عجت مواقع التواصل الاجتماعي بكثير من الأخبار – التي لم تخل من الشائعات والتكهنات والاجتهادات – عن حقيقة وصول فيروس “كورونا” (كوفيد 19) المستجد إلى الجيش المصري، بعد إعلان وفاة رتبتين كبيرتين من الهيئة الهندسية بالمرض بشكل مفاجئ، مما تطلب منا إعادة تتبع القصة وتدقيق المصادر، لمعرفة ظروف الوفيات الأخيرة واستبيان الوضع العام داخل القوات المسلحة، قبل وبعد هذه الأخبار.
أول الخيط
في حدود الرابعة عصرًا، من يوم الجمعة، الـ13 من مارس/آذار الحاليّ، نشرت منصة “نحن نُسجل/ We Record” المعنية بتوثيق الجرائم الحقوقية التي ترتكبها السلطات ضد المعارضين في العالم العربي عامةً، وفي مصر بالأخص، خبرًا عاجلًا بصيغة مقتضبة تقول فيه إنها “تأكدت – وفق مصادرها الخاصة – من ظهور أكثر من حالة إصابة بفيروس كورونا بين ضباط الجيش المصري، وقد جرى التحفظ عليهم في إحدى المستشفيات العسكرية”.
وبعد نحو أربع ساعات من نشر ذلك الخبر، أورد الموقع بيانًا مُطولًا تحت عنوان “الشفافية أول طريق الوقاية من كورونا”، يُفصل من خلاله مضمون الخبر السابق، قال فيه إن من بين الضباط الذين تأكدت إصابتهم بفيروس “كورونا”، اللواء أركان حرب شفيق عبد الحليم داوود، مدير إدارة المشروعات الكبرى بالهيئة الهندسية للقوات المسلحة، حيث ثبت لدى الموقع أيضًا إصابة الضابط وسائقه و3 آخرين من ضباط الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
وبحسب ما ورد في البيان، فقد تأكدت إصابة اللواء أركان حرب شفيق عبد الحليم وسائقه بالمرض قبل هذا الإعلان بثلاثة أيام كاملة، أي بتاريخ الـ10 من مارس، محذرًا من أن تكون العدوى قد طالت أقرانهم داخل الجيش وأفراد أسرتهم وزملاء أبنائهم في المدارس والجامعات، وكذلك الجيران والأقارب، وأي شخص يختلط بهم “بمعنى أننا أمام مجتمع بأكمله يخالط المصاب، وكلما تأخر التشخيص زاد الخطر وتمدد، وهنا تكمن الكارثة التي نسعي للتصدي إليها وقائيًا قبل أن تقع”.
أما عن ملابسات اكتشاف إصابة اللواء شفيع بالفيروس، فكانت – كما ورد في البيان – “مع ظهور آثار الإعياء والتعب وارتفاع درجة الحرارة عليه في أثناء اجتماع له مع اللواء محمود أحمد شاهين رئيس أركان الهيئة الهندسية، واللواء أركان حرب خالد شلتوت رئيس أركان إدارة المياة بالهيئة الهندسية”، بيد أن البيان أشار إلى التأكد من إصابة اللواء شفيع، دون اللواءين الآخريْن، حيث لم يُتح للموقع الاطلاع على نتائج الفحوصات التي أجريت لهما بعد مخالطة اللواء شفيع.
نُقل العمال والموظفون بحافلات عسكرية من أماكن العمل والخدمة إلى المعامل
وبالتزامن مع هذه التطورات، أشار البيانُ إلى أن الهيئة الهندسية لم تكد تشرع في احتواء هذه الأزمة، حتى تأكدت من إصابة 3 ضباط آخرين، لم يشر الموقع إلى أسمائهم أو مناصبهم أو إلى مواقع عملهم بالمرض، بيد أنه شدد على أن “الحاجة الطبية تستدعي فحص جميع من خالطوا المصابين، سواء داخل المؤسسة العسكرية أم من خارجها من أفراد أسرة وأصدقاء وأقارب وجيران من خالطوا مخالطي المصابين بالتبعية”.
وقد علم الموقع صباح يوم الأربعاء الـ11 من مارس، أي بعد ثبوت إصابة اللواء شفيع بالمرض بيوم وقبل نشر البيان مفصلًا بيومين، أن القوات المسلحة أصدرت – بعد هذه التطورات – أوامر لكل العاملين في إدارتي المشروعات والمهندسين العسكريين بتسليم أنفسهم للمعامل المركزية بالجيش فورًا، كي يخضعوا لفحوصات فيروس كورونا، حيث نُقل هؤلاء العمال والموظفون بحافلات عسكرية من أماكن العمل والخدمة إلى المعامل.
