تزامنًا مع الانتخابات البرلمانية التي شهدتها إيران في فبراير 2020، بما سبقها من احتجاجاتٍ شعبيةٍ واسعةٍ على سوء الأوضاع الاقتصادية وتدهور الأحوال المعيشية ومواجهةٍ كادت تتحول إلى حرب شاملة مع أمريكا إثر اغتيال قاسم سليماني وإسقاط الطائرة الأوكرانية، وما صاحبها من صخب واتهامات متبادلة ونتائج متوقعة في ظل إقصاء الإصلاحيين والمستقلين.
وفي أجواء خيم عليها شبح الرعب من فيروس كورونا القاتل، أجريت انتخابات أخرى لم تنل ما تستحقه من اهتمام، وهي الانتخابات التكميلية لمجلس خبراء القيادة الإيراني في دورته الخامسة، وهو أحد المجالس التي استحدثها نظام الحكم في جمهورية إيران الإسلامية.
وقد جرت الانتخابات التكميلية على هامش الانتخابات البرلمانية في ست محافظات لاختيار سبعةٍ من المرشحين لشغل المقاعد الشاغرة بوفاة أصحابها، وعلى رأسهم هاشمي رفسنجاني وهاشمي شاهرودي، وهي محافظات طهران وخراسان الرضوية وخراسان الشمالية وفارس وقم.
وتنبع أهمية هذا المجلس من خطورة المهام الموكل بها، فقد نص الدستور الإيراني على أنه يتولى ثلاث مهام تتعلق بأرفع منصب سياسي وديني في البلاد، وهي تعيين المرشد الأعلى للثورة الإسلامية (الولي الفقيه)، وعزله إذا تطلب الأمر، أو تعيين قائد آخر إذا طرأت له حادثة تعطله عن أداء عمله، بالعجز أو فقدان شرط من شروط القيادة، والإشراف على أعمال القائد ومراقبة عدالته وفقاهته وشجاعته وتدبيره، ولهذا يجب أن يتمتع أعضاء المجلس بالعلم الواسع دينيًا وفقهيًا وبرؤيةٍ حاذقةٍ سياسيًا واجتماعيًا.
وتتضاعف أهمية الدورة الحاليّة من دورات المجلس، وهي الدورة الخامسة، لكونها الدورة التي يُمكن أن تشهد الحدث الجلل المنتظر وقوعه في أي لحظة، وهو موت خامنئي الذي أكمل الثمانين من عمره، واختيار بديل له لقيادة إيران.
ويُمكن تبرير عدم الاهتمام الشعبي بهذه الانتخابات التكميلية بأن الدور الذي يلعبه مجلس الخبراء غير محسوسٍ في النشاطات التي تشهدها البلاد بشكل اعتيادي، ولهذا تقل حماسة المواطنين لهذه الانتخابات عن حماستهم للانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية، كما أن هذا المجلس لم يؤد مهمته الأساسية إلا مرة واحدة عندما توفي روح الله الخميني واختار أعضاؤه خامنئي لخلافته، ويرى البعض أن المجلس مُحيت سلطته الرسمية بالإشراف على المرشد الأعلى من الناحية العملية، ومع ذلك فإنه لا يُمكن إنكار دوره في صيانة النظام حال وجود فراغ في القيادة العليا للبلاد.
بنظرة عابرة على الأسماء التي نجحت في شغل المقاعد السبع، نجد أنها من الأسماء البارزة في التيار المحافظ
ولخطورة المُهمة المقبل عليها المجلس الحاليّ، أعد النظام الإيراني الساحة الانتخابية للوصول إلى النتيجة التي يضمن بها السيطرة عليه، وذلك من خلال تمهيد السبيل للمحافظين كي يفوزوا بالمقاعد السبع عبر معركة غير تنافسية، وذلك عن طريق إقصاء الإصلاحيين والمستقلين بواسطة “مجلس صيانة الدستور”، وهو هيئة تتألف من 12 عضوًا يُعينهم المرشد الأعلى بشكل مباشر أو غير مباشر، وتتمتع بصلاحيات واسعة النطاق، منها تأييد أهلية المتقدمين للترشح أو رفضها.
