ترجمة وتحرير: نون بوست
في الوقت الذي كان من المقرر فيه أن يتكلم الأمير الشاب، الذي كان يدير أغنى دولة في العالم العربي، كان حشدٌ من المستثمرين الدوليين ورجال الأعمال والمليونيرات والمليارديرات مجتمعين في قاعةٍ فاخرة تحت ثريات الكريستال الضخمة في انتظار ظهوره.
في خريف سنة 2017، جاء جميعهم إلى عاصمة المملكة العربية السعودية، الرياض، من أجل عقد مؤتمر استثماري فخم أطلِق عليه بشكل غير رسمي اسم “دافوس الصحراء” حتى يبدو متفردًا وذو نتائج مثل اللقاء السنوي لأصحاب النفوذ من مختلف مناطق العالم الذي يُعقد في جبال الألب السويسرية. ولكن كان لهذا المؤتمر هدفٌ مختلف تمثل في إقناع المموّلين المجتمعين بأن الوقت قد حان الآن للمراهنة على السعودية.
خلال الأيام السابقة، عملت المملكة بجد لإقناع الآلاف من ضيوفها بأن أي تصوّرات مسبقة لديهم عن المملكة العربية السعودية لم تكن صحيحة، أو كانت على الأقل على وشك أن تُصبح غير صحيحة، حيث قيل لهم إن البلاد بصدد التغير والانفتاح والتخلي عن ماضيها كمملكة إسلامية محافظة للغاية ومعزولة.
لطالما اشتهرت المملكة العربية السعودية بأمرين: النفط والإسلام. اكتشفت احتياطيات هائلة من النفط تحت رمال المملكة لدرجة حوّلت عائلة آل سعود المالكة إلى واحدة من أغنى السلالات في العالم، مما أكسب البلاد التي تحمل اسم هذه العائلة أهمية جغرافية استراتيجية ما كانت لتكتسبها لولا النفط. لقد شكلت الثروة النفطية الهائلة الاقتصاد السعودي، وأعطت فئة النخبة من الأمراء ورجال الأعمال ثروة هائلة بينما بقي معظم المواطنين في منازلهم أو حصلوا على رواتب من الوظائف الحكومية التي كانت تدفع لهم جيدًا وغالبًا ما تتطلب القليل من العمل.
لم يكن الإسلام الرسمي المعتمد في المملكة أي إسلام، بل كان الوهابية، وهو التفسير المتطرف وغير المتسامح الذي نُسج في تاريخ المملكة. لقد علّمت الوهابية المؤمنين أن يكونوا حذرين من “الكفار” غير المسلمين، وطبقت حكم قطع رؤوس القتلة وتجار المخدرات في الساحات العامة، وحرمت النساء من الحقوق الأساسية. كانت المملكة أكثر صرامةً بكثير من معظم المجتمعات الإسلامية الأخرى، لكن وضعها كحارس لأقدس المواقع الإسلامية في مكة والمدينة منحها سلطةً فريدةً على 1.8 مليار مسلم في العالم.
أدرك القادة السعوديون سمعة مملكتهم المضطربة، لذلك خطّطوا لهذا المؤتمر بعناية بهدف تحدي نظرة الحضور للبلاد. تناول الضيوف طعامًا من لحم الضأن المشوي وتروفل الشوكولاتة في عشاءات خاصة استضافه الأمراء والمسؤولون في منازل فاخرة تحتوي على حمامات سباحة ومعارض فنية وخزائن مشروبات كحولية مخفية. كما ظهرت النساء بشكل بارز في البرنامج واختلطن بحرية مع الرجال في مقهى فندق ريتز كارلتون دون الالتزام بتغطية شعرهن مثل ما كنّ يفعلن في أماكن أخرى.
لقد شجعت العروض التقديمية البهية المستثمرين لاتخاذ مبادرات كبرى. وقد كان من المتوقع أن تصبح المملكة العربية السعودية مركزًا عالميًا للنقل والشحن، وتنتشر خيارات الترفيه لمواطنيها البالغ عددهم 22 مليون نسمة، بما في ذلك المنتزهات ودور السينما ومواقع الحفلات الموسيقية المحظورة منذ فترة طويلة لأسباب دينية. كان من المتوقع أن تزدهر السياحة من خلال تطوير المواقع التاريخية المهملة منذ فترة طويلة وإنشاء منتجع بيئي على مستوى عالمي في البحر الأحمر. وفي حال ظل أي شخص متشككا بشأن التغييرات غير حقيقية، فإن المملكة كانت مستعدة أخيرًا لإلغاء القانون الذي مثل منذ فترة طويلة المثال الأساسي لقمعها للنساء: ففي حزيران / يونيو 2018، سمحت المملكة للنساء بالقيادة.
كانت الرسالة واضحة: إن التغييرات العملاقة جارية في المملكة العربية السعودية، والرجل المسؤول عن هذه التغييرات كان ابنًا غامضًا للملك ومدمنًا على العمل يدعى محمد بن سلمان. كان عمره 32 سنة وظهر لإعادة تشكيل المملكة – والشرق الأوسط الأوسع – بأقصى سرعة ممكنة.
جلس الحضور في المؤتمر على كراسي فاخرة أو على سجادة قمحية اللون، ليحكموا على شكل الأمير الشاب. هل هو حقيقي؟ هل هو قائد صاحب رؤية سيخلّص المملكة العربية السعودية من ماضيها المحافظ، أم شخص مغرور سيجرها إلى الهاوية؟
انتشرت التمتمة في القاعة عندما فُتح باب جانبي ظهر منه الأمير
كان الأمير مرتديًا الزي الوطني للرجال السعوديين، أي ثوبًا أبيض طويل يُعرف باسم “الثوب”، وغطاء رأس باللون الأحمر والأبيض (شماغ) مثبت في مكانه بقطعة سوداء اللون تسمى عقال، وصندل أسود اللون. كان الأمير بدينا، بسبب حبه للوجبات السريعة، وكانت لحيته كثيفة تصل لوجنتيه، بحجة أنه كان مشغولًا جدًا في العمل لدرجة أنه لم يستطع إهدار الوقت في العناية غير الضرورية بمظهره. ثم صعد المنصة وهو محاط بالمساعدين والمصورين وكاميرات التلفزيون وجلس على كرسي أبيض.
ولي العهد محمد بن سلمان في مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار في 2017.
برز الأمير من المجهول قبل أقل من ثلاث سنوات، من بين آلاف الأمراء، ليرسم طريقه إلى قمة هيكل السلطة في المملكة. عندما تسلم والده المسن الملك سلمان العرش في سنة 2015، سلم ابنه مسؤولية الإشراف على أهم المناصب الوزارية في المملكة، على غرار الدفاع والاقتصاد والدين والنفط. بعد ذلك، ومن خلال إبعاد الأقارب الأكبر سنا، أصبح محمد بن سلمان ولي العهد، مما جعله المرشح التالي لاعتلاء العرش. في المقابل، ظل والده على رأس الدولة، ولكن كان من الواضح أن الأمير محمد كان الحاكم العملي والمشرف والمدير التنفيذي للمملكة.
لتمييزه عن مجموعة أقاربه الملكيين، أشار إليه المراقبون السعوديون والسعوديون بأحرفه الأولى م.ب.س. كان محمد بن سلمان رجلاً ضخم الجثة ذو حضور ملفت. في العلن أو على انفراد، كان بن سلمان يستغني عن اللغة العربية الرسمية المستخدمة من قبل القادة العرب ويتحدث بسرعة باللهجة السعودية، ملوحا بيديه الكبيرتين، وكان صوته عميقا مثل الهدير. غالبًا ما كان الأمير مفعما بالطاقة، وكانت أفكاره تأتي بسرعة لدرجة أنه يقاطع نفسه في منتصف الحديث.
أثناء اللقاءات مع المسؤولين الأجانب، كان محمد بن سلمان يتمسك أحيانًا برؤيته للمستقبل لمدة ساعة أو أكثر دون توقف لتلقي الأسئلة. وقد ذكر أحد المسؤولين الأجانب أن الأمير لم يتوقف عن هز ساقه أثناء الاجتماع، مما جعله يتساءل عما إذا كان الأمير متوترًا أو متعاطيًا لنوع من المنشطات.
على المنصة في ذلك اليوم، خاطب محمد بن سلمان مدير الجلسة باللغة الإنجليزية ليُظهر لضيوفه الأجانب قدرته على التحدث بهذه اللغة، ثم انتقل إلى اللغة العربية للكشف عن مشروع آخر طموح للغاية، مشروع نيوم، وهو عبارة عن مدينة ستُبنى على قطعة أرض صحراوية معزولة بالقرب من البحر الأحمر، حيث يضع رجال الأعمال القوانين ويجذبون أفضل العقول في العالم إلى الابتكار على الأراضي السعودية.
