الكثير من الدول الإفريقية لا تزال مجهولةً عالميًا، خاصة لسكان منطقة الشرق الأوسط، فباستثناء الدول العربية الإفريقية الـ10 لا يعرف الناس إلا دولًا محددة في القارة السمراء أغلبها يقع في منطقة شرق إفريقيا مثل كينيا وإثيوبيا وأوغندا ورواندا.
سنتحدث في هذا التقرير عن دولة إفريقية مجهولة كبيرة المساحة لكن يسكنها القليل من الناس، كانت عبارة عن محمية بريطانية سابقة تعرف باسم “بيتشوانا لاند”، واعتمدت اسمها الجديد “بوتسوانا” بعد أن نالت استقلالها ضمن دول الكومنولث في ستينيات القرن الماضي، لتصبح مؤخرًا إحدى أعظم قصص نجاح التنمية في العالم.
الجغرافيا والمناخ
بوتسوانا تقع جنوب الصحراء الكبرى ضمن الجزء الجنوبي من القارة السمراء، تحدها من الشمال زامبيا ومن الجنوب جنوب إفريقيا وزيمبابوي من الشرق إلى جانب ناميبيا من الغرب، ويبلغ عدد سكانها نحو 2.5 مليون نسمة يعيشون في مساحة واسعة تزيد على 500 ألف كيلومتر مربع أي ما يعادل مساحة فرنسا.
مدينة “غابورون” هي عاصمة بوتسوانا، تقع على بعد 15 كيلومترًا فقط من حدود البلاد مع جنوب إفريقيا، بالقرب من النقطة التي يلتقي فيها النهران الرئيسيان مع تلَي “أودي وكجال”، وتحتل المدينة بحدودها مساحة جغرافية تقدر بـ170 كيلومترًا، أما عدد سكانها فهو يبلغ 120 ألف نسمة.
وتنبع أهمية العاصمة البوتسوانية من أنه يمر فيها خط السكة الحديدية المتجه من مدينة كيب تاون الجنوب إفريقية إلى زمبابوي، ومنها إلى بقية دول القارة السمراء المرتبطة بهذه السكة، عبر أراضي بوتسوانا.
المناخ المداري المعتدل يغلب على معظم أنحاء الجمهورية، فهي تتمتع بشتاءٍ دافئ وصيف حار، عدا منطقة صغيرة في أقصى الشمال الشرقي من البلاد، تتميز بمناخها شبه الاستوائي، فتتراوح كميات الأمطار السنوية في بوتسوانا بين 200 ملم في صحراء كالاهاري و700 ملم في الأنحاء الشمالية الشرقية ذات المناخ الشبه الاستوائي، ويتراوح معدل درجات الحرارة في الصيف بين 21 و27 درجة مئوية، فيما تنخفض في الشتاء إلى 16 درجة مئوية وعليه يتضح لنا أن بوتسوانا دولة معتدلة الطقس.
يشكل الأفارقة غالبية السكان في البلاد، وتحديدًا قبائل البانتو التي تمثل أغلبية قدرها 95% من المواطنين، تليها قبائل الشونا بنسبة 2.4%، إلى جانب أقليات صغيرة، كما يوجد عدة آلاف من الأوروبيين، ولا تزيد نسبة هؤلاء على 1% من مجموع السكان.
تُعد بوتسوانا من الدول ذات معدل المواليد الكبير، إذ بلغ معدلهم في النصف الأول من التسعينيات نحو 36 ألف، ومعدل الوفيات للمدة نفسها لم يزد على 6 آلاف، ومن ثم فإن عدد السكان يتضاعف كل 25 سنة تقريبًا، وهذا أحد العوامل الإيجابية التي تدل على مستقبل زاهر للبلاد، نضيف إلى هذه النقطة أن نسبة الصبية دون سن الخامسة عشرة يصل إلى نحو 48% من مجموع السكان في بوتسوانا، في حين تبلغ نسبة من تجاوز سن الـ65 نحو 3.1% فقط.
الاقتصاد البوتسواني.. طفرة هائلة
كانت بوتسوانا واحدة من أشد البلدان الإفريقية فقرًا، فلم يكن الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد يتجاوز 70 دولارًا أمريكيًا عند استقلال البلاد عن بريطانيا عام 1966، فضلًا عن أنها لا تملك أي منفذ بحري، لذا حكم بعض الخبراء حينها على البلاد بالفشل سلفًا، وأشاروا على حكومتها بالبقاء ضمن جنوب إفريقيا، وفي ذلك قال أحدهم: “إنها أسوأ بداية يمكن تخيلها لدولة ناشئة”.
ولكن في العقود الثلاث التي أعقبت الاستقلال، نقلت بوتسوانا نفسها إلى صفوف الدول متوسطة الدخل لتصبح واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، إذ بلغ متوسط معدل النمو السنوي نحو 9% في الفترة من 1966 إلى 1999، وبلغ متوسط النمو في القطاع الخاص نحو 10% سنويًا على مدى السنوات الـ30 الأولى من الاستقلال، ومع ذلك بدأ اقتصاد بوتسوانا يعاني ركودًا منذ بداية القرن الـ21 عندما سجلت للمرة الأولى منذ الطفرة الاقتصادية نموًا بنسبة 7%.
أما عن كيفية تحقيق بوتسوانا هذه الطفرة الكبيرة غير المتوقعة، فقد أشار تقرير لموقع “الجزيرة نت” إلى أن السرعة القياسية في النمو الاقتصادي لم تكن لتحدث، لو لم تحقق بوتسوانا رقمًا قياسيًا في الشفافية وانعدام الفساد.
