كانت الدول الإفريقية من أقل الأماكن عرضة للإصابة بفيروس كورونا الجديد منذ بداية انتشاره في الصين ديسمبر الماضي، وخرجت وقتها العديد من التفسيرات التي ترجع ذلك لطبيعة المناخ الإفريقي الحار في أغلبه، لكن سرعان ما تغيرت الأحوال بعد أقل من شهرين على تفشي الوباء.
خلال الشهر الأخير على وجه التحديد تزايدت أعداد المصابين بالفيروس في القارة بصورة كبيرة، لا سيما في شمالها القريب من السواحل الأوروبية، حيث وصل العدد حتى أمس الأربعاء، 2000 حالة، في 44 دولة من أصل 54 دولة بالقارة، ساعد في ذلك عدم توافر الأنظمة الصحية المؤهلة لمواجهة هذا الوباء الذي وجد مع مرور الوقت تربة خصبة في بعض مناطق القارة التي تصاعدت معها المخاوف بشأن تحولها إلى بؤر لتفشي الفيروس.
وخلال الأيام القليلة الماضية كشفت التقارير عن أرقام صادمة من بعض الدول في غرب وجنوب القارة، ففي جنوب إفريقيا بلغ إجمالي الإصابات حتى أمس 709 حالات تتصدر بها القارة، فيما اضطرت العديد من الدول لغلق حدودها بالكامل، ليس في الشمال وحدها لكن في عمق القارة، ولعل الكونغو أحدث الدول التي لجأت لتلك الخيارات القاسية.
وتعد بوركينا فاسو واحدة من الدول التي تصدرت المشهد خلال اليومين الماضيين على وجه التحديد، فبعد أسابيع من التعتيم والإنكار ومحاولة غض الطرف عن الإصابات التي تتعرض لها، فضح المصابون أنفسهم حقيقة الوضع وما وصل إليه من تفشي للفيروس في قطاعات كبيرة من البلاد.
في تقرير نشرته صحيفة “لوموند” الفرنسية، 24 من مارس الحاليّ، كشفت من خلاله أن بوركينا فاسو البلد الأكثر تضررًا بوباء كورونا حتى الآن في غربي إفريقيا، حيث توفيت النائبة الثانية لرئيس البرلمان وأصيب خمسة وزراء، إلى جانب الحديث عن إصابة كل من السفير الإيطالي والأمريكي، مما أثار غضبًا على شبكات التواصل الاجتماعي بسبب ما اعتبروه “تراخي” الحكومة في مكافحة الوباء.
صوفي دوس مراسلة الصحيفة في العاصمة واغادوغو، قالت إن الأمر اعتبر في البداية أنباءً كاذبةً، وهو ما سعت الآلة الإعلامية الموالية للنظام أن تعزف عليه طيلة الفترة الماضية، وذلك قبل أن يؤكده أصحاب الشأن أنفسهم، وهو ما وضع الجميع في موقف حرج، خاصة في ظل تصاعد مخاوف أن تتحول البلاد إلى بؤرة للوباء في ظل تواضع الإمكانات المتاحة للتصدي له.
خمسة وزراء تم الإعلان رسميًا عن إصابتهم بكورونا من إجمالي 29 عضوًا بالحكومة
الأعلى في غرب إفريقيا
في الـ19 من مارس الحاليّ، أعلن وزير التعليم ستانيسلاس أوارو على فيسبوك إصابته بالفيروس، قائلًا:
“عقب التشخيص ظهر أنني إيجابي بالنسبة لفيروس كورونا”، وفي اليوم التالي أعلن نظيراه في الإدارة الإقليمية والمعادن إصابتيهما، وهو الإعلان الذي أثار جدلًا كبيرًا في الشارع البوركيني فيما سعت بعض وسائل الإعلام المحلية لتكذيبه.
لكن الأوضاع تفاقمت بصورة كبيرة بعدها بيومين فقط، حين أعلن وزير الشؤون الخارجية ألفا باري، هو الآخر إصابته، حيث قال: “لقد تحققت الشائعات، تلقيت للتو اختبارًا إيجابيًا لكوفيد-19″، وفي 23 من الشهر جاء دور وزير التجارة هارونا كابوري ليعلن إصابته هو الآخر.
خمسة وزراء تم الإعلان رسميًا عن إصابتهم بكورونا من إجمالي 29 عضوًا بالحكومة، وهي الأحداث التي فندت الشائعات التي روجت بشأن عدم إصابة أي من أعضاء الحكومة، غير أن إعلان كل من سفيري إيطاليا وأمريكا بالبلد عن إصابتهما كانت الشرارة التي أصابت الجميع بالهلع.
وتشير الإحصاءات إلى أن بوركينا فاسو هي الدولة الأكثر إصابة بالفيروس في غرب إفريقيا، حيث سجلت حتى 24 من مارس الحاليّ 114 إصابة و4 وفيات، من ضمنها وفاة عضو المعارضة والنائبة الثانية لرئيس الجمعية الوطنية روز ماري كومباوري كونديتامدي، حسب مركز عمليات الاستجابة للطوارئ الصحية.
وأمام تلك الوضعية الحرجة، أعلن رئيس الدولة سلسلة من الإجراءات التقييدية مثل إغلاق المطارات والحدود البرية وفرض حظر التجول لمدة 19 ساعة وإغلاق الحانات والمطاعم والأسواق الكبيرة، وذلك بعد تعليق الدراسة بالمدارس والجامعات وحظر التظاهرات والتجمعات العامة والخاصة، بجانب الكشف عن خطة من المتوقع أن تكلف الدولة 11 مليار فرنك إفريقي (16.7 مليون يورو).