من خلال التخطيط لمستقبل خال من الكربون والاستفادة من الشمس السعودية، ستعمل المدينة بالطاقة الشمسية وستعمل بعدد كبير من الروبوتات التي قد تفوق عدد السكان البشر. قال محمد بن سلمان إن مشروع نيوم سيكلف 500 مليار دولار وسيكون مكانًا مخصصا لـ “الحالمين”. والجدير بالذكر أن هذا المشروع لم يكن مشروع تنمية اقتصادية، بل “قفزة حضارية للبشرية”.
خفتت الأضواء وشاهد الحضور مقطع فيديو مبهرج عن المدينة المقترحة. ثم سألت مديرة الجلسة، وهي صحفية أجنبية، عما إذا كانت النزعة المحافظة الدينية للمملكة ستعيق مشروعًا يركز بشدة على المستقبل. في المقابل، رفض محمد بن سلمان فكرة أن التعصب يُعد جزءًا من التاريخ السعودي، وأصرّ على أن المملكة لطالما سعت إلى التعامل مع بقية العالم لصالح الجميع. لم نكن هكذا في الماضي، ونحن نحاول العودة إلى ما كنا عليه في السابق، أي إلى الإسلام المعتدل والمتوازن المنفتح على العالم وعلى جميع الأديان وعلى جميع التقاليد والشعوب.
“لا تتجاوز أعمار 70 بالمئة من الشعب السعودي 30 سنة. بكل صدق، لن نضيع ثلاثين سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة. سوف ندمر هذه الأفكار اليوم على الفور. نريد أن نعيش حياة طبيعية، حياة تترجم ديننا إلى التسامح وعاداتنا وتقاليدنا الجيدة، وسوف نعيش مع العالم ونساهم في تطوير العالم بأسره”.. لم يصرح زعيم سعودي بهذا التعهد قط، لذلك صفق له الحضور بحرارة.
بعد أسبوعين، ظهر واقع أقسى
على مدى بضعة أيام، اعتقل مسؤولون من البلاط الملكي والشرطة السرية المئات من أغنى وأقوى الرجال في المملكة العربية السعودية، بما في ذلك عددًا من أقارب محمد بن سلمان – وحتى بعض الذين حضروا حفل زفافه. كما وقع تجريدهم من هواتفهم المحمولة وحراسهم وسائقيهم وحُبسوا في فندق ريتز كارلتون في الرياض، مما حوّل المكان الفاخر لمؤتمر الاستثمار إلى سجن خمس نجوم. كان هناك مستقبل جديد على وشك التحقق في المملكة العربية السعودية، سيشمل أكثر من مجرد روبوتات ونساء يقدن السيارات.
قالت الحكومة إن الاعتقالات كانت بمثابة حملة ضد الفساد، ورحب العديد من السعوديين بالفكرة. كما راقبت الحكومة منذ فترة طويلة الأمراء ورجال الأعمال وهم يشقون طريقهم نحو عقود مربحة أو أثناء إدارتهم لمخططات أخرى لاختلاس ثروات من خزائن الدولة. وكان بعض الذين احتجزوا في فندق ريتز من بين أسوأ الجناة.
مع ذلك، ظل بقية الجناة الآخرون المعروفون أحرارًا، بما في ذلك بعض أبناء أخ الملك سلمان المقربين، مما أثار الشكوك حول الأهداف الحقيقية للحملة. كانت جوانب أخرى غريبة أيضا. وأثناء الاعتقالات، وقع الإعلان عن اللجنة المسؤولة عن قيادة التحقيقات. كان محمد بن سلمان يقود اللجنة، وهو الشخص الوحيد الذي لم يُحقق في مصدر ثرواته أبدًا.
ألم ينفق الأمير نفسه ما يقرب نصف مليار دولار على يخت؟ ماذا عن قصره الفرنسي الذي أشاد به في المجلات باعتباره “أغلى منزل في العالم”؟ في وقت لاحق، صرح مشتر وكيل يقال إنه يعمل لصالح محمد بن سلمان بدفع 450.3 مليون دولار لشراء لوحة لليوناردو دا فينشي. من أين أتت كل هذه الأموال؟
قيل للمعتقلين في فندق ريتز إنهم ضيوف لدى الملك، لكنهم لم يُعاملوا بطريقة جيدة. مع استمرار محنتهم، تواصل معي أحباؤهم بحذر لانتقاد محمد بن سلمان. كانت إحدى أقرباء المحتجزين تنتمي لعائلة سعودية من رجال الأعمال، وأخبرتني بأنها لم تسمع شيئًا عن قريبها المحتجز منذ أسابيع حتى اتصل بها فجأة وقال لها “أنا بخير” محاولا أن يقنعها بأنه بخير. وانتهت المكالمة في ثلاث دقائق. وقد رأت أن الإجراءات الصارمة هي خدعة من قبل محمد بن سلمان لقيادة عاصمة المملكة لتحقيق أهدافه الخاصة، بينما يشوه سمعة كل من قد يتحداه. حيال هذا الشأن، قالت: “إنه مريض نفسي وحقود يريد تحطيم الناس. لا يريد أن يكون لأي شخص بخلافه اسم مشرف. إنه شيطان، ويتعلم الشيطان منه”.
في غضون سنوات قليلة فقط، أصبح بن سلمان القوة المهيمنة في المملكة
لم يكن بروز محمد بن سلمان مقدرًا. خلال معظم حياته، لم يكن وجوده ملحوظًا وسط حشد من الأمراء الأكثر ثراءً والأكثر خبرة، وكان الأقل قيمة في عائلة سادت فيها الأقدمية. إذًا كيف فعل ذلك؟ يروي هذا الكتاب القصة. يمكن أن يثبت محمد بن سلمان أنه الحاكم الأكثر أهمية في المملكة العربية السعودية منذ أن أسس جده المملكة قبل ثمانية عقود وجعلها شريكًا رئيسيًا للولايات المتحدة.
برز محمد بن سلمان بعد ستة عقود من وفاة جده، خلال الفترة التي تلقت فيها أغنى دولة في العالم العربي تهديدات خطيرة. كان سعر النفط آخذًا في الانهيار، مما أدى إلى ضرب اقتصاد المملكة. كان ثلثا مواطنيها تحت سن الثلاثين، وكانوا يتدافعون للحصول على وظائف ويعانون من قيود اجتماعية صارمة. وفي الشرق الأوسط الكبير، انتشر جهاديو تنظيم الدولة عبر العراق وسوريا وقصفوا المملكة. أما إيران، عدو المملكة العربية السعودية، فقد كانت تستغل الاضطرابات في المنطقة لتوسيع نفوذها.
التهيؤ لالتقاط صورة شخصية في مؤتمر للأعمال بالرياض.
كانت الشكوك حول التزام الولايات المتحدة التي تمثل أهم حليف للمملكة السبب في تفاقم هذه التحديات. لم يكن الرئيس باراك أوباما مولعا بالسعودية، وقبل أن يصبح رئيسًا، وصف أوباما المملكة العربية السعودية بأنها لا تمثل حليفا “مزعوم”، وانتقد نشرها للوهابية لأنها غذت التعصب في العالم الإسلامي.
من جهة أخرى، عملت إدارته على إبرام صفقة نووية مع إيران بينما أقر الكونغرس تشريعًا يسمح للأمريكيين بمقاضاة المملكة العربية السعودية بشأن هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 الإرهابية، حيث كان خمسة عشر من الخاطفين التسعة عشر، وكذلك زعيمهم، أسامة بن لادن سعوديين. كانت كلتا الحركتين بمثابة صفعة قوية لمملكة التي تعتمد على الولايات المتحدة لحمايتها، حيث أنفقت مليارات الدولارات على الأسلحة الأمريكية وتوقعت ولاءً معينًا في المقابل.
لقد واجه محمد بن سلمان جميع هذه المشاكل وأكثر، من خلال إقحام المملكة في حرب اليمن، وإطلاق خطة لإصلاح الاقتصاد، وجذب المدراء التنفيذيين من وول ستريت وهوليوود وسيليكون فالي، واختطاف رئيس وزراء دولة أخرى، وإقامة علاقة قوية وغير مرجحة مع الرئيس دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر. أما داخل المملكة، كان بن سلمان يعيق رجال الدين، ويفتح دور السينما وأماكن الحفلات الموسيقية، ويكسر التقاليد، ويحبس أفراد العائلة المالكة الآخرين – بما في ذلك والدته – ويفرض سلطوية تكنولوجية من خلال التجسس على هواتف الناس، ويتلاعب بالوسائط الاجتماعية، والتسبب في جرائم قتل شنيعة صدمت العالم.
