مؤسسة قطر جميع مستأجري محلات البيع بالتجزئة التابعة للشركات الصغيرة والمتوسطة، من دفع الإيجار لمدة 6 أشهر لدعمهم في مواجهة التحديات العالمية التي يفرضها فيروس كورونا.
أما على المستوى السعودي، فقد أعدت مؤسسة النقد العربى السعودي (البنك المركزي) حزمة بقيمة 50 مليار ريال (13 مليار دولار) لإعانة المنشآت الصغيرة والمتوسطة على مواجهة الآثار الاقتصادية لتفشي فيروس كورونا، فيما أعلن مصرف الإمارات المركزي خطة دعم شاملة بقيمة 100 مليار درهم (27 مليار دولار) لاحتواء تداعيات فيروس كورونا، بجانب تأسيس صندوق صانع سوق لتوفير السيولة المالية، بقيمة مليار درهم تعادل 270 مليون دولار، لإيجاد توازن مستمر بين العرض والطلب على الأسهم.
الصورة المالية العامة لدول مجلس التعاون الخليجي تتدهور تدهورًا حادًا، ومن المحتمل أن تكبد أسعار النفط بين 30 و40 دولارًا للبرميل هذا العام دول الخليج عشرات المليارات من الدولارات من إيراداته
وفي الكويت، وافق مجلس الوزراء على ضخ 500 مليون دينار (1.6 مليار دولار) في ميزانيات الوزارات والإدارات الحكومية، إضافة إلى إنشاء صندوق مؤقت لتلقي المساهمات النقدية من المؤسسات والشركات والأفراد لدعم جهود الحكومة في مواجهة انتشار الفيروس.
كما خصصت حكومة أبو ظبي 5 مليارات درهم تعادل 1.36 مليار دولار لدعم الكهرباء والمياه للمواطنين والقطاعات التجارية والصناعية، إضافة إلى دعم رسوم توصيل الكهرباء للشركات الناشئة حتى نهاية العام، وإعفاء جميع الأنشطة التجارية والصناعية من رسوم التسجيل العقاري لهذا العام.
هزة اقتصادية
حالة من العجز متوقع أن تتعرض لها حكومات مجلس التعاون الست جراء الهزة الاقتصادية الراهنة، وهو ما يضع العديد من التحديات أمامها في إدارة هذا العجز في موازناتها أو زيادة الضرائب أو خفض الدعم بفعل التركيز على تحفيز النشاط الاقتصادي والتخفيف من أثر انتشار الوباء على سكانها.
معظم الحكومات تمتلك احتياطات مالية ضخمة، يمكنها الاستعانة بها في الوقت الراهن إذا لم تنتعش أسعار النفط، كذلك هناك خيارات أخرى من بينها خفض الإنفاق الاستثماري لإدارة العجز في الميزانية أو كسب الوقت بالاستدانة، وهي الإجراءات التي رغم قدرتها على كسب المزيد من الوقت، تحمل مخاطر متعددة.
خبراء ذهبوا إلى أن الاحتياطات النقدية لا يمكنها الحفاظ على الإنفاق الحاليّ لفترة طويلة جدًا، وهو ما يعني أنه قد يتعين عليها (الحكومات) خفض الإنفاق، لا سيما أن العملات الخليجية المربوطة بالدولار الأمريكي تعرضت منذ عشرات السنين لضغوط بفعل التوقعات بقلة السيولة.
وتتباين دول الخليج فيما بينها من حيث مدى تأثير تلك التداعيات الاقتصادية السلبية، فقطر تتمتع بفائض في الموازنة واقتصادها يعتمد على صادرات الغاز الطبيعي المسال الذي كان تأثره المباشر بأسعار النفط أقل شدة، في حين أن اقتصاد عمان والبحرين وهما دولتان أصغر منتجتان للنفط وتعانيان من عبء الديون أكثر عرضة لتقلبات الأسعار.
