لطالما كان قرار الإنجاب مسألة شخصية يتفق عليه الشريكان، وقد لا يتفقان بالضرورة، ففي بعض الأحيان يحدث الحمل بالخطأ أو دون تخطيط مسبق، فينظر لهذه المصادفة على أنها “فضل من الله” وأن المولود الجديد “بركة ونعمة”، سيتبعه خير ورزق، لكن الآن، لم تعد المنظومة الاقتصادية والاجتماعية تسمح بهذا النوع من التواكل، لا سيما مع احتدام المنافسة في سوق العمل وتزايد متطلبات الحياة الحديثة وما تبعها من معايير تشجع على “البحث عن الذات” و”تطوير المهارات” و”استكشاف العالم”، وغيرها من الاعتبارات التي لم تعد تترك خيار الإنجاب لـ”مشيئة الله” بالمعنى الذي يعبر عنه المنجبون، بل دفعتهم إلى التفكير مليًا بكل صغيرة وكبيرة قبل اتخاذ هذه الخطوة.
ولعل هذا التوجه يفسر جزئيًا سبب ازدهار قطاع الخصوبة الذي جاء متزامنًا مع انشغال الناس بتلك المحددات، ما دفعهم إلى تأجيل فكرة الإنجاب سعيًا لتحقيق طموحاتهم وإثراء سيرتهم المهنية بالإنجازات، وبما أن لكل قرار ثمنًا، خاطر هؤلاء بصفة الأمومة والأبوة، إلا أن التطورات العلمية في مجال الخصوبة بعثت الأمل لمن يرغب في التمهل ولمن يعاني أساسًا من العقم، ووفرت لكليهما علاجات اصطناعية دون ضغوط أو عجلة، مثل اختبارات الحمل المنزلية والتخصيب المختبري والتلقيح الصناعي وتجميد البويضات والحيوانات المنوية وتطبيقات تحديد النسل والتتبع الذاتي وغيرها من الخيارات الأخرى.
نمو سوق الخصوبة
في عام 2019 وحده، استثمر رجال الأعمال أكثر من 150 مليون دولار في شركات مثل Modern Fertility وEverlyWell التي تصنع اختبارات الخصوبة في المنزل للنساء، كما تفيد التوقعات المتوافرة بأن حجم هذا السوق العالمي سيصل خلال 3 أعوام إلى 36 مليار دولار بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 8.5%، وفقًا لتقرير حديث صادر عن Market Research Future (MRFR).
كان الوضع مختلفًا كليًا قبل 12 سنة تقريبًا، إذ كان الاستثمار في الشركات الناشئة للخصوبة أقل من 10 ملايين دولار، وبحلول عام 2017 تضاعف هذا الرقم نتيجة لاهتمام الممولين والمستثمرين في هذا القطاع، فقد ركزوا في البداية على نحو 10% من النساء (6.1 مليون امرأة) اللاتي يحاولن الحمل لكن العقم أفسد محاولاتهن، ثم غيروا قواعد اللعبة وباتوا يضخون أموالهم في شركات الخصوبة ومراكز تجميد البويضات التي تلبي احتياجات النساء اللاتي ليس لديهن عقمًا ولكنهن يريدن تأجيل هذه الخطوة دون أن يقلقن بشأن ضعف الخصوبة.
استغلت صناعة الخصوبة مخاوف الآخرين وزرعت في بعضهم مشاعر القلق وقدمت لهم وعودًا مبهمة وملتوية عن إطالة سن الإنجاب
وفي بعض الأحيان، تتبع هذه الشركات سياسات تسويقية تهدف إلى إقناع النساء اللواتي لا يزلن في العشرينيات من العمر ولا يحاولن الحمل أصلًا باللجوء لهذه الخدمات، من خلال إثارة الهواجس والمخاوف المتعلقة بخصوبتهن واحتمالات انخفاضها بوقت مبكر، وبالتالي تدفعهن إلى إنفاق أموالهن مقابل العلاجات باهظة الثمن، كنوع من التحوط الاحترازي ضد مشاكل الإنجاب في المستقبل.
على سبيل المثال، جمع تطبيق PitchBook في عام 2017 وحده أكثر من 178 مليون دولار من تدفق الأموال التي جاءت من اختبارات تصنيف/تقييم خصوبة المرأة.
ما يعني بعبارة أخرى، أن توسع صناعة الخصوبة جلب راحة البال للعديد من الأزواج والنساء الذين لم يتمكنوا من الإنجاب بالطرق التقليدية، لكنه في الوقت عينه، استغل مخاوف الآخرين وزرع في بعضهم مشاعر القلق وقدم لهم وعودًا مبهمة وملتوية عن إطالة سن الإنجاب وبقاء هذا النوع من الخيارات مفتوحة في المستقبل.
الدوافع الاجتماعية
يضاف إلى ما سبق محرك رئيسي آخر وهو زيادة الوعي العام بصحة المرأة وطبيعتها البيولوجية والإنجابية واحتياجاتها، الجانب الذي ظل مهمشًا لعقود طويلة، ولكن الآن، أصبح هناك رغبة متزايدة في التحدث عن هذه المسألة بعيدًا عن أي قيود أو محاذير ثقافية.