صعود محمد بن سلمان بركوب موجات الاتجاهات العالمية
مع تركز المزيد من ثروات العالم في أيدي عدد أقل من الدول، استخدم السلطويون الشعبويون الخطاب القومي لحشد شعوبهم مع إغلاق منافذ المعارضة. على غرار الحزب الشيوعي في الصين والدكتاتوريين الصاعدين من مصر إلى المجر، لم ير محمد بن سلمان أي داع لفرض رقابة على سلطته وسحق جميع التهديدات التي يتعرض لها، سواء الملموسة أو غير الملموسة. لقد كان يطمح لعصر المملكة العربية السعودية أولاً، ولن يتوقف عند أي شيء لجعل المملكة العربية السعودية عظيمة مرة أخرى، وفقا لشروطه.
لقد ارتفع المد القومي في الدول الغربية أيضًا. فكان تصويت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب الرئيس ترامب في الولايات المتحدة سببًا في تحول مواطنيهم وحكوماتهم إلى الداخل، مما أدى إلى إفساح المجال أمام حلفائهم المستبدين بشكل كبير. أظهر هذان الحدثان أيضًا أن الحقيقة في السياسة غالبًا ما تكون أقل أهمية من العواطف التي يمكن للمرء أن يثيرها على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد كان هذا هو الدرس الذي تعلمه محمد بن سلمان جيدًا، وطبّقه في مملكته.
يعتبر محمد بن سلمان شخصية مثيرة للانقسام إلى حد كبير، ففي حين أشاد به المؤيدون باعتباره الشخص الذي طال انتظاره ليغير قواعد اللعبة في منطقة تتخبّط، نبذه الخصوم باعتباره ديكتاتورًا وحشيًا في طور التكوين. أما داخل المملكة العربية السعودية، كان بن سلمان بمثابة عملاق تنتشر صوره في كل مكان – مطبوعةً على أغطية الهواتف المحمولة ومعلقةً على مداخل مراكز التسوق – وكانت كل مبادرة يطلقها يروّج لها أنصاره والصحفيين الموالين له كخطوة ناجحة.
لكن الكثير من الأمور المتعلقة به لا تزال غامضة. فقد أغلقت موجة الاعتقالات المناقشة العامة حول خلفيته وحكمة خططه أو قدرته على تنفيذها. ويفيض الحماس في بعض القطاعات مع تحرر الحياة الاجتماعية من القيود واضطلاع النساء بوظائف لم تحلم بها أمهاتهن. لكن الخوف ظلّ منتشرًا على نطاق واسع لدرجة أن المشاركات العابرة على مواقع التواصل الاجتماعي أو التعليق الخاص يمكن أن تؤدي إلى الاعتقال أو السجن، وبات العديد من السعوديين يتجنبون التحدث عبر الهاتف أو يعمدون إلى وضع أجهزتهم في الثلاجة عندما يجتمعون.
يشكّل محمد بن سلمان أصل هاتين الظاهرتين، مدفوعًا باتجاهين سُلّط عليهما الضوء في أواخر سنة 2017 عندما تمكن في آن واحد تقريبًا من جذب مؤتمر الاستثمار وحبس الناس في فندق ريتز. وهو مصمم على منح السعوديين مستقبلًا مشرقًا ومزدهرًا، بينما يسعى بجدّ إلى سحق خصومه. ومن المرجح أن تؤدي هذه السمات المختلطة مع جرعات مختلفة إلى توجيه تصرفاته إلى المستقبل البعيد.
في أواخر العشرينات من عمره، تجنب محمد بن سلمان التحدث باللغة الانجليزية علنًا
قد يرى البعض أنه من غير الحكمة – إن لم يكن من قبيل الحماقة – تأليف كتاب عن هذا القائد الشاب الذي يمكنه أن يحكم بلاده لعقود من الزمان. لا يسعى هذا الكتاب إلى سرد قصة محمد بن سلمان الكاملة، وإنما يروي صعوده الملحوظ وتأثيراته على المملكة وعلاقاتها مع الولايات المتحدة والشرق الأوسط الكبير. وسوف يحدد محمد بن سلمان إلى أين تذهب قصته بعد ذلك. ولكن إليكم كيف بدأت.
الفصل الأول: المملكة
في سنة 1996، حصل رجل بريطاني-جزائري يعمل مدرّسا في مدرسة للنخبة في جدة على الساحل الغربي للمملكة العربية السعودية، على عرض عمل مميز.
فقد جاء أمير يدعى سلمان بن عبد العزيز إلى المدينة لبضعة أشهر مع إحدى زوجاته وأطفالها، وقد كانت الأسرة تبحث عن مدرّس لغة إنجليزية. كان المدرس رشيد سيكاي يعرف القليل عن الأمير سلمان. لقد كان حاكم مدينة الرياض، ما يجعله مسؤولا عن العاصمة السعودية، وكان ابن الملك الذي أسس المملكة العربية السعودية، ما منحه مكانة مرموقة بين آلاف الأمراء والأميرات الذين شكلوا العائلة المالكة. بدت الوظيفة مثيرة للاهتمام، وربما كان الأجر جيدًا، لذلك قَبِل سيكاي، وعلى مدار الأشهر القليلة التالية، كان السائق يُقلّه من المدرسة في نهاية يوم العمل ويأخذه إلى المجمع الملكي حيث كان يقيم سلمان وعائلته.
حسب ما كتب في مقال لـ “بي بي سي” نيوز، عند دخوله لأول مرة، شاهد سيكاي “سلسلة من الفيلات الرائعة ذات الحدائق النظيفة التي يهتم بها عمال يرتدون الزي الأبيض”. اجتاز ساحة انتظار مليئة بالسيارات الفاخرة، بما في ذلك ما بدا أنها أول سيارة كاديلاك وردية شاهدها في حياته. في القصر، التقى الأطفال الذين سيشرف على تعليمهم: أبناء سلمان الأربعة من زوجته الثانية، الذين كان أكبرهم والأكثر إزعاجا بينهم طفل يبلغ من العمر 11 سنة ويدعى محمد بن سلمان.
من الواضح أن الأمراء الشباب كانوا مهتمين باللعب أكثر من الدراسة، لكن سيكاي بذل قصارى جهده للحفاظ على تركيز الأولاد الصغار، وهو جهد انهار عندما ظهر محمد بن سلمان. لقد أخبرني سيكاي: “بصفته أكبر إخوته، كان يُسمح لبن سلمان بفعل بما يحلو له. خلال الدروس، كان محمد بن سلمان يأخذ جهاز اللاسلكي من أحد الحراس لإبداء “ملاحظات وقحة” حول معلّمه ويمزح مع الحراس على الطرف الآخر من الخط للترفيه عن إخوته”.
بعد بضعة دروس، أخبر محمد بن سلمان سيكاي أن والدته أخبرته بأن معلمهم “رجل نبيل حقًا”. فوجئ سيكاي بذلك، ذلك أن الفصل بين الجنسين في المملكة العربية السعودية يمنعه من مقابلة الأم، ناهيك عن منحها فرصة لتقييم شخصيته. ثم أدرك أنها كانت تراقبه من خلال كاميرات المراقبة المعلقة على الجدران. وقد جعل هذا الأمر سيكاي يشعر بالوعي الذاتي، ولكنه سلّط ضغطًا عليه.
لم يحرز الصبيان تقدمًا كبيرًا في اللغة الإنجليزية، وفي أواخر العشرينات من عمره، تجنب محمد بن سلمان التحدث بهذه اللغة علنًا. في المقابل، حققوا تقدمًا أقل في اللغة الفرنسية، التي طلبت أم الأمراء من سيكاي إضافتها إلى المناهج الدراسية. ولكن بحلول نهاية فترة حيازته للوظيفة، كان سيكاي قد أصبح مولعًا بالشاب محمد بن سلمان المفعم بالحيوية، وذلك بعد سنوات وهو يتذكر “شخصيته المهيبة”. افترض سيكاي أن ذلك يعود إلى مكانته باعتباره أكبر أبناء والدته فضلا عن الاهتمام الذي أغدقته عليه عائلته المباشرة.
أوضح سيكاي قائلا: “كان بن سلمان محط إعجاب، الأمر الذي منحه ذلك الشعور بأنه “المسؤول هنا”. في ذلك القصر، كان هو الشخص الذي رعاه الجميع. لقد لفت انتباه الجميع”.
كان والده، سلمان بن عبد العزيز، أميرًا وسيمًا ومجتهدًا ذو شعر أسود مجعّد، ولحية، كما اشتهر بالاستقامة والصلابة.
عندما يسافر إلى الخارج، كان يرتدي بدلاتٍ ذات ياقات واسعة وربطات عنق مخططة وضعته في مقارنات مع أصحاب البنوك في وول ستريت أو شخصيات من أفلام جيمس بوند. وفي المنزل، كان يرتدي الزي التقليدي الأميري الفخم، ويشرف على العاصمة السعودية والمناطق المحيطة بها بصفته حاكم الرياض. كان السكان يمزحون قائلين إنه بإمكانهم ضبط ساعاتهم عند مرور موكبه المتوجه إلى العمل في الصباح، قبل ساعات من استيقاظ الأمراء الآخرين.
