قبل بضعة أيام من كتابة هذا التقرير، كان قرابة مليوني فلسطيني في قطاع غزة يشاهدون آثار الشلل الذي أصاب العالم الخارجي بسبب انتشار وباء كورونا في أكثر من 140 دولة، وحينها وصف البروفيسور الفرنسي جان بيير في صحيفة لوموند الفرنسية غزة بـ”أكثر الأماكن أمانًا في العالم” بسبب “الحجر الصحي المفروض عليها منذ 14 عامًا”، وبنفس الطريقة كتب المحلل العسكري في صحيفة هآرتس عاموس هرئيل “عزل غزة عن العالم حمى القطاع حتى الآن” في إشارة إلى الحصار الإسرائيلي الذي فرض على غزة عام 2007 وأغلق منافذ العبور في وجه سكانها وزوارها.
سرعان ما تحولت هذه العبارات إلى مادة للسخرية والتهكم على وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن الفكاهة انتهت مع إعلان وزارة الصحة أول إصابتين في القطاع بالفيروس المستجد لعائدين من باكستان، ورغم اللهجة المطمئنة التي تعمدت السلطات الحديث بها إلى الشعب عن خضوع المصابين للحجر الصحي والتأكيد أنهما في “حالة متوسطة ومستقرة”، فإن الواقعة فتحت أبوابًا من المخاوف والتساؤلات، وكان أبرزها: هل يستطيع القطاع مواجهة كورونا؟
الاستعانة بالفنادق والمدارس كمراكز للحجز الصحي
كشف “كوفيد-19″ الغطاء عن ضعف الاستعدادات الحكومية لمواجهة الفيروس في معظم دول العالم تقريبًا، إضافة إلى قلة اللوازم الطبية اللازمة لمواجهة تفشي الوباء مثل الكمامات والقفازات ومعدات الوقاية الأخرى، وأجهزة التنفس وقطع الغيار والطواقم الطبية، الأمر الذي دفع الدول إلى مساندة بعضها من خلال إرسال حزم مساعدات وأفواج من الأطباء المتطوعين، كما أدى في الاتجاه المعاكس إلى حدوث عمليات نهب واستيلاء بين دول أخرى، سُميت بـ”حرب الكمامات”.
مع وقوع هذه الأحداث، لم يكن متوقعًا أن يتسلح القطاع بأدوات أكثر حداثة أو تطورًا مقارنة مع العالم الخارجي، ولذلك اعتبر منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في فلسطين، جيمي ماكغولدريك، أن وصول الفيروس إلى غزة “قد يكون مخيفًا نتيجة الاكتظاظ السكاني ومحدودية النظام الصحي”، مع ذلك اتخذت السلطات تدابير أولية لمواجهة التفشي، فقد أصدرت تعليمات تقضي بإغلاق المدارس ورياض الأطفال والجامعات وصالات الحفلات والمطاعم والمقاهي وتعليق صلوات الجماعة والأسواق الشعبية وحظر الحفلات وبيوت العزاء بالشوارع العامة.
افتتحت السلطات أيضًا 20 مركزًا للحجر الصحي الإجباري للعائدين إلى القطاع عبر معبري رفح وبيت حانون، واستضافت بداخلها نحو 1271، إذ حولت بعض من الفنادق والمدارس إلى مراكز للعزل، وقسمتها إلى 4 أنواع للحجر الصحي: الأول حجر متقدم قرب معبر رفح، وهو مخصص للعائدين من دول موبوءة مثل إيطاليا وإيران وغيرها، ويحوي 54 سريرًا، والثاني مستشفى ميداني داخل معبر رفح يضم 40 سريرًا، وهو مخصص لعزل الحالات المشتبه إصابتها بالفيروس، ويوجد في مكان معزول داخل المعبر، ويخضع لشروط صحية صارمة، وتوجد فيه غرفة عناية مكثفة، ومختبر أشعة وتحاليل طبية.
إضافة إلى مركزين آخرين لتقديم الرعاية الصحية للمرضى العائدين من رحلات علاج في الخارج، وهما في منطقة قيزان النجار جنوبي القطاع وجباليا في شماله، وبهما 100 شخص معظمهم من مرضى السرطان، والقسم الأخير وهو مراكز الحجر الصحي العادية في سبع مدارس، ويقيم فيها العائدون ممن لا تظهر عليهم أي علامات مرضية.
وكغيرها من المناطق المصابة بالوباء، صرحت وزارة الداخلية في غزة أنها ستحارب الشائعات والمعلومات الكاذبة عن فيروس كورونا، ولن تتسامح مع مروجي الأخبار الزائفة وستحرص على إحالتهم للنيابة العامة لاتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم، كما نشرت عددًا من حملات التوعية الوقائية والإرشادات التي من شأنها أن تحد من انتشار الفيروس داخل القطاع المحاصر.
إمكانات شبه معدومة
ذكر مركز “بتسليم” لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة بأن تفشي فيروس كورونا في قطاع غزة سيؤدي إلى كارثة مروعة نتيجة للحصار وما ترتب عليه من فقر مدقع وانهيار البني التحتية وظروف الحياة الصعبة التي ألقت بظلالها على الوضع الصحي لسكان القطاع، مشيرًا إلى أن “جهاز الصحة في قطاع غزة منهار أصلًا قبل وجود مريض كورونا الأول، وهو اليوم أبعد ما يكون عن تلبية احتياجات السكان في ظل نقص الأدوية والتجهيزات والمعدات الطبية”.
فبحسب وزارة الصحة تقدر نسبة العجز في الأدوية والمستهلكات الطبية بنحو 45%، ولا يوجد في غزة إلا 40 سريرًا من وحدات العناية المركزة وهو أقل بكثير مما يلزم لمواجهة الوباء، كما تشير تقديرات مكتب منظمة الصحة العالمية في غزة، إلى أن الحصار الإسرائيلي المشدد وعقوبات السلطة الفلسطينية لا تمنح القطاع القدرة على التعامل مع هذه الأزمة الصحية، وفي أحسن التقديرات تسنح له بفرصة التعامل مع أول 100 حالة إصابة بطريقة جيدة، وبعد ذلك سيحتاج دعمًا إضافيًا من الخارج لاستيعاب أي حالات إصابة أخرى.
ما يعني أن القطاع لا يحتمل أي ضغوط إضافية، ولا تسمح ظروفه الحاليّة بأي تهاون أو تقصير سواء على المستوى الحكومي أم الفردي، لا سيما أن استجابة الجهاز الطبي مع احتياجات المرضى تراجعت في السنوات الماضية وتسببت في حرمان 50% من مرضى القطاع من العلاج.
هل تتحمل “إسرائيل” عواقب كورونا على القطاع؟
دفعت هذه التقديرات المقلقة جمعية حقوق الإنسان “غيشاه – مسلك” بمطالبة الاحتلال الإسرائيلي بإتاحة دخول المواد الحيويّة لحماية صحة السكان في قطاع غزة المحاصر واستمرار الأنشطة الاقتصادية، مضيفةً “على مدار سنوات تفرض “إسرائيل” تقييدات على تنقل مليوني إنسان من سكان القطاع، بواسطة استخدام منظومة التصاريح التي كان لها دور مركزي في تدهور ظروف الحياة في غزة. لا يوجد في قطاع غزة مياه صالحة للشرب في البيوت، وتزويد الكهرباء للبيوت يكون في جزء من ساعات اليوم فقط، كما أن الجهاز الصحي يعاني الكثير من النواقص، الاقتصاد متعثر ونسب البطالة عالية جدًا”.
وضعت الجمعية مسؤولية صحة سكان القطاع على عاتق الاحتلال الإسرائيلي، بسبب سيطرتها على حياتهم وتقاعسها عن إيصال المستلزمات الطبية المطلوبة لمواجهة الفيروس، وهو الموقف الذي تبناه أيضًا القيادي في حركة حماس، خليل الحية.
وبذلك فإن العواقب الوخيمة والمخيفة للفيروس على أهالي القطاع تلزم “إسرائيل” على تغيير طريقة تعاملها مع الفلسطينيين في غزة، بدايةً من خلال رفع الحصار البحري والبري والجوي والسماح لهم بالانفتاح على العالم الخارجي من أجل البقاء على قيد الحياة ومساعدة أنفسهم.
وإذا لم تستجب لهذا المطلب الأساسي فمن الأجدر أن تمنح الحق في الصحة والوصول للخدمات الصحية لهم بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان الذي يضمن هذا الحق للأشخاص الذين يعيشون تحت الاحتلال، وبصفتها قوة احتلال، يلزمها القانون الدولي بضمان الصحة والنظافة العامة وترتيب فحوصات لسكان القطاع بشكل آمن ودون عوائق والسماح بالنقل الفوري لمن هم بحاجة إلى العلاج خارج غزة، إضافة إلى دورها في توريد الغذاء إلى غزة في حال حدوث أي نقص، وذلك جزء من التزاماتها القانونية وليس مقترحًا أو مطلبًا شعبيًا محليًا.
رغم جدية وخطورة الوضع في قطاع، ليس منتظرًا أن تؤدي سلطات الاحتلال الإسرائيلي واجباتها القانونية تجاه غزة، وليس متوقعًا كذلك أن تقودها هذه الانتهاكات إلى المحاكمة أو المحاسبة الدولية، ولذلك تبقى السيناريوهات الكارثية أكثر الاحتمالات ترجيحًا، وقد يخفف آثارها مساعدات دولية من هنا وهناك، ولكنها لن تغير الواقع المرير الذي انتظر أهالي القطاع تغييره منذ 13 سنة تقريبًا.