سخط عام
اتهامات عدة تعرض لها النظام البوركيني على منصات التواصل الاجتماعي بعد إعلان ارتفاع معدلات الإصابة بهذا الحجم بعد إنكار وتكتم شديدين، فبحسب مراسلة الصحيفة الفرنسية، اتهم العديد من المواطنين السلطات بعدم أخذ خطورة الوباء مأخذ الجد، وتساءل الكثيرون عن كيفية إصابة هؤلاء الوزراء، وهل بسبب عدم احترام إجراءات الوقاية التي يوصون بها هم أنفسهم؟
حالة السخط تجاوزت العالم الافتراضي إلى قيادات المعارضة في البلاد، حيث انتقد رئيس حزب “لو فاسو أوترمان” المعارض أبلاسي ويدراوغو ما أسماه تراخي الحكومة في إدارة الوباء، موضحًا أن “ممثلي رأس الدولة يجب أن يجسدوا المثالية ويخضعوا للمساءلة أمام الشعب، إذا أصيب وزراء ونواب آخرون، وهو أمر مرجح جدًا، فلا بد من إظهار الحقيقة للحد من انتشار هذا الوباء”.
وعليه تصاعدت حالة القلق لدى الشارع بسبب الزيادة الكبيرة في تفشي الوباء، حيث أوضح المنسق الوطني للاستجابة لوباء كوفيد-19 مارتيال ويدراوغو أن “العدوى متفشية في المجتمع، والصعوبة تكمن في اكتشاف المرضى الذين لا يبلغون عن أنفسهم والعثور على الأشخاص المتصلين بهم”.
الوضع الاقتصادي المتردي الذي تحياه البلاد والتمويل المتواضع لمواجهة الوباء بجانب الأوضاع السياسية والأمنية المتراجعة دفع البعض إلى توقع اتساع رقعة الإصابات
وفقًا للمعلومات المتوافرة، فإن الكشف عن أول حالتين من كورونا يوم 9 من مارس/آذار الحاليّ لدى قس من بوركينا فاسو وزوجته العائدين من تجمع ديني في فرنسا، لم يمنع من تنظيم عدة احتفالات رسمية ورحلات، كما أفادت المراسلة، وهو ما أوصل الأمور إلى هذه المرحلة الحرجة.
عدم الالتزام بالإجراءات الوقائية كان أحد العوامل التي ساعدت على الانتشار السريع، ففي 11 من مارس الحاليّ، خلال آخر اجتماع مجلس للوزراء، كان المحلول الكحولي متوافرًا، ولكن لم يتم احترام بعض الإجراءات الوقائية مثل ارتداء قناع ومسافة الأمان، كما يؤكد أحد الصحفيين.
علاوة على ذلك فإن الوزراء المصابين كانوا على اتصال بالعديد من الناس، مما يعني أنه من الصعب إيقاف دورة العدوى، خاصة أن هناك فترة بين العدوى وظهور الأعراض الأولى من الصعب فيها تبين إصابة المرء، بجانب أن إصابة أفراد بارزين في الطبقة السياسية أثار قلق السكان بشكل خاص، حتى إن الشائعات المتعلقة بالحالة الصحية للرئيس روتش مارك كريستيان كابوري ليست مبشّرة، وإن كان أحد أعضاء الوفد المرافق له “أكد أنه بحالة جيدة وليست لديه أعراض”، مشيرًا إلى اتخاذ تدابير صارمة في القصر الرئاسي، على حد قول المراسلة.
بؤرة إفريقيا
الوضع الاقتصادي المتردي الذي تحياه البلاد والتمويل المتواضع لمواجهة الوباء بجانب الأوضاع السياسية والأمنية المتراجعة دفع البعض إلى توقع اتساع رقعة الإصابات بشكل ربما يجعلها بؤرة للفيروس في القارة، وذلك رغم أن عدد الإصابات لم يصل بعد إلى جنوب إفريقيا مثلًا.
علاوة على ذلك فإن الهجمات الإرهابية التي تتعرض لها البلاد منذ عام 2015 وحتى اليوم كان لها تأثير قوي في تعميق الأزمة الإنسانية، فقبل أسبوعين فقط قتل 43 شخصًا على الأقل في هجوم شنه مسلحون مجهولون شمالي البلاد في واحدة من أكثر الهجمات دموية منذ العام الماضي.
وتأتي تلك الهجمات في إطار العنف المتصاعد في الدولة الذي تسبب في مقتل المئات وأجبر نحو مليون على النزوح من منازلهم وحوّل أغلب شمال البلاد إلى منطقة خارج نطاق الحكم والقانون على مدى العامين الماضيين، وهي الأحداث التي استنزفت معها خطوات التنمية كافة وأرهقت الموازنة العامة للدولة.
يقول ألفريد ويدراوغو الأمين العام لنقابة أطباء الدولة، معلقًا على الوضعية الراهنة: “لم نكن مستعدين لذلك، نحاول التعامل مع الوباء مثل الإيبولا، ومن دون حل سريع، نحن نسير نحو سيناريو كارثي”، في إشارة منه إلى نقص أجهزة الإنعاش والتنفس وحتى أجهزة الفحص، وهو ما دفع العاملون في المؤسسات الصحية لدق ناقوس الخطر.
موقف حرج باتت فيه السلطات البوركينية التي يجب أن تضع مكافحة كورونا على قائمة أولوياتها مهما كانت الآثار الاقتصادية المترتبة، تجنبًا لأن تدخل البلاد في سيناريو كارثي، في الوقت الذي تدعو فيه منظمة الصحة العالمية القارة الإفريقية إلى “الاستعداد للأسوأ”.