من أجل إدارة العاصمة، ظل الأمير يراقب القبائل ورجال الدين والعشائر الكبيرة في المنطقة – بما في ذلك قبيلته. ولسنوات، كان الفرد الأكثر انضباطًا في العائلة المالكة. ففي حال برزت مشاحنة بين أبناء العم الملكيين حول قطعة من العقارات وخرجت عن السيطرة، أو إذا سددت أميرة فاتورة فندق هائلة في باريس، أو إذا ثمل أحد الأمراء وتسبب في فضيحة، كان سلمان يحل المشكلة، حتى أنه كان يحتجز مرتكبي الجرائم الفظيعة في سجنه الخاص.
الأمير سلمان، قبل أن يصبح ملكا، في الرياض سنة 1991.
يُذكر أنه قال للكاتب البريطاني روبرت لاسي متباهيا: “لدي العديد من الأمراء في سجني في هذه اللحظة”. إلى جانب ذلك، ذكر دبلوماسي أمريكي أن سلمان منع أحد أشقائه من التشكّي من قاعدة تنظيمية جديدة حيث طلب منه “أن يخرس ويعود إلى العمل”.
لم يلعب أي طرف دورًا أعظم من سلمان في دفع صعود نجله محمد بن سلمان. بعبارة أخرى، اجتاز سلمان التغييرات الهائلة التي أحدثت ثورة في الحياة في المملكة العربية السعودية خلال القرن العشرين. كان سلمان نجلا لسلالة فشلت مرتين في إنشاء مملكة وسط شبه الجزيرة العربية قبل أن تنجح بشكل هائل لدرجة أن سكان الصحراء الذين كانوا روّاد هذه الفكرة كانوا يجدون صعوبة في تصديق كيف انتهى الأمر.
في منتصف القرن الثامن عشر، في واحة مشمسة من بيوت الطين وأشجار النخيل، قام أسلاف سلمان بالمحاولة الأولى، عندما أنشأ زعيم يدعى محمد بن سعود أول شبه دولة سعودية حول قريته الدرعية. لم يكن محمد ينتمي لأي من القبائل الرئيسية التي شكلت البنية الاجتماعية الأساسية لشبه الجزيرة العربية في ذلك الوقت. وبدلاً من ذلك، كان آل سعود مزارعين مستقرين زرعوا التمور واستثمروا في القوافل التجارية.
كانت المعارك بين القبائل والعشائر شائعة، ولكن محمد بن سعود نجح في تشكيل تحالف مع رجل دين أصولي يدعم كيفية حكم الجزيرة العربية لأجيال قادمة. لقد ندد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأن الإسلام قد أُفسد بالممارسات العربية التقليدية على غرار عبادة الأصنام والأشجار. بالإضافة إلى ذلك، دعا إلى تطهير الدين من خلال استئصال “البِدع” والعودة إلى ممارسات النبي محمد وأصحابه قبل قرون. لكن آراء الشيخ تسببت في طرده من مسقط رأسه، لذلك لجأ إلى الدرعية، حيث ربط آل سعود رسالته الدينية بمشروعهم السياسي.
استفاد كلا الطرفين من التحالف. فمن خلال دعم بن عبد الوهاب، لم يعد آل سعود مجرد عشيرة عربية أخرى خارجة عن السلطة، وإنما يقاتلون من أجل الإيمان الموحّد الحقيقي. في المقابل، منحوا الشيخ وأحفاده السيطرة على الشؤون الدينية والاجتماعية. في الحقيقة، أثبت التحالف فعاليته، ومع صعود أول دولة سعودية، وُصفت المجتمعات التي رفضت رسالة الشيخ بالكفار الذين يستحقون الذبح.
عندما توسعت أراضي الدولة لتشمل الأماكن الإسلامية المقدسة في مكة والمدينة، رد العثمانيون على ذلك بإرسال قوات أطاحت بالدولة، وحوّلت الدرعية إلى أنقاض، وتشتت أفراد آل سعود الناجين. حاول أحفادهم إعادة تأسيس الدولة في القرن التاسع عشر في مدينة الرياض المجاورة، لكنهم فشلوا من خلال التناحر عمن يجب أن يكون المسؤول.
أدى تدفق الثروة النفطية إلى تعزيز قوة الإرث في تاريخ المملكة
وفي أوائل القرن العشرين، أعاد أحد أحفاد آل سعود يدعى عبد العزيز – جد محمد بن سلمان – إحياء الحملة لغزو أرض أجداده.
هكذا قاد القوات على ظهور الجمال وأعاد تأسيس التحالف مع أحفاد بن عبد الوهاب، الذين قدموا تبريرًا دينيًا لحكمه. وعلى مدى ثلاثة عقود، نجح عبد العزيز في السيطرة على أجزاء كثيرة من شبه الجزيرة العربية، وأشرف على حكمها من العاصمة الجديدة، الرياض.
لكن صعود هذا النظام السياسي الأصولي الجديد أربك القوى الغربية التي كانت تحاول الاستقرار حول الخليج العربي، لذلك كان الملك عبد العزيز مخيّرا بين مواصلة الجهاد التوسعي الذي كان سيتسبب في اندلاع صراع مع البريطانيين، أو إنشاء دولة حديثة. ولكنه خيّر الاحتمال الثاني، وأعلن عن قيام دولة المملكة العربية السعودية سنة 1932.
كانت المملكة العربية السعودية لتظل على الأرجح صحراء منعزلة ذات أهمية ثانوية في نظر بقية العالم لولا اكتشاف النفط سنة 1938. وقد جذب ذلك المضاربين والفنيين وشركات النفط وممثلي الحكومات الغربية التي تسعى إلى الوصول إلى الذهب الأسود في المملكة، بما في ذلك الولايات المتحدة. وفي اجتماع سري انعقد سنة 1945 بين الرئيس فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز على متن سفينة حربية أمريكية في قناة السويس، اتفق الزعيمان ووضعا أسس اتفاق دائم يضمن وصول الأمريكيين إلى النفط السعودي مقابل الحماية الأمريكية من الهجمات الأجنبية. وقد أصبح هذا الاتفاق دعامةً للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط خلال القرن القادم.
أدى تدفق الثروة النفطية إلى تعزيز قوة الإرث في تاريخ المملكة. بعبارة أخرى، موّل السعوديون الترويج الدولي لتعاليم بن عبد الوهاب، مما ساهم في جعل الوهابية قوة دينية عالمية. كما أصبحت شركة أرامكو السعودية، وهي الشركة المحتكرة للنفط في المملكة، الأكثر قيمة في العالم ــ حتى الآن. علاوة على ذلك، أصبح آل سعود من أغنى السلالات في العالم. وعند وفاته سنة 1953، كان الملك عبد العزيز قد تزوج ما لا يقل عن ثمانية عشر امرأة وأنجب 36 ولدًا و27 بنتًا. وسارت ذريته على منواله أيضًا، حيث توسعت العائلة إلى عشيرة مترامية الأطراف تحمل البلاد اسمها وتتمتع بثروات وامتيازات هائلة.
صورة للملك عبد العزيز آل سعود مع الرئيس فرانكلين روزفلت في مصر سنة 1945.
كان الآلاف منهم مدعومين من قبل الدولة السعودية. وفي سنة 1996، قام دبلوماسي أمريكي بزيارة المكتب المكلف بتوزيع مستحقاتهم الشهرية. وقد وجد مجموعة من الخدم المكلفين بتسلم مستحقات أسيادهم من العائلة المالكة التي تختلف حسب مكانتهم. كان كل من أبناء وبنات الملك عبد العزيز يحصلون على ما يقارب 270 ألف دولار، والأحفاد ما يقارب 27 ألف دولار، وأحفاد الأحفاد حوالي 13 ألف دولار. أما أبعد الأقارب فكانوا يتلقون نحو 800 دولار. كان الأمراء يحصلون كذلك على مكافآت بقيمة مليون دولار لبناء قصور عند الزواج، ناهيك عن الامتيازات عند إنجاب الأطفال. وقدّر الدبلوماسي أن الرواتب تُكلف الدولة أكثر من ملياري دولار سنويًا، لكن ذلك كان مجرد تخمين.
كان قسم هائل من هذه الأموال يذهب إلى المجتمع بهدف كسب ولاء السكان. قال أحد أبناء سلمان إنه أنفق أكثر من مليون دولار من ماله الخاص خلال شهر رمضان لتنظيم الولائم لأتباعه. ورغم كل هذا، لا تزال العائلة المالكة تعيش في بذخ، فهي تشتري أساطيل من اليخوت، وتبني القصور من لوس أنجلوس إلى موناكو، وتقضي إجازات في الخارج فيها الكثير من البذخ لدرجة تؤدي إلى الانتعاش الاقتصادي في المناطق التي تنزل فيها.