ردود الفعل
لم ترد أي مؤسسة رسمية، عسكرية أو مدنية، على البيان، بالإثبات أو النفي، بل على العكس، تعرضت الشبكة الحقوقية إلى حملةٍ شرسة من التشكيك، عبر مؤيدي النظام الذين اصطفوا للدفاع عن البيانات الصادرة عن الدولة، التي لم تشر في بياناتها إلى أي حالات إصابة داخل المؤسسة العسكرية خلال هذه الفترة التي تحدث عنها البيان، جنبًا إلى جنب مع بعض الصحفيين المعارضين الذين شككوا في بعض المعلومات الواردة في البيان، مُفوضين “الأيام المقبلة” لإثبات صحة الوارد عن هذه الشبكة أو نفيه.
وبعد تسعة أيام من نشر شبكة “نحن نسجل” خبر إصابة اللواء شفيع وترجيح إصابة اللواء خالد شلتوت من الهيئة الهندسية للقوات المسلحة بالفيروس، وعقب ساعات قليلة من اجتماع الرئيس السيسي مع أمهات شهداء الجيش احتفالًا بـ”عيد الأم”، الذي قال فيه إنه من الوارد تسجيل آلاف الإصابات بفيروس كورونا في مصر ما لم يلتزم الناس بتوجيهات الحكومة إلى ضرورة التباعد الاجتماعي، مرر الجيش إلى بعض وسائل الإعلام المحلية خبرًا يقول “القوات المسلحة تنعي بمزيد من الحزن والأسى ابنًا من أبنائها، اللواء أركان حرب خالد شلتوت، الذي وافته المنية، اليوم الأحد، نتيجة إصابته بفيروس كورونا، أثناء عمله في جهود التطهير والوقاية”.
وبحلول ظهر اليوم التالي، أمس الإثنين، عاود الجيش تمرير الخبر بنفس الطريقة، ولكن هذه المرة كانت عن اللواء أركان حرب شفيق عبد الحليم داوود، الذي وافته المنية، لنفس السبب، وفي نفس الملابسات، لتتحول دفة التشكيكات من المنصة الحقوقية التي نشرت الخبر “نحن نُسجل” إلى الجهات العسكرية الرسمية التي أخفت الخبر طيلة هذه الفترة.
وبحسب ما رصدنا، فقد تركزت الانتقادات الموجهة إلى الجهات العسكرية الرسمية على خطين رئيسين، يتعلق الأول بغياب التغطية الإعلامية الرسمية لأخبار وفاة أبنائها من قيادات الجيش، لا سيما بعد نشر هذه الأخبار بعيدًا عن “الصفحة الرسمية للمتحدث العسكري”، العقيد تامر الرفاعي، التي دأبت الدولة تُشدد على ضرورة عدم تلقي أي أخبار تخص المؤسسة العسكرية، ما لم ترد على لسان المتحدث، عبر هذه القناة المعتمدة، مما أدى في النهاية إلى تداول جميع المحطات، الرسمية والافتراضية، خبر وفاة اللواءين مرفقًا بصورة تحتوي على العلامة المائية المُضمنة بواسطة المنصة الحقوقية “نحن نُسجل”.
ويتعلق الخط الثاني بما أسماه البعض “استخدام الموت لأغراض دعائية”، وذلك بعد أن أرسلت “الشؤون المعنوية” الخبر إلى وسائل الإعلام المقربة من النظام أولًا، مُحررًا سبب وفاة اللواءين باشتراكهما في أعمال التطهير العسكرية الخاصة بفيروس كورونا، بينما تقول “الصفحة الرسمية للمتحدث العسكري” إن الجيش بدأ يستعد لمشاركة الكوادر المدنية في الإجراءات الوقائية يوم الـ15 من مارس من خلال الاصطفاف الذي شهده قائد الأركان الفريق محمد فريد، ولم يقم بأي مجهودات رسمية في هذا الصدد قبل الـ17 من نفس الشهر، بواسطة سلاح “الحرب الكيميائية” الذي قام بتطهير جامعة عين شمس، وهو ما يجعل هذه المهام بعيدة عن “الهيئة الهندسية” التي تشرف على المشروعات التنموية الكبرى في مجال البنية التحتية منذ تولي الرئيس السيسي إدارة البلاد.
كيف أصيب اللواءان؟
استطعنا التواصل مع أحد مديري شبكة “نحن نُسجل” الحقوقية (رفض الإفصاح عن هُويته حفاظًا على سلامته)، كي نسألهم بعض الأسئلة التي تخص انفرادهم بخبر إصابة عدد من لواءات الجيش المصري بفيروس كورونا، خاصة أنها ليست المرة الأولى التي تخترق فيها بعض المؤسسات والشخصيات جدران الحماية المحيطة بكبار رجال النظام المصري، بعد أن بثت فضائية “مكملين” عددًا كبيرًا من “التسريبات”، كشفت خلالها تفاصيل مهمة عن طريقة إخفاء الرئيس الأسبق محمد مرسي في القاعدة البحرية بالإسكندرية، وإدارة العلاقات المصرية الخليجية، وتمرير التعليمات من الأجهزة الأمنية إلى الفنانين، كما عرض الناشط عبد الله الشريف من قبل مشاهد حصرية مصورة من أحد قصور السيسي إبان أزمة المقاول.
وبسؤاله عن ملابسات انتقال العدوى إلى اللواء شفيع، قال المصدر لـ”نون بوست”: “خلافًا لما يجري تداوله عن إصابة اللواء شفيع بكورونا عبر أحد العمال الصينيين خلال إشرافه على أحد المشروعات في العاصمة الإدارية الجديدة، فقد ثبتت إصابةُ اللواء شفيع عبر أحد الضباط القادمين من إيطاليا، الذي تولى نقل العدوى إلى الهيئة الهندسية، وبينما لم يكن يعلم أحدٌ بأمر وصول الفيروس إلى الجيش المصري، فقد حضر اللواء الاجتماع الكبير للرئيس السيسي في الـ3 من مارس مع قيادات الجيش بالأمانة العامة لوزارة الدفاع، ثم التقى مباشرة وعن قرب باللواءين خالد شلتوت ومحمود أحمد شاهين، حيث لوحظ في هذا الاجتماع عليه أعراض المرض بوضوح لأول مرة، ثم نقل المرض إليهما”.
خرج اللواء شفيع من المستشفى العسكري الذي خضع من خلاله إلى العزل الصحي قبل وفاته بناءً على تشخيص طبي خاطئ بالتعافي من الفيروس، وقد عقد لقاءً احتفاليًا مع الضباط في الهيئة الهندسية يوم الأحد
وفيما يخص حالة الضابط القادم من إيطاليا، الذي تسبب في نقل المرض ونشر الذعر بين قادة الهيئة الهندسية، قال مدير الشبكة لـ”نون بوست”: “سلسلة المرض وإن بدأت من إيطاليا، فإنها لم تنته عند هذا الحد، إذ تأكدت مصادر الشبكة أن الفيروس تفشى بين عناصر الجيش، فالعميد أسامة الزيات أحد قادة الهيئة الهندسية يخضع حاليًا للحجر الصحي بعد إصابته بالفيروس عقب عودته من شرم الشيخ، وعلى الأرجح فإن مستشفى حميات ألماظة العسكري ما زالت تُخضع عددًا من الضباط للحجر الصحي بعد إصابتهم بالفيروس، كما توقف العمل بمشروع الكيان العسكري في العاصمة الإدارية الجديدة لمدة 15 يومًا بعد الاشتباه في إصابة خمسة عمال بالفيروس”.
سألنا المصدر أيضًا عن سر نفيه لوفاة اللواء محمود أحمد شاهين، رغم تأكيد كثير من وسائل الإعلام المحلية هذا الخبر، خاصة أنه كان الطرف الثالث في الاجتماع الذي نقل خلاله اللواء شفيع العدوى إلى اللواء خالد وقد توفي الاثنان بالفعل، فأخبرنا “سواء كان بث هذا الخبر بهذه الطريقة غير المباشرة جزءًا من طريقة النظام لإدارة الأزمة أم اجتهادات صحفية فردية، فإنه لا يصح نشره ما لم نتثبت فعلًا من وفاته، ومصادرنا تقول إنه لم يمت، فنحن نعتمد على نوعين من المصادر لجلب أي خبر، مصدر عسكري وآخر طبي، ونُخدم على هذه المصادر بمجهودات بحثية فردية عبر المصادر المفتوحة، وفي كل الأحوال لا يجدر بنا إحسان الظن في النظام، خاصة إذا علمتم أن المخابرات الحربية فتحت تحقيقًا لملاحقة مصادرنا ومعرفة كيف توصلنا إلى هذه المعلومات”.
بعد انتهاء المقابلة، بحثنا عن مشروع “الكيان العسكري”، فعلمنا أنه اسمٌ مستعار يطلق على المقر الجديد لوزارة الدفاع المصرية في العاصمة الإدارية الجديدة، الذي تشرف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة على بنائه، وينفذه تحالف ثلاثي من شركات سباك والشروق والمقاولون العرب، على مساحة نصف مليون متر مربع تقريبًا، ويضم تصميمًا هندسيًا ثماني الأضلاع (أوكتاغون) ليكون نظيرًا مصريًا لمقر وزارة الدفاع الأمريكية سداسي الأضلاع (بنتاغون).
وفي وقت لاحق، نشرت بالفعل بعض صفحات الإعلام الافتراضي المقربة من الدولة تسجيلًا صوتيًا للواء شاهين من المستشفى يُطمئن خلاله أقاربه وينفي شائعة وفاته.
كيف الوضع الآن؟
أثار خبر وفاة لوائي الجيش عددًا كبيرًا من المخاوف الخاصة بالشأن المصري، منها ما يتعلق بصحة الرئيس السيسي الذي ظل مختفيًا عن الأنظار طوال الفترة الأخيرة، ومنها ما يرتبط بصحة الشعب المصري في ظل وفاة كبار قيادات الجيش، رغم ما يتمتعون به من رعاية صحية فائقة داخل القلاع الطبية العسكرية.
بيد أن ظهور الرئيس الأخير مع جمع من النسوة قلص هذه المخاوف وسط احتمالية انتهائه من فترة الحجر الصحي وتأكد خلوه من المرض، كما يبدو أن الدولة تنتظر عونًا نوعيًا وانفراجة من الصين في أزمة كورونا، لتتبقى مشكلة المجالات الحيوية المغلقة التي يشرف عليها الجيش في ظل الطبيعة الوبائية لهذا الفيروس التنفسي سريع الانتشار.
في هذا الصدد، لدينا وثيقتان مسربتان من القوات المسلحة المصرية، تضم الأولى، التي يجري تداولها بكثافة بين وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي (لم نستطع التثبت من صحتها) كشفًا طويلًا لأسماء عناصر عسكرية، يبلغ عددهم 15 ضابطًا، بالأسماء والرتب والوحدات، دخلوا إلى المستشفيات في الفترة من الـ9 إلى الـ10 من مارس/آذار الحاليّ، بعد إصابتهم (أو الاشتباه في إصابتهم) بفيروس كورونا.
أما الوثيقة الثانية، فقد حصل عليها “عربي بوست” وهي وثيقة “سرية للغاية” صادرة عن هيئة الأركان العسكرية، ممثلةً في الفريق محمد فريد، ومُصدق عليها من الفريق أسامة عسكر رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة، بخصوص التدابير التي أقرتها القيادة على كل الوحدات والتشكيلات التعبوية للوقاية من تداعيات انتشار فيروس كورونا، حيث تنص الوثيقة على ضرورة “إلغاء المبيت اليومي” واستبداله بنظام الراحات الأسبوعية والإجازات الميدانية، وإعادة ترتيب ظروف مبيت الضباط.
وعلى الرغم من وسم الوثيقة بالمُقيد “عاجل”، فإن أحد المُجندين (م. م) من سلاح المهندسين، قطاع الجسور المائية، بالجيش الثالث الميداني، في مدينة السويس (شرق)، قد أخبرنا أن هذه الإجراءات لم تنفذ إلى الآن، بل لم تتخذ الوحدة التي يخدم فيها أيًا من الإرشادات الوقائية الأساسية، وكأن شيئًا لم يكن.
وبحسب ما أورده “نحن نُسجل” وأكده الضابط السابق في سلاح المهندسين خالد فريد سلام، فقد خرج اللواء شفيع من المستشفى العسكري الذي خضع من خلاله إلى العزل الصحي قبل وفاته بناءً على تشخيص طبي خاطئ بالتعافي من الفيروس، وقد عقد لقاءً احتفاليًا مع الضباط في الهيئة الهندسية يوم الأحد، مما يعني أن هذا القطاع بات بؤرةً حقيقيةً حاملةً للمرض، ينبغي احتواؤها، كما ينبغي إجراء العزل الصحي لأسرته وكل من خالطهُ عقب الخروج مجددًا.