عاصمة بوتسوانا غابورون
ففي عام 2002، صنفت منظمة الشفافية العالمية بوتسوانا في المرتبة 24 عالميًا في مؤشر الشفافية (انعدام الفساد)، متجاوزة نظيراتها الدول الإفريقية بأشواطٍ عديدةٍ، بل متجاوزة فرنسا وإيطاليا وكوريا الجنوبية، وما زالت إلى اليوم، وبعد عقد ونصف العقد، متربعة على القائمة إلى جانب دول العالم الأولى، وتتقدم على كل الدول العربية على حد سواء.
اكتشاف الألماس
لعب اكتشاف الألماس دورًا كبيرًا في نهضة الاقتصاد البوتسواني، ففي عام 1969 بدأت شركة ديبسوانا الأوروبية العملاقة التنقيب عن الألماس في أراضي الدولة، وتوالت الاكتشافات، حتى صارت بوتسوانا أول منتج عالمي للألماس، لكن العائدات كانت ضعيفة بادئ الأمر، ونجحت الحكومة بصعوبة في رفع حصتها من الأرباح إلى النصف.
كان الحصول على عقد استغلال مُنصف للماس، تحديًا كبيرًا لدولة إفريقية فقيرة في مواجهة شركة عملاقة، لكن التحدي الأكبر كان كيفية استغلال ثروة الألماس لتحقيق تنمية مستدامة، ولتحقيق هذا الهدف، أسست الحكومة شركة التطوير البوتسوانية عام 1970 لاستثمار دائم لنحو 30% من الناتج الإجمالي في البنى التحتية والصحة والتعليم، وفي 1982 وضعت نظامًا لدعم المشاريع الصناعية والزراعية والسياحية والخدماتية، واليوم أصبحت عائدات الماس تشكل نحو 40% من الناتج الإجمالي لبوتسوانا.
الشيء الآخر الذي يُحسب لبوتسوانا، أنها تعاملت بحذر مع الموارد المالية، فنجحت في تحقيق احتياطي نقدي من 7 مليارات دولار، كما أنها لم تتورط في أي صراعات مسلحة تبدد مواردها، فقد حلت مشكلتها الحدودية مع ناميبيا بالطرق السلمية.
بصمات واضحة للألماس على عاصمة بوتسوانا
بعد عقود من تعدين الألماس الخام، أصبحت عاصمة بوتسوانا “غابورون” تقطع وتصقل وتبيع الجوهر النفيس، حيث تشهد المدينة كل يومٍ مزيدًا من الاستثمارات في المجال.
وقد يعجز معظم الناس عن معرفة “غابورون” إذا ذُكرت لهم، أو التعرف عليها في خريطة العالم، ولكنها أصبحت الآن، مركزًا لتجار الألماس الدوليين، وهذا ما غير اقتصاد المدينة ومعالمها، حيث ظهرت المباني السكنية الشاهقة والفنادق والمطاعم الفاخرة، كما أخذت شركات الماس في إنشاء مصانع جديدة تأهبًا لنقل شركة دي بييرس العملاقة في مجال تعدين الماس مقرها للبيع من لندن إلى غابورون.
السياحة.. قطاع واعد يحتاج إلى التسويق
تتمتع بوتسوانا بمقومات سياحية جيدة، فعلى سبيل المثال، يمكن لزائر الجمهورية استكشاف الطبيعة والحياة البرية في “دلتا أوكافانجو”، التي تتكون من مجموعة من الممرات والجزر المائية، فيها يفضل السياح القيام برحلة سفاري على القوارب الصغيرة المصنعة من جذوع الشجر، كما توجد بها حيوانات برية كالحمار الوحشي الذي تشتهر به بوتسوانا، والزراف والأفيال وفرس النهر، إلى جانب حوض نهر ليمبوبو وبالطبع المساحات الخضراء الواسعة على مد البصر.
هناك أيضًا، صحراء كالاهاري التي تمتد على مساحة واسعة في بوتسوانا، لتشكل محمية طبيعة من أكبر محميات العالم، توجد في منطقة غانتسي وبها العديد من الحدائق الوطنية، لكن الأمر الأكثر إثارة أنها تضم أكبر محمية طبيعية لوحيد القرن، وتتميز كالاهاري بوجود أشجار “الباوباب” التي يمتد عمرها إلى ألف عام أحيانًا، لذا تعد المنطقة وجهة مفضلة لأعداد كبيرة من السياح والباحثين لمشاهدتها على الطبيعة.
غير أن قطاع السياحة في بوتسوانا ما زال بحاجة إلى تطوير واستثمارات في البنية التحتية كإنشاء مزيد من المنتجعات السياحية والطرق بمواصفات عالمية، إلى جانب ضرورة الترويج للسياحة في البلاد، فحجم السياح “2.2 مليون زائر” لا يتناسب والمقومات التي تزخر بها بوتسوانا، فهي تعد أفضل مكان في العالم لرحلات السفاري، بسبب تعدد أنواع وأعداد الحيوانات البرية فيها، وهي مثال حي على حماية الطبيعة، حيث تغطي المنتزهات القومية ومحميات الحياة البرية والمحميات الطبيعية نحو 40% من مساحة أراضيها.
إذًا، يمكننا أن نعتبر بوتسوانا قصة نجاح لدولة إفريقية تفوقت على كل دول القارة السمراء والدول العربية في محاربتها للفساد، بل تجاوزت فرنسا وإيطاليا وكوريا الجنوبية في هذا الجانب، مما ساعدها على تغيير الواقع الاقتصادي، ومع ذلك ينتظرها الكثير من العمل مثل خفض نسبة البطالة التي تجاوزت 10%، وإقناع المزيد من المستثمرين والسياح بالقدوم إلى البلاد التي لا تزال مجهولة لكثيرين، حتى إن أغلب الناس لا يعرفون أنّ لها موقعًا على الخريطة.