وهو ما نتج تلقائيًا من “التغييرات المجتمعية الكبيرة التي جعلت الحياة أكثر تعقيدًا من ذي قبل”، بحسب رأي كريستن جريين، مسؤولة في شركة Forerunner Ventures المتخصصة بالاستثمار في رواد الأعمال، التي أشارت إلى الأفكار التي تخطر في بال الأشخاص بشأن كيفية الموازنة بين الحياة المهنية أو الشخصية والأمومة، وظهور تساؤلات أخرى عن الوقت المناسب للإنجاب، ما يعني أن عامل التأجيل لعب دورًا أساسيًا في نمو هذه الصناعة وارتفاع عدد الشركات الناشئة المتخصصة في مجال الخصوبة.
هذه التغيرات جميعها ما كانت لتظهر لولا صعود المرأة في القوى العاملة والمناصب القيادية، ودعم تكلفة علاجات الخصوبة أو تغطيتها من عدد كبير من أرباب العمل مثلما يحدث في شركات وادي سيلكون
وتبعًا لهذه الرغبة وعواقبها، سنح الارتفاع الكبير في المشاريع المتعلقة بمجال الخصوبة بتعدد الخيارات أمام الأشخاص الذين يرغبون في اللجوء لخدماتها، والأهم أنه يساهم تدريجيًا في خفض التكاليف ويوفر هذه الخيارات للفئات التي لا تستطيع تجميد البويضات بالأسعار المعروضة حاليًّا، إذ تتراوح التكلفة بين 6 آلاف إلى 10 آلاف دولار أمريكي لتجميد البويضة الواحدة، وغالبًا ما تتطلب العملية تجميد أكثر من بويضة واحدة نظرًا لأن كل بيضة لديها فرصة بنسبة 12% على الأكثر للنجاة، ولذلك تمر النساء بمراحل متعددة من العلاج لتحسين احتمالات الحمل.
هذه التغيرات جميعها ما كانت لتظهر لولا صعود المرأة في القوى العاملة والمناصب القيادية، ودعم تكلفة علاجات الخصوبة أو تغطيتها من عدد كبير من أرباب العمل مثلما يحدث في شركات وادي سيلكون مثل جوجل وآبل وفيسبوك، التي تقدم هذا الخيار للموظفات كنوع من المزايا الوظيفية مقابل تفرغهن للعمل والاستغناء عن إجازات الأمومة.
وعلى هذا الأساس، اعتبرت هذه التقنية تحركًا سلبيًا تجاه النساء وتعديًا على حقوقهن وخياراتهن الشخصية، وطريقة جديدة للتعبير عن استياء ذكور سوق العمل من طبيعة المرأة ووظائفها البيولوجية، لكن من جانب آخر، قد يكون له آثار جوهرية على التقدم الوظيفي لدى النساء بسبب حضورهن في غالبية المناقشات ومشاركتهن في قرارات العمل.
هل يمكن الوثوق بهذه الخيارات؟
لسنوات طويلة، اعتبرت الجمعية الأمريكية للطب التناسلي تجميد البويضات “حلًا تجريبيًا”، ثم رفعت هذه العلامة وصنفته كعلاج فعال للعقم، لكن الأهم من ذلك أن تقرير اللجنة لم يوص باستخدام هذه الآلية لتأخير الإنجاب، وكتبت المنظمة أنه ليس هناك ما يكفي من الأدلة على أن فعالية هذا النوع من العلاج تفوق المخاطر المالية والعاطفية المحتملة، بل وحذرت من تسويق هذه التكنولوجيا لغرض تأجيل الإنجاب لأنه قد يعطي للمرأة أو الأزواج أملًا زائفًا.
لا ننفي بشكل كامل قدرة هذه العلاجات على تمديد سن الإنجاب، ولكننا نشكك في شفافية ومصداقية الشركات التجارية التي تخفي جزءًا من الصورة للاحتمالات المتوقعة
يقودنا هذا التقرير إلى كشف الجانب الآخر لهذه العلاجات، إذ تتستر الشركات على التعقيدات الطبية والمالية والآثار الجانبية لتلك الخيارات، ناهيك عن استغلال بعض أطباء الخصوبة والصحة الإنجابية لجهل المريض ومطالبته بإجراءات إضافية وغير ضرورية لا تعزز معدلات النجاح ولكنها تحمي الأرباح المادية.
رغم وجود هذه المعطيات على الطاولة والتقدم التكنولوجي والعلمي السريع في مجال الخصوبة، فإننا لا ننفي بشكل كامل قدرة هذه العلاجات على تمديد سن الإنجاب، ولكننا نشكك في شفافية ومصداقية الشركات التجارية التي تخفي جزءًا من الصورة للاحتمالات المتوقعة، وتضعنا تحت رحمة علاجات غير مثبتة وباهظة الثمن، بحثًا عن الأرباح والمنافع المالية.