الإمارات والكويت وقطر التي تتمتع بوسائل حماية مالية أكبر من السعودية بوسعها تحمل ضعف أسعار النفط لفترة أطول
لكن في المجمل ترى شركة أرقام كابيتال أن الصورة المالية العامة لدول مجلس التعاون الخليجي تتدهور تدهورًا حادًا، ومن المحتمل أن تكبد أسعار النفط بين 30 و40 دولارًا للبرميل هذا العام دول الخليج عشرات المليارات من الدولارات من إيراداتها.
وعليه قد تشهد السعودية ارتفاع العجز في موازنتها لعام 2020 إلى 16.1% من التقدير السابق البالغ 6.4%، إذا كان متوسط أسعار النفط 40 دولارًا للبرميل، أما إذا كان متوسط الأسعار 30 دولارًا للبرميل فتقول أرقام كابيتال إن العجز سيقفز إلى 22.1% وهو ما يعادل 170 مليار دولار وفقًا لحسابات كابيتال.
ومما يؤكد هذا الكلام ما صرح به وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، قبل يومين، بأن عجز ميزانية المملكة هذا العام قد يزيد ليصل إلى 9% من الناتج المحلي الإجمالي، من نحو 6.4% في التوقع السابق، بسبب تهاوي أسعار النفط وأثر تفشي فيروس كورونا.
وعلى النقيض من المنتجين الأصغر، يمكن للسعودية أكبر مصدر للنفط في العالم أن تعوض انخفاض الأسعار جزئيًا بزيادة الإنتاج، ومع ذلك فقد قالت مصادر لرويترز الأسبوع الماضي إن الرياض طلبت بالفعل من مؤسسات حكومية تقديم مقترحاتها لخفض موازناتها بما لا يقل عن 20%.
السعودية الأكثر تضررًا
وفي سياق متصل يرى البعض أن الإمارات والكويت وقطر التي تتمتع بوسائل حماية مالية أكبر من السعودية بوسعها تحمل ضعف أسعار النفط لفترة أطول لكن “من المستبعد أن ترغب في وجود عجز كبير لفترة طويلة”، وفق ما نقلت “رويترز” عن مونيكا مالك من بنك أبو ظبي التجاري.
وتشير التقديرات إلى أن الرياض على وجه الخصوص ربما تلجأ لتدابير أكثر إيلامًا، على رأسها التوجه نحو الاستدانة وزيادة معدلات القروض، مع الوضع في الاعتبار أن المملكة منذ 2014 استدانت من الخارج بما يتجاوز 100 مليار دولار مستفيدة من انخفاض أسعار الفائدة العالمية.
كلفة الاقتراض ربما تكون كبيرة حال استمرت دول الخليج في الاعتماد عليها للخروج من أي مأزق تمر به، وقد تتعزز تلك المخاطر مع انخفاض أسعار النفط
وربما يكون هذا الحل مناسبًا في ضوء عدم تجاوز ديون السعودية حاجز الـ20% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يؤهلها للاقتراض لتمويل العجز، لكنها قد تختار بدلًا من ذلك استغلال احتياطاتها التي بلغت نحو 469 مليار ريال (124.96 مليار دولار) في العام 2019 أي ما يعادل 17% من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي هذا الشأن يقول كريسيانيس كرستينز المدير ضمن فريق فيتش للتصنيفات الائتمانية في الشرق الأوسط وإفريقيا “عمليًا كانت الحكومة تخطط لاقتراض نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام (وكان العجز المتوقع في الموازنة 6.4% من الناتج المحلي الإجمالي)، وربما يكون بإمكانها اقتراض المزيد من أسواق المال إذا اقتضت الضرورة”.
وفي المجمل فإن كلفة الاقتراض ربما تكون كبيرة حال استمرت دول الخليج في الاعتماد عليها للخروج من أي مأزق تمر به، وقد تتعزز تلك المخاطر مع انخفاض أسعار النفط، وهو ما تجسده السندات الخليجية التي شهدت ارتفاعًا كبيرًا في الإقبال على بيعها خلال الآونة الأخيرة، وتصنف وكالات التصنيف الائتماني الكبرى بالفعل سندات عمان والبحرين ضمن التصنيفات الاستثمارية عالية المخاطر.