كان أفراد العائلة المالكة كثيرين لدرجة أنهم يكوّنون مجتمعًا صغيرًا يعمل حسب قواعده الخاصة، بما في ذلك التحفظ العميق واحترام الأقدمية المتأصلة لدرجة أنهم يحفظون أعياد ميلاد بعضهم البعض. وهذا ما سمح لهم بالتدرج في الوظائف من الأكبر إلى الأصغر.
لا تزال الجدران الطينية وأسوار الدرعية، في الواحة حيث بدأ كل شيء، قائمة على مسافة قصيرة بالسيارة من الرياض – التي تحولت حاليًا إلى العاصمة العصرية التي تضم ثمانية ملايين شخص، تزينها المراكز التجارية وناطحات السحاب والطرق السريعة العريضة.
هناك قضّى سلمان حياته – وأعد ابنه للمستقبل.
وُلد سلمان بعد ثلاث سنوات من تأسيس المملكة العربية السعودية. وسيتذكر لاحقًا في حياته أنه عندما كان طفلاً، كانت عائلته لا تزال تعيش في الخيام خلال فترة من السنة. ولكن عندما أصبح شابًا، كانت الثروة النفطية قد حولت العائلة المالكة إلى سكان قصور ولاعبين على المسرح العالمي.
شكّل احترام العائلة للأقدمية طريقة الحكم في المملكة. فبعد وفاة الملك عبد العزيز سنة 1953، تداول أبناؤه الحكم من الأكبر إلى الأصغر، مع تجاوز بعض الإخوة غير الراغبين في الحكم أو أولئك الذين يعتبرهم بقية أفراد العائلة المالكة غير مؤهلين. (لم يكن للمرأة آفاق سياسية). تحت حكم الملك، كانت البلاد تدار من قبل كبار الأمراء الذين تقاسموا الحقائب الوزارية الرئيسية: الأمن الداخلي والجيش والحرس الوطني والشؤون الخارجية. وكانوا يتخذون القرارات الرئيسية بالتوافق.
يأتي سلمان في المرتبة الخامسة والعشرون بين أبناء الملك عبد العزيز الـ 36، ما يجعله في آخر ترتيب أبناء العائلة الحاكمة المخولين لتولي الحكم، لذلك كان احتمال توليه الحكم مستبعدًا طيلة حياته. ببساطة، كان هناك العديد من أبناء العائلة الآخرين المرشحين لهذا المنصب، ولم تُسند له وزارة هامة تُمكنه من تعزيز مكانة أبنائه. وبدلاً من ذلك، عُيِّن في العشرينات من عمره حاكمًا لمنطقة الرياض، وهو المركز الذي سيحتفظ به لما يقارب خمسين سنة في الوقت الذي تحولت فيه الرياض من مركز صحراوي متقدم إلى حاضرة كبيرة.
جعله منصبه كحاكم للرياض واجهة أساسية بين العائلة المالكة والمجتمع. فقد كانت له علاقات مع القبائل ومعرفة بأنسابها وخلافاتها وتاريخها. كانت الرياض أكبر مدينة في مركز الحركة الوهابية، منطقة نجد. وكثيرًا ما استضاف سلمان رجال الدين في بلاطه. لكن وظيفته الرئيسية تمثلت في استقبال الرعايا الذين هم في حاجة إلى المساعدة، على غرار أولئك الذين لهم أقارب مرضى ويبحثون عن المال لإجراء العمليات لهم، ورجال الأعمال الذين كانوا يسعون للحصول على عقود صفقات، والمزارعين الباحثين عن حلول للنزاعات العقارية، والعائلات التي تبحث عن وساطة لمنع قطع رؤوس أبنائها المحكوم عليهم بالإعدام.
على هذا النحو، كوّن سلمان على مر السنين حاضنة مثيرة للإعجاب. تنحدر زوجته الأولى، سلطانة بنت تركي بن أحمد السديري، من عائلة متنفذة وقد أنجبت له خمسة أبناء وبنت. التحق ابنه الأكبر، فهد، بجامعات في كاليفورنيا وأريزونا وانغمس في سباقات الخيل البريطانية، الأمر الذي مكنه من معرفة الغرب عن قرب. عندما غزا صدام حسين الكويت في سنة 1990، كانت لفهد لقاءات مع الصحفيين الغربيين الذين تدفقوا على المملكة لتغطية الحرب.
كان ابنه الثاني، سلطان، عقيدًا في سلاح الجو السعودي وأول عربي مسلم يشارك في رحلة إلى الفضاء على متن المكوك ديسكفري سنة 1985. كان يحب التزلج وقد أدار هيئة السياحة في المملكة وكان يحب كثيرًا الولايات المتحدة الأمريكية لدرجة أنه قد قال يومًا لدبلوماسي أمريكي: “إن بعض أجمل أيام حياتي كانت تلك التي قضيتها في الولايات المتحدة”.
درس ابنه التالي، أحمد، في جامعة كولورادو للمناجم وتخرج من أكاديمية وينتوورث العسكرية قبل أن ينضم كذلك إلى القوات الجوية. ثم التحق لاحقًا بجامعة إيفاين بكاليفورنيا، وتولى إدارة شركة إعلامية تابعة للعائلة. في سنة 2002، تسبب في اضطراب سير تنظيم مسابقة الخيول من خلال شراء خيل ثوروبريد الأصيل “شعار الحرب” مقابل 900.000 دولار قبل ثلاثة أسابيع من فوزه بكنتاكي ديربي. وقد وصفه بعض معارفه في صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” بـ “الرجل الأنيق صاحب الشارب القصير بشكل لا يُوحي بأنه من العائلة المالكة”.
الابن التالي هو عبد العزيز، الذي كان من أبناء العائلة النادرين العاملين بالقطاع النفطي في المملكة. وقد ساند جهود تحديث هذه الصناعة وعُيّن لاحقًا وزيرًا للطاقة. أما أصغر أبناء الأميرة سلطانة، فيصل، فقد حصل على درجة الدكتوراه من جامعة أكسفورد، وكان باحثا في جامعة جورج تاون، وأسس شركة “جدوى” السعودية للاستثمار.
أنجبت زوجة سلمان الأولى ابنة واحدة تدعى حصة، وقد عملت مع لجنة حقوق الإنسان في المملكة، وواجهت فيما بعد مشاكل قانونية في فرنسا بعد أن وقع اتهامها من قبل سباك بتحريض حارسها الشخصي على قتله.
في مرحلة ما، أَُصيبت سلطانة بمرض كلوي استفحل تدريجيََا جعلها تعيش تحت الرعاية الطبية المكثفة، وقد سافرت عديد المرات للخارج للتداوي. ثم تزوج سلمان من فهدة بنت فلاح آل حثلين، التي كانت صغيرة في السن وتنتمي لقبيلة بارزة. وقد أنجبت له ستة أبناء آخرين. (كما تزوج سلمان بامرأة ثالثة أنجبت له ابنًا وهو سعود، لكن زواجه منها لم يدم طويلا). نجل فهدة الأكبر هو محمد بن سلمان، من مواليد 31 أغسطس/آب 1985.
نشأ محمد بن سلمان كأمير ينعم بالامتيازات الموروثة وغير المكتسبة، منتقلًا في مواكب بين القصور، ومحاطًا بجيش من المرشدين والمربيات والخدم.
فقط بعض الأصدقاء المقربين والأقارب من العائلة يدعونه باسمه. بالنسبة للبقية، كانوا ينادونه بـ “طال عمرك” وهي اختصار لـ “أطال الله في عمرك” أو “صاحب السمو الملكي”. وإذا كان والده بعيدا من حيث ترتيب الخلافة، فإن ابنه محمد كان أبعد من ذلك بكثير بصفته الابن السادس للابن الخامس والعشرين للملك المؤسس. وبالتالي كان هناك احتمال ضعيف بأن يحظى بمثل هذه المكانة. وطيلة حياته، تمكن عدد قليل من تحقيق ذلك.
قال محمد بن سلمان في وقت لاحق إن والده أشرف على تعليمه مع أشقائه، حيث كان يُعطي لكل واحد منهم كتابًا لكل أسبوع ثم يقوم باستجوابهم. كما قامت والدته بجلب مثقفين لمحاورتهم إلى جانب إرسالهم في رحلات ميدانية تعليمية. كان كلا الوالدين صارمين في تربية الأبناء. فقد كان التأخر عن الإفطار مع الوالد بمثابة “كارثة”، كما كانت الوالدة أيضا قاسية في تربية الأبناء. قال بن سلمان لصحافيين من بلومبيرغ: “تساءلت أنا وإخوتي لماذا تعاملنا أمنا بهذه الطريقة؟ فهي لم تتغاضى أبداً عن أي من الأخطاء التي ارتكبناها”. وختم بالقول لاحقًا إن هذه المراقبة جعلته أقوى.
عالم محمد بن سلمان هو المملكة العربية السعودية، والظاهر أنه كان يحبها بقدر ما كان أقرباؤه يحبون لندن أو جنيف أو موناكو
نادرًا ما تحدث محمد بن سلمان علنًا عن شبابه، وعن الذين عرفهم في تلك الفترة، وهذا يجعل من الصعب رسم صورة مفصلة عن حياته المبكرة. كما أن السلطة التي أصبح يتمتع بها لاحقا زادت من غموض هذه الصورة، وهو الأمر الذي يجعل من تصريحاته العامة مكملة لبعضها وهو أمر يساهم كذلك في قبر كل ما هو فاضح. ولكن للتعرف على المكان الذي جاء منه، قضيتُ السنوات القليلة الماضية في البحث عن السعوديين وغيرهم ممن عرفوه وخالطوه في شبابه. لا يزال معظمهم على قيد الحياة أو لديهم أقارب أو شركات أعمال في المملكة، لذلك تحدثوا بشرط عدم الكشف عن هويتهم لحماية أنفسهم.
عاش سلمان مع زوجته الأولى بالقرب من الديوان الملكي في قصر بواجهة ذات أعمدة بيضاء وصفها الناس مازحين بـ “البيت الأبيض”. عاشت والدة محمد بن سلمان وأطفالها في مكان آخر، ولكن كانت لديها طموحات تهم أبناءها ولا يمكن تحقيقها إلا عن طريق والدهم. لكن محمد وإخوته لم يجدوا الترحيب الحار من قبل زوجة أبيهم سلطانة، التي كانت تحتقر أبناء الزوجة الثانية بسبب انتمائهم القبلي (وربما بدافع الغيرة من أمهم الأصغر منها سنًا والأفضل منها صحة). لم تكن تخفي هذا الاحتقار، الذي كان يردده أبناءها أحيانًا عندما يسخرون من محمد بن سلمان، في الوقت الذي كانت تسعى للنفخ في صورهم عبر تمكينهم من المؤسسات ومن الحصول على الشهادات الأجنبية.
كان مسار محمد بن سلمان مختلفًا تمامًا، مسارً محليًا وسعوديًا بعمق. ولكن خلال فترة مراهقته، كان مغمورًا وسط حشد من العائلة المالكة، في ظل وجود طرق معدودة للرفع من مكانته. لكن هذا المسار تغير نتيجة حادثين من الوفيات في الأسرة. في سنة 2001، توفي فهد نجل سلمان الأكبر، الذي ساعد الصحفيين خلال حرب الخليج، عن عمر يناهز 46 سنة. وبعد ذلك بسنة واحدة، توفي شقيقه أحمد، الفائز بـ كنتاكي ديربي، عن عمر يناهز 44 سنة. وحسب ما تم الإعلان عنه، فإن وفاة الأميرين كانت نتيجة نوبة قلبية دون توضيح الأسباب الحقيقية للوفاة.
تسببت الوفاة المفاجئة للأميرين في حزن سلمان العميق. وفي الوقت الذي لم يكن فيه لأبنائه الأكبر سنًا مسارات مهنية وكانوا مهتمين بعائلاتهم، كان محمد بن سلمان الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 16 سنة، يعيش بالقرب من والده ويشاطره الألم؛ وهو الأمر الذي زاد من توثيق الصلة بينهما. ضغطت والدة محمد بن سلمان على زوجها لقضاء المزيد من الوقت مع ابنه محمد، وكثيرًا ما كان يتبع الابن والده أثناء إدارته للعاصمة السعودية كحاكم. وقد كانت تجربة عميقة في الدولة جعلت الأمير محمد بن سلمان يراقب كل من دخل وخرج، متعرفًا على كل من له وزنٌ في القبيلة وعن كل وظيفة يمارسها رجال الدين ويتعرف في نفس الوقت على رجال الأعمال الذين يتحكمون في مفاصل الاقتصاد وأي من أطراف العائلة المالكة التي تسعى لامتلاك أدوات لتمزيق الدولة.
ذكر أحد المرافقين للعائلة خلال تلك الفترة أن حياة محمد بن سلمان الاجتماعية كانت مركزة حول استعمال نفوذه الملكي لربط علاقات مع الناس. وفي الصيف، تشد العائلة الرحال نحو شواطئ البحر الأحمر، حيث يستأجر محمد بن سلمان أسطولًا من الجت سكي المخصص للشباب. وفي فصل الشتاء، يقام معسكر في الصحراء، وتكون للأمير محمد بن سلمان أكبر خيمة، حيث تُقدم الحملان المشوية على أطباق ضخمة من الأرز، ويُترك نصيبٌ للبدو الذين جاؤوا لتحية العائلة المالكة.
إن عالم محمد بن سلمان هو المملكة العربية السعودية، والظاهر أنه كان يحبها بقدر ما كان أقرباؤه يحبون لندن أو جنيف أو موناكو. وقد استحسن والده ذلك وتعمقت الرابطة بين الأب والابن، حيث كان يرافقه في حفلات الزفاف والجنازات وكان يصلي بالقرب منه في المسجد.
ولي العهد مع والده، الملك سلمان بن عبد العزيز آل السعود في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر.
انتقلت والدة محمد بن سلمان وأبنائها في نهاية المطاف إلى قصرهم الملكي الخاص. وفي الصيف، كان سلمان أحيانا يقضي عطلة في قصر بناه شقيقه الملك الراحل فهد في مربلة مع زوجته الأولى وأطفالها، ثم ينتقل لزيارة زوجته الثانية في برشلونة. في وقت لاحق، ستستولي والدة محمد بن سلمان على جزء من فندق بلازا أثيني في باريس، متجاهلة مطبخه الفرنسي مفضلة الأطعمة السعودية التي يعدها طهاة استقدمتهم معها.
عندما كان في سن المراهقة، ترسخت في الأذهان صورة للسلوك السيء لمحمد بن سلمان. يقول البعض من العائلة المالكة وغيرهم ممن عرفوه إنه بدا محبطًا وغاضبًا، وينفجر أحيانًا من الغضب. وفي إحدى المرات، تنكر في زي ضابط شرطة وذهب إلى مركز تجاري مفتوح في الرياض للتباهي. ولم يكن بوسع ضباط الشرطة الفعليين فعل الكثير لأنهم كانوا يعرفون أنه نجل حاكم الرياض.
مثل والده كان محمد بن سلمان منصهرًا في الجزيرة العربية المعاصرة، لكنه كذلك ابن القرن الحادي والعشرين.
كما هو الحال بالنسبة لكثير من السعوديين من جيله، فإن إحساسه بالعالم تشكل عن طريق أفلام هوليوود والرسوم المتحركة الأمريكية واليابانية ومواقع التواصل الاجتماعي. وفي هذا السياق، قال الأصدقاء القدامى إنه يفقد نفسه أحيانًا في ألعاب الفيديو وهو أول شخص في مجموعته يصبح مدمنًا على فيسبوك.
كان محمد بن سلمان في السادسة عشرة من عمره عندما هاجم الطيارون الخاطفون الذين أرسلهم أسامة بن لادن، الولايات المتحدة في 11 أيلول/ سبتمبر من سنة 2001. وقد أخبر وفدًا من الأمريكيين بعد سنوات أن والدته اتصلت به لمشاهدة الأخبار وأنه وصل إلى مقر التلفزيون في الوقت المناسب لمشاهدة تحطم الطائرة الثانية في البرج الجنوبي لمركز التجارة العالمي. لم يكن محمد بن سلمان يرغب في أن تُنقل تعليقاته خلال ذلك الاجتماع مباشرة، إلا أن رئيس الوفد جويل روزنبرغ أخبرني بأن انطباعه حوله كان شعور بن سلمان بالرعب وأن العالم سيكره الإسلام بسبب الهجمات وأنه من الصعب أن يشعر السعوديون بالراحة في الخارج.
على الأرجح أن هذا الشعور قد أثر على طريقة حكمه لاحقًا. فقد أخبرني روزنبرغ: “أعتقد أنه نشأ وهو يقرر”، “لا أريد أن أعيش في بلد ينظر إليه العالم بهذه الطريقة، وأنني أفكر بهذه الطريقة، وسوف أطارد أي شخص يفكر في شيء من هذا القبيل أو ينظر إلينا على أننا بلد متخلف ومجنون”.
بدلاً من السفر للخارج للالتحاق بالجامعة، بقي محمد بن سلمان في الرياض ودرس القانون في جامعة الملك سعود. قال أحد زملائه إنه بدا حتى ذلك الحين عازمًا على أن يكون قائدًا، لطالما أدار المناقشات بين الأصدقاء وأخبر المجموعة ذات مرة أنه يريد أن يكون خليفة الإسكندر الأكبر. كان أمير آخر من نفس الجيل يلتقي بن سلمان في العشاء الأسبوعي الذي يقيمه عمهم، الأمير سلطان، لأبناء إخوته.
يسترجع الأمير ذكرياته قائلا: “كان يتحدث دائمًا عن الحكومة وكيف أراد أن يشارك في أخذ القرار وما يسعى إلى تغييره، لكنني اعتقدت أنه كان يقول ذلك لأنه ابن حاكم الرياض. لطالما أراد أن يكون الشخص الآمر وأن يكون في الصدارة”. في الحقيقة، كان معجبا أيضا بمارغريت ثاتشر. قال الأمير: “كان يستمتع دائمًا بالحديث عن المرأة الحديدية ومساهمتها في تعزيز النظام الاقتصادي لبريطانيا العظمى”.
كان جزءًا مما يدفعه أفراد العائلة المالكة مخصصًا للحماية من الرقابة العامة التي تتعلق بأنماط حياتهم وعادات إنفاقهم
بقي بن سلمان بعيدًا عن رادارات الدبلوماسيين والخبراء الأجانب الذين درسوا الديناميكيات الملكية لتوقع من سيتولى السلطة في المستقبل. وفي سنة 2007، زار السفير الأمريكي في المملكة العربية السعودية سلمان، الذي طلب المساعدة للحصول على تأشيرات لدخول الولايات المتحدة لعائلته. واجهت زوجته الأولى صعوبة في السفر لزيارة طبيبها، وعلى الرغم من أن أبناء سلمان الآخرين قد تعاملوا مع عملية إجراءات التقديم الصارمة، إلا أن ابنه محمد “رفض الذهاب إلى السفارة الأمريكية لأخذ بصماته كما لو كان بمثابة بعض المجرمين”.
في سنة 2007، تخرج بن سلمان من الجامعة حائزًا على الرتبة الرابعة في فصله وقضى عامين في العمل لهيئة الخبراء، وهي هيئة بحثية لمجلس الوزراء السعودي. بعد سنتين، كان من المقرر ترقيته غير أن الملك عبد الله منع ذلك، فعاد للعمل مع والده وتزوج من ابنة عمه الأميرة الصغيرة التي تدعى سارة بنت مشهور، في حفل زفاف أقيم في قاعة فخمة بالرياض.
بالنسبة للأجانب، بدا أن جميع أفراد العائلة المالكة السعودية أثرياء، على عكس ما يحدث في الداخل، حيث كانت هناك تدرجات واسعة في الوقت الذي لا يزال بن سلمان، مرة أخرى، بعيدًا عن القمة.
كان والده ذائع الصّيت، لكن خلال مراهقته أدرك بن سلمان أن والده يفتقر إلى الثروة بالمقارنة مع كبار العائلة المالكة الأخرى. ومع بلوغه مرحلة الرشد، بدأت الفروق في الثروة تتسع، حيث نزل أبناء عمه في العواصم الأوروبية بأساطيل من السيارات الفاخرة وسيطرت الحاشية على فنادق بأكملها. كان بعض أفراد العائلة المالكة يملكون ثروة طائلة، مما مكنهم من الاستيلاء على المنازل الفاخرة وتكثيف الزيارات المنزلية الميدانية من بائعي متجر هارودز المحملة بصناديق المجوهرات لزوجاتهم وبناتهم. كما منحوا بقشيشا بلغ ألف دولار لخادمي الفنادق، مزودين حاشيتهم بـ 100 ألف دولار من رزم المال إذا نزلوا بالقرب من كازينو. بالإضافة إلى ذلك، يمكنهم إنفاق 400 ألف دولار على الساعات بمجرد زيارة متجر واحدة.
كان جزءًا مما يدفعه أفراد العائلة المالكة مخصصًا للحماية من الرقابة العامة التي تتعلق بأنماط حياتهم وعادات إنفاقهم، ولكن غالبًا ما تتسرب التفاصيل. كانت مدينة مربلة، في كوستا ديل سول الإسبانية، وجهتهم الصيفية المفضلة، وساهم المال الملكي في انتعاش الاقتصاد. في الواقع، أحيا البعض مآدب من لحم الضأن والمحار والكافيار التي تكلف ما يصل إلى 1000 دولار للفرد. كما ارتفعت فواتير الفنادق المتضخمة أكثر فأكثر مع استئجار اليخوت والمروحيات والطائرات الخاصة.
على أرض الواقع، تصرف معظم أفراد العائلة المالكة بشكل لائق في الأماكن العامة، لكن عمال الضيافة في إسبانيا لاحظوا أن أغلبهم أطلقوا العنان للتمتع بالملذات المحرمة في بلدهم، على غرار الكحول ولحم الخنزير والسهر في الحفلات طوال الليل. في هذا الصدد، كتب صحفي محلي: “في ساعات مبكرة من الصباح، تصبح ممرات بعض الفنادق أشبه بممرات عرض أزياء”.
عُرضت صور الملك وولي العهد على الشاشات في مؤتمر بالرياض سنة 2019.
في بعض الأحيان، ساهمت الفضائح في لفت الانتباه إلى التجاوزات الملكية. في باريس، تركت الأميرة مها السديري حوالي 20 مليون دولار من الفواتير غير مسدّدة، بما في ذلك 400 ألف دولار لخدمة السيارات الفاخرة و100 ألف دولار لمتجر الملابس الداخلية إلى حد كبير. بعد ثلاث سنوات، عادت وحاولت الهرب دون دفع فاتورة بقيمة 7 ملايين دولار في فندق شانغريلا، حيث استولت هي وحاشيتها على 41 غرفة لمدة خمسة أشهر. في العام التالي، احتفل ابنها بتخرجه من خلال حجز أقسام كاملة من ديزني لاند الواقعة في باريس، حيث استمتع العشرات من ضيوفه بشخصيات ديزني النادرة. وبلغت فاتورة الاستيلاء الذي استمر لثلاثة أيام 19.5 مليون دولار.
لم يمارس بن سلمان هذا النوع من الإسراف، لكنه بدأ يلعب في سوق الأسهم السعودية منذ مراهقته. بمجرد دخول العشرينات من عمره، عمل في مجال الأعمال لبناء ثروته. فبعض أنشطته بدت واضحة، لكن مديري الأموال في الرياض اشتبهوا في أنه يتلاعب بسوق الأسهم، حيث كان يشتري أسهم شركات فاقدة القيمة، يرفع في سعرها ومن ثم يبيعها لتحقيق الربح قبل أن تنخفض قيمتها. وقال موظفو المالية والدبلوماسيون الذين راقبوا الأسواق بعد ذلك إن ما يسمى “الضخ والتفريغ” أمر شائع وأن بن سلمان لا يعد من بين أسوأ المخالفين.
لطالما كانت العقارات طريقة سهلة لتوليد الثروة الأميرية، وقد حاول بن سلمان ذلك أيضًا. في مرحلة ما، رغب في امتلاك قطعة أرض تعود لرجل أعمال لا يريد بيعها، تبعا لذلك، ضغط بن سلمان على رجل الدين الذي كان يدير مكتب تسجيل الأراضي لتوقيع الملكية بالغصب. في المقابل، قُوبل طلبه بالرفض لأن هذه المعاملة غير قانونية. على خلفية ذلك، أرسل له بن سلمان ظرفا بداخله رصاصة (كانت هناك رصاصتان في رواية أخرى). وفقا لذلك، نبه رجل الدين رئيسه، الذي أبلغ الملك عبد الله، فأخبر بدوره سلمان بأن يقوّم سلوك ابنه.
تركت هذه الحادثة انطباعا سيئًا بالنسبة للملك ولُقّب بن سلمان بأبي رصاصة. (رفض المسؤولون السعوديون هذه القصة وغيرها من القصص المريبة التي تعود إلى أوج سنوات بن سلمان بتعلة أنها مجرد إشاعات). تمكن بن سلمان بشكل واضح من كسب بعض المال. وأشار دبلوماسي متقاعد إلى سؤال تاجر سيارات فاخرة عن سوق ركوب السيارات الفاخرة المتعلق بسنة 2011.
وفسّر التاجر ذلك بالتفصيل؛ اشترى الأمراء الأدنى مستوى سيارات من نوع بورش أو بي أم دبليو، وحصل الذين بعدهم على مازيراتي وفراري، بينما اشترى المنفقون الكبار سيارات بوغاتي، التي بلغت تكلفتها بضعة ملايين من الدولارات لكل منهم.
سأل الدبلوماسي قائلا: “ومن يشتري كل هذه السيارات؟”
قال التاجر: “لقد قمت ببيع سيارة إلى رجل يدعى محمد بن سلمان”.
لم يسمع الدبلوماسي عنه قط.
“إنه ابن الحاكم”.
خلال منتصف العشرينات من عمره، كان لا يزال هناك سبب وجيه للتنبؤ بأن يصبح محمد بن سلمان أكثر من مجرد أمير يتوسط في الأعمال التجارية ويسافر إلى الخارج بين الحين والآخر لقضاء عطلة فاخرة.
ساهمت سلسلة ثانية من الوفيات في الأسرة في صعود سلمان وابنه لدرجات سلم الخلافة. في تموز/ يوليو 2011، خسرت زوجة سلمان الأولى صراعها الطويل مع مرض الكلى وتوفيت. وكان شقيقه الأمير سلطان، الذي كان في المرتبة التالية في العرش، يعاني من مرض السرطان، وبقي سلمان معه في نيويورك حتى وفاته في وقت لاحق من ذلك العام. وبالتالي، أصبح شقيقه الآخر، الأمير نايف، ولي العهد لكنه أصيب بأمراض القلب التاجية وتوفي في سنة 2012. ثم عيّن الملك عبد الله سلمان ولي العهد الجديد، وفجأة أصبح والد بن سلمان في المرتبة التالية في العرش وهو منصب جيد بما فيه الكفاية ليمنح السلطة لابنه المفضل.
لم يلق بن سلمان أي خطاب علني على الإطلاق عندما شرع في التخطيط لحياته السياسية، لكنه أعرب عن رغبته في أن يكون حاكمًا مختلفًا؛ شخصًا يقطع مع النظام القديم مثل عمالقة وادي السليكون، بدلاً من شخص يتبع الطرق التقليدية. وقال في مقابلة مع بلومبرغ “هناك فرق شاسع. الأول، كان باستطاعته أن يستحدث شركة أبل. والثاني، كان بإمكانه أن يصبح موظفا ناجحًا. كان لدي مقومات تفوق تلك التي يمتلكها ستيف جوبز أو مارك زوكربيرغ أو بيل غيتس. في حال اتبعت طرقهم في العمل، فما الذي سأبتكره؟ كل ذلك كان يجول في ذهني عندما كنت صغيرًا”.
تختلف مؤهلات أشقاء بن سلمان الأكبر سنًا والأكثر خبرة عن مؤهلاته، مما يثير التساؤل حول سبب اختيار والده له من بين بقية أشقائه لخلافته
مع ذلك، رأى الملك عبد الله أن بن سلمان مغتر بنفسه، حيث كانت تجربته لا ترتقي إلى مستوى طموحاته. عيّن سلمان وزيرًا للدفاع لكنه منع بن سلمان من الانضمام لوالده في الوزارة. وبعد ذلك، استجاب الملك لطلب سلمان وعيّن بن سلمان رئيسًا لمحكمة ولي العهد ومدير مكتب والده في الوزارة، وهو منصب على مستوى مجلس الوزراء.
يبقى هناك الكثير من الغموض حول كيفية قضاء بن سلمان العشرينات من عمره، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنه لم يفعل سوى القليل من الأشياء التي تجذب الانتباه في ذلك الوقت (عدى عن رجل الرصاصة) ولأن الكثير من الجهد سيبذل لاحقًا في تلميع سمعته بأثر رجعي. لكن ما هو واضح بالفعل الأشياء التي لم يفعلها بن سلمان قبل أن يتصدر بشكل فجئي المشهد السياسي في سنة 2015. لم يدر أبدًا شركة معترفًا بها، ولم يكتسب خبرة عسكرية على الإطلاق، ولم يدرس قط في جامعة أجنبية، فضلا عن عدم إتقانه لأي لغة أجنبية أو يسعى لإتقانها حتى. كما لم يمض وقتًا طويلا في الولايات المتحدة أو أوروبا أو أي مكان آخر في الغرب.
ستفسّر هذه المؤهلات كيف استطاع بن سلمان السيطرة على السلطة في وقت لاحق. إن فهمه العميق للمملكة ومجتمعها سيمكنه من تنفيذ التحركات التي اعتقد القليل أنها ممكنة قبل أن ينجح فيها. لكن افتقاره للخبرة مع الغرب منحه غرائز ضعيفة حول طريقة عمل وتفكير الحلفاء، ولا سيما الولايات المتحدة، وهي نقطة عمياء تؤدي في كثير من الأحيان إلى إساءة تقدير كيفية رؤيتهم لمناوراته الأكثر خطورة.
تختلف مؤهلات أشقاء بن سلمان الأكبر سنًا والأكثر خبرة عن مؤهلاته، مما يثير التساؤل حول سبب اختيار والده له من بين بقية أشقائه لخلافته. لم يشرح سلمان أبدًا سبب اختياره في العلن، وباعتباره ملكًا مطلقًا، فهو ليس مطالبًا بتبرير موقفه، لذا لم يتبق لنا سوى تخمينات مستنيرة. على الأرجح أن سلمان شارك آراء والده، مؤسس المملكة، الذي رفض اقتراح رجل أعمال أمريكي بتدريس أبنائه في الخارج. في هذا الصدد، قال الملك عبد العزيز: “لكي يكون الرجل قائدًا، يجب عليه أن يدرس في بلده، بين شعبه، وأن ينشأ في محيط يتشبع فيه بالتقاليد ونفسية مواطنيه”.
كان هذا التخمين بناء على فرضيات أطلعنا عليها زميلان مقربان من عائلة سلمان بشرط الإبقاء على سرية هويتهما. شعر أحدهما أن الإخوة الأكبر سنا؛ بتعليمهم الأجنبي واللهجات البريطانية ومزارع الخيول، فقدوا الاتصال بأبيهم، الذي يعد في نهاية الأمر سعوديا تقليديا مولعا بالصحراء وتناول اللحم بكلتا يديه. كحال بن سلمان، لذلك قدر له والده ذلك. وقال الآخر إنه على الرغم من أسلوب بن سلمان القاسي في التعامل مع العديد من أقاربه، إلا أنه لم يزعج والده، الذي ربما رأى في الأمير الشاب الصلابة وشعر بأن المملكة بحاجة إلى المضي قدمًا. لقد لخص المساعد هذا التفكير بهذه الطريقة: “للتعامل مع البدو، أحتاج إلى بدوي”.
في ربيع سنة 2014، وصل جوزيف ويستفال إلى الرياض كسفير للرئيس أوباما في المملكة العربية السعودية. حظي ويستفال، البالغ من العمر 66 عاما، بمسيرة مهنية تراوحت بين الأوساط الأكاديمية والحكومة، وعمل في عدد من الجامعات وفي منصب السكرتير بالنيابة للجيش. كان رجلاً طويلاً وضخم الجثة أزعج أسلوبه المرح أعضاء الإدارة القاسية. لكن أسلوبه عمل بشكل جيد مع السعوديين، الذين قدروا أنه يحب الدردشة قبل الخوض في مسائل العمل.
عندما استقر ويستفال في منصبه، عرض عليه أحد الأشخاص مقطع فيديو قديم لسلمان وهو يقوم بجولة في بعض المرافق العمومية – مصنع أو محطة معالجة مياه – في مكان آخر في الشرق الأوسط. يتذكر ويستفال أن سلمان كان يرتدي زي “موظف بنك في وول ستريت”، وتأكد من أن أولئك الذين قدموا الجولة شرحوا كل شيء لابنه، الذي دوّن ملاحظات وفيرة على ورقة صغيرة. لقد كان ذلك بن سلمان وكان ويستفال مفتونا به.
لوحة جدارية لمحمد بن سلمان في مهرجان ثقافي بالرياض سنة 2018.
في تلك الأثناء، أعتقد أن “هناك شيئا مميزًا جدًا بخصوص هذا الشاب، فلا شك أنه قرة عين والده”. في أغلب الأحيان، كان الملك عبد الله مشغولًا ومريضًا، لذلك كان ويستفال يزور سلمان بشكل متكرر ويراقب بن سلمان، وعادةً ما يقف إلى جانبه ولكنه لا يتحدث على الإطلاق. طلب ويستفال إجراء لقاءٍ مع الأمير الشاب وحصل على انطباع بأن بن سلمان كان متحمسًا، إذ لم يسبق أن طلبت منه أي شخصية بارزة على غرار سفير الولايات المتحدة مقابلته.
لقد انسجم الرجلان مع بعضهما البعض وتحدثا عن عائلاتهما وخلفياتهما، وأصبح السفير مقتنعًا بأن هذا الشاب كان جاهزًا للقيام بأشياء عظيمة. يتذكر ويستفال ذلك قائلا: “كنت على يقين منذ البداية من أنه كان شابًا طموحًا ومقدرًا له أن يكون قائدًا. كما كانت خطته جاهزة”.
المصدر: نيويورك تايمز