لم يكن كورونا الجديد الوباء الوحيد الذي منيت به البشرية، فالتاريخ يسجل العديد من الأوبئة التي كلفت الإنسانية أثمانًا باهظة، ففي منتصف القرن الثامن عشر، عرفت أوروبا وباءً جديدًا اسمه “الجدري” سقط بسببه عشرات الملايين من بني الإنسان، حيث كان يموت 20% من ضحاياه، ويصاب الباقي بتشوهات مستديمة ويصاب البعض بالعمى، الأمر الذي هدد وقتها بفناء الجميع إذا لما يكن هناك علاج سريع.
وفي أواخر القرن ظهر طبيب إنجليزي يدعى “إدوارد جينر” نجح في التوصل إلى لقاح لهذا الوباء، وذلك بعد عدة تجارب أجراها على إحدى المصابات به وكانت تعمل حلابة للبقر، حيث وجد أنها محصنة ضد الجدري لأنها كانت قد أصيبت بحمى جدري البقر (cowpox)، فاستنتج جينر أن أخذ مواد من جلد المصابة وحقنها بشخص آخر لإصابته بنفس المرض سوف يولد مناعة مستقبلية ضد هذا المرض.
ومع مرور الوقت وخضوع اللقاح لعدد من النتائج، طور جينر اكتشافه، وبعد جهد كبير، قام خلاله بالعديد من حملات التطعيم بهذا اللقاء للمصابين في ربوع أوروبا، توصل إلى نتائج جيدة للغاية، إلى أن أعلنت منظمة الصحة العالمية استئصال الجدري من العالم عام 1980.
الجدري.. الوباء الفتّاك
تحول الجدري إلى كابوس أرق مضاجع سكان أوروبا والقارات المجاورة لها، حيث كان يتسبب سنويًا في وفاة نحو 400 ألف شخص في دول أوروبا وحدها، وهو ما دفع الحكومات المختلفة إلى البحث عن علاج فعال مهما كان الثمن، لكن باءت كل المحاولات بالفشل.
في 1796 اكتشف جينر عن طريق الصدفة أن الإصابة بفيروس جدري البقر تقي البشر من ويلات الإصابة بمرض الجدري، الذي كان يعتبر حينها أخطر وباء يصيب البشر، ومن هنا بدأ التفكير جديًا في كيفية توظيف هذا الاكتشاف من أجل التوصل إلى علاج سريع.
ففي بداية هذا العام جاءته سيدة تدعى “ساره نيلمس” وتعمل حلابة للبقر، تستشيره في مرض ما، وفي الحديث سألها عن تعرضها للجدري قبل ذلك، فأخبرته أنها لن تصاب به أبدًا، وذلك لأنها تعرضت لجدري البقر لذلك لن تصاب بجدري البشر، ومن هنا بدأ الطبيب في محاولة البحث في خفايا هذه العلاقة.
واكتشف الطبيب الإنجليزي أن جدري البقر نوعان، يشبه أحدهما جدري الإنسان، فاستفاد منه في فكرة التلقيح، وفي 14 من مايو 1796 اختار جينر طفلًا سليمًا (جيمس فيبس) كان عمره نحو 8 سنوات ليلقحه بمرض جدري البقر، ورغم أنه نجا من التلقيح التجريبي لفيروس جدري البقر لكنه عانى من حمى خفيفة فقط.
وفي الأول من يوليو من العام ذاته أخذ جينر عينة من قيح مرض الجدري المميت، وطعم الطفل بها في ذراعه وقام بالأمر مرارا وتكرارً، ونجا الطفل بعد أكثر من 20 محاولة دون استسلام للمرض، وبعد وقت قليل اتضح أن طريقة جينر للتطعيم بجدري البقر هي آمنة أكثر من طريقة التجدير.
وأجرى جينر عشرات التجارب مستخدمًا لقاحه حتى توصل إلى نسب شفاء كبيرة، أذهلت العالم في هذا الوقت، وفي عام 1801 تم تطعيم أكثر من 100.000 شخص ضد المرض، نجا معظمهم بصورة صعدت منسوب الأمل لدى شعوب أوروبا بقرب انتهاء هذا الوباء اللعين الذي حصد أرواحهم وأوصد أبواب الحياة أمام الملايين منهم.
أبحاث جينير المستمرة على اللقاح منعته من ممارسته العادية للطب، ولقد تلقى الدعم والتشجيع من زملائه ومن الملك فى برلمان الالتماسات، وتم إعطاؤه منحة قدرها 10.000 جنيه عام 1802 نظير عمله على اللقاح، وفي عام 1807، تم منحه 20.000 جنيه أخرى بعد إعلان كلية الجراحين الملكية عن الفاعلية الواسعة للقاح.
وبعد نحو قرنين من الزمان أعلنت منظمة الصحة العالمية انتصار البشرية على الجدري، وحددت الطفلة البنغالية رحيمة بانو (Rahima Banu) والصومالي على ماو مالين (Ali Maow Maalin) كآخر شخصين معروفين أصيبا بالجدري، ليُسدل الستار على أحد أشرس الأوبئة في العالم.
بونابرت ينحني للطبيب الإنجليزي
كان للتجارب التي أجراها جينر صداها الإيجابي في كل أرجاء القارة الأوروبية، حتى وصل صيتها للإمبراطورية الفرنسية، التي تزعم قائدها الطبيب والسياسي جوزيف إغنياس غيوتان جهود التشجيع على حملة تطعيم وطنية للقضاء على الجدري، حيث حصل على دعم البابا بيوس السابع.
وفي أكتوبر 1803 التقى القائد غيوتان بالقنصل الأول للبلاد، نابليون بونابرت وحدّثه عن ضرورة اعتماد التطعيم ضد الجدري بالبلاد، وبالفعل بدأت التجارب الأولى عام 1805 بمساعدة بعض الأطباء والصيادلة على رأسهم الصيدلي الفرنسي الشهير أنطوان برمانتيه.
قدم بونابرت الدعم الكامل للفريق الطبي المتخصص في حملات التطعيم، ثم بدأ عملية تطعيم الجيش الفرنسي، بل وصل الأمر إلى موافقته على تطيعم ابنه ضد الجدري وذلك في مايو 1811، كما عمم عملية التلقيح لتشمل بقية أفراد الشعب الفرنسي، وجاءت النتائج إيجابية للغاية، حيث حصل أغلب الأطفال بنصف محافظات فرنسا على تطعيم ضد الجدري في أثناء السنوات الخمسة الأخيرة من حكم نابليون وبفضل ذلك تراجع عدد الوفيات بسبب هذا المرض بشكل لافت للانتباه مقارنة بعام 1789 (سنة اندلاع الثورة الفرنسية).
لم ينس القائد الفرنسي دور المشاركين في هذه المعركة الطبية التي حمت الملايين من الشعب الفرنسي من الموت المحقق، ورغم العداوة التي خيمت على أجواء العلاقات مع بريطانيا، فإن ذلك لم يمنع بونابرت من تقديم واجب الشكر والتقدير والاعتراف بالجميل للطبيب الإنجليزي.
وفي عام 1805 أرسل بونابرت ميدالية للطبيب الإنجليزي إدوارد جينر كشكر لدوره الكبير في إنهاء معاناة كثيرين بسبب الجدري، كما عبر عن امتنانه وتقديره للجهد المبذول، واستمرت العلاقات بين القائد والطبيب لفترات طويلة حتى بعد الحصول على اللقاح وعلاج المصابين بالمرض.
ومن الشواهد التي سجلها التاريخ لاستمرار تقدير نابليون للطبيب الإنجليزي أن راسل الأخير الأول شخصيًا وطلب منه إخلاء سبيل أسيرين إنجليزيين كما طلب منه لاحقًا إطلاق سراح جاسوس عرف باسم السير جورج سينكلار، ورغم حساسية الموقف حينها، فإن بونابرت وافق دون تردد على إطلاق سراح هؤلاء الأسرى قائلًا: “لا نستطيع أن نرفض طلبًا لأحد أعظم من قدّموا خدمة للبشرية”.
ولد إدوارد جينر لرجل دين يدعى القس ستيفن جينر في 17 من مايو 1749، في بيركلي، إنجلترا، من بين الأطفال التسع الذين ولدوا لوالديه، تلقى الثامن، تعليمه الابتدائي في أماكن مثل سيرنسيستر ووتون أندر إيدج، ثم بدأ كممارس طبي، تحت إشراف جراح يدعى دانييل لودلو، عندما كان بالكاد في الرابعة عشرة من عمره، بعد العمل مع لودلو لمدة سبع سنوات، حيث اكتسب معظم الخبرة اللازمة ليصبح جراحًا ماهرًا.
تتلمذ على يد الجراح جون هانتر وآخرين بمستشفى سانت جورج في لندن وتعلم الجراحة والتشريح، حتى إنه تابع دراسته في علم التشريح في نفس الوقت، وبعد عودته إلى مسقط رأسه الريفي عام 1773، أصبح جينر طبيبًا عائليًا وجراحًا ناجحًا، ممارسًا الطب في بيركلي.
في عام 1803 تم تعيينه رئيسًا لجمعية “جينريان” في لندن التي كان هدفها زيادة الوعي بشأن التطعيم الذي لديه القدرة على القضاء على مرض الجدري، ومع ذلك، كان لا بد من إغلاق هذه الجمعية بعد فترة ست سنوات، وفي 1805 1805، أصبح هذا الطبيب جزءًا لا يتجزأ من اتحاد آخر يُعرف باسم “المجتمع الطبي والتشريحي”، الذي أعيدت تسميته لاحقًا باسم “الجمعية الملكية للطب”.
لم يسجل جينر براءة اختراع لاكتشافه كي لا يرفع سعره ويجعله صعب المنال على الكثيرين، فكان هدية منه إلى العالم، وفي عام 1806 انتخب ليكون عضوًا في “الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم”، وفي 2002 ووفقًا لاستطلاع للرأي أجرته “بي بي سي” تم اختيار جينر كواحد من “أفضل 100 بريطانيين” الذين عاشوا في المملكة المتحدة.
وهكذا يثبت التاريخ كم لاقى علماء البشرية – ممن قدموا خدمات جليلة لإنقاذ حياة الملايين – تقديرًا من الحكام والزعماء، وذلك قبل أن تصاب قائمة أولويات المجتمعات بإعادة هيكلة، تبدلت فيها الأماكن وانقلبت فيها المعايير، هذا في الوقت الذي ما زال العالم يئن فيه من فيروس كورونا الجديد الذي بات كابوسًا يؤرق مضاجع البشرية في القرن الحادي والعشرين.