لم تقتصر آثار كورونا في شهورها الأولى على الجوانب الصحية والاقتصادية حصرًا، فقد ظهرت بصماتها على الخطاب الديني لمختلف الأديان، إذ كُثرت الفتاوى والمواعيظ والاجتهادات التي تناقش كيفية التعامل مع هذه الأزمات العالمية والأوبئة، واختلفت الآراء حول هذه المسألة، فمنها ما بُني على أساس علمي وبحث دقيق في أصول وتعاليم الدين، ومنها ما لم يكن مفهومًا لدى المسلمين، مما أثار لغطًا كبيرًا وتشويشًا في الأوساط العامة.
ولعلّ أبرز الاجتهادات التي أثارت ضجة في الشارع العربي هو موضوع إغلاق المساجد الذي يعد واحد من أكثر القرارات حساسيةً لدى المسلمين، إلا أن الفتاوى صدرت في إطار المصلحة العامة للشعوب، حيث أن أكبر أماكن التجمعات في الدول المسلمة تكون في الجوامع والمساجد ووجد حشود مزدحمة من الناس في أماكن مغلقة كهذه سيزيد من خطر انتشار الفيروس بشكل سريع.
أثارت فتوى أخرى الجدل، وتحديدًا في تونس التي أصدر فيها ديوان الإفتاء قرارًا يقضي بتعليق إجراءات اعتناق الإسلام ضمن الاحتياطات المتبعة للحد من انتشار فيروس كورونا، وما زاد الاستياء شدةً هو إصدار المفتي الشيخ عثمان بطيخ، فتوى اعتبر فيها موتى كورونا شهداء لا يغسلون ولا تجوز عليهم صلاة الغائب ولا حتى صلاة الجنازة.
وتكررت هذه المواقف، في العراق حيث قال