لقد رفض المجلس أهلية عدد كبير من المتقدمين للترشح لمجلس الخبراء، ولم يُبْق إلا على 30 اسمًا فقط ليتم الاختيار من بينها، وهو ما رأى الإصلاحيون وأنصارهم أنه يحول الانتخابات إلى حدث غير تنافسي، وعدوه تدخلًا لمصلحة طرف على حساب طرف آخر.
في حين يُصر المجلس على أنه يمارس سلطاته القانونية بحيادية تامة، وأن معياره في تأييد الأهلية أو رفضها هو تمتع المتقدم للترشح بسمعة طيبة في التمسك بالدين والأخلاق، وبوجهات نظر سياسية واجتماعية سليمة، وبإيمان قوي في جمهورية إيران الإسلامية، وبسجل جنائي نظيف من الناحيتين الأخلاقية والمالية.
سارت الانتخابات في المسار المرسوم لها، وجاءت النتائج موافقة للمقدمات، حيث حصد المحافظون المقاعد السبع، بنسبة نجاح 100%، وهم: آية الله “علي مؤمن پور” وآية الله “عباس علي أختري” وحجة الإسلام “غلام رضا مصباحي مقدم” عن طهران وآية الله “محمد يزدي” عن مدينة قم وآية الله “محمد تقي مصباح يزدي” عن خراسان الرضوية وآية الله “غلام رضا فياضي” عن خراسان الشمالية، وآية الله “لطف الله دژکام” عن فارس.
وبنظرة عابرة على الأسماء التي نجحت في شغل المقاعد السبع نجد أنها من الأسماء البارزة في التيار المحافظ، ولأصحابها تاريخ سياسي حافل في خدمة النظام الإيراني في عهدي الخميني وخامنئي، وكلهم من الأصوليين المدعومين من “جمعية علماء الدين المجاهدين” (جامعه روحانيت مبارز) و”جمعية مدرسي حوزة قم العلمية” (جامعه مدرسین حوزه علمیه قم)، وهما الجمعيتان اللتان يتمتعان بنفوذ واسع بين الأصوليين، ويقفان بقوة خلف المرشحين المنتمين إليهم في أي استحقاقات انتخابية.
وأبرز الفائزين السبع هو محمد تقي مصباح يزدي، وهو واحد من كبار علماء الدين في إيران، حيث يعد أشهر فيلسوف شيعي في الوقت الراهن، كما أنه سياسي مخضرم يمتد نشاطه إلى ما قبل الثورة الإسلامية، وهو عضو سابق في مجلس الخبراء ومؤسس “مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي”، وينظر أنصار “جبهة الصمود” (جبهه بايداري) إلى مصباح يزدي بوصفه الزعيم الروحي لهم، وهي جماعة سياسية أصولية توصف بأنها أشد جماعات المعسكر الأصولي تشددًا وراديكالية، ويُعرف يزدي بمعارضته الشديدة للتيار الإصلاحي.
تدل نتائج الانتخابات التكميلية على أن النظام الإيراني يسير قدمًا في تمكين المحافظين أو الأصوليين للمحافظة على احتكار جميع المؤسسات المعنية باتخاذ القرار في الدولة الإيرانية
ويأتي محمد يزدي في المرتبة الثانية، وهو عالم دين شيعي وسياسي عُرف بنشاطه قبل الثورة الإسلامية، وأدار يزدي مكتب الخميني في قم وتولى رئاسة السلطة القضائية، وكان رئيسًا لـ”مجلس خبراء القيادة” من قبل، كما أنه كان عضوًا في “مجلس صيانة الدستور” والبرلمان في عدة دورات.
ومن المناصب التي يتولاها يزدي أمانة جمعية المدرسين في حوزة قم العلمية وأمانة المجلس الأعلى للحوزات العلمية، وعضوية جمعية المدرسين المناضلين في قم، وقد فرضت الحكومة الأمريكية على يزدي وأربعة آخرين عقوبات عشية الانتخابات البرلمانية وتكميلية الخبراء الأخيرة بزعم أنهم “حرموا الإيرانيين من انتخابات حرة ونزيهة”، وذلك لدورهم في استبعاد آلاف المرشحين.
وثمة نقاط مهمة تستحق أن نذكرها في ضوء النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات التكميلية لمجلس خبراء القيادة، وهي كما يلي:
1- عمقت هذه النتيجة جراح الإصلاحيين الذين تلقوا هزيمة ساحقة في الانتخابات البرلمانية التي فاز المحافظون بأغلبية المقاعد فيها، وهو ما يرى البعض أنه نتيجة متوقعة في ظل توسُع النظام في إقصاء الإصلاحيين والمعتدلين ومنعهم من الترشح من ناحية، وفشل الإصلاحيين في تحقيق ما وعدوا به أنصارهم في الانتخابات السابقة بالتغيير الداخلي عن طريق المؤسسات القائمة مٍن ناحيةٍ أخرى.
2- شهدت هذه الانتخابات عودة بعض الشخصيات المحافظة التي فشلت في منافسة مرشحي القائمة التي تقدم بها الإصلاحيون للدورة الخامسة وفازت بـ15 مقعدًا من مقاعد طهران الـ16، وهي القائمة التي عرفت بقائمة “الخبراء الهاشميين”، نسبة إلى هاشمي رفسنجاني الذي يُقال إنه الذي أعدها وكان على رأسها في ذلك الوقت، ومنهم مصباح يزدي ومحمد يزدي ولطف الله دژکام.
3- تشتمل قائمة الفائزين بمقاعد المجلس على أسماء بارزة يهتم النظام الإيراني بعودة أصحابها إلى المجلس، ومنهم مصباح يزدي ومحمد يزدي، وهما من أبرز رجال النظام الإيراني، حتى إن خامنئي كان قد علق بنفسه على هزيمتهما في انتخابات المجلس أمام مرشحي التيار الإصلاحي، وعبر عن أسفه لغياب أمثالهما عن المجلس، واصفًا ذلك بالخسارة، وأن مثل هذه الشخصيات لن تتضرر بهذه الهزيمة.
4- يُشير عدد الأصوات التي حصل عليها المرشحون الفائزون إلى تدني نسبة الإقبال على هذه الانتخابات بالقياس إلى الانتخابات السابقة، حتى إن محمد يزدي – على سبيل المثال – فاز هذه المرة بنحو 250 ألف صوت، وكان قد هُزم في المرة السابقة رغم حصوله على مليون و250 ألف صوت، وكذك الأمر مع معظهم الناجحين هذه المرة.
5- يُعرف الفائزون بمعارضتهم الشديدة للإصلاحيين، حتى إن مصباح يزدي وصف أنصار التيار الإصلاحي ذات مرة بأنهم “يُحيون سُنة الكفار الذين كانوا في إيران قبل 2500 عام، ويرى أن الإصلاح المطلوب في البلاد هو الإصلاح الذي يدعو إليه القائد الأعلى للثورة.
وأخيرًا، إن دلت نتائج الانتخابات التكميلية على شيءٍ فإنما تدل على أن النظام الإيراني يسير قدمًا لتمكين المحافظين أو الأصوليين للمحافظة على احتكار جميع المؤسسات المعنية باتخاذ القرار في الدولة الإيرانية، مستخدمًا في ذلك كل ما يملكه من وسائل، وعلى رأسها الإقصاء بواسطة “رفض الأهلية”، وغير آبهٍ بانتقادات الإصلاحيين والمعتدلين والمستقلين وأنصارهم في الداخل والخارج، أو مُتحسبًا لما يُمكن أن يترتب على ذلك الإقصاء من انفجار في ظل ما تمرُ به البلاد من مشاكل داخلية وخارجية تدفع المواطنين إلى الخروج بين الحين والآخر في موجات احتجاجية توصف بأنها الأخطر في تاريخ الجمهورية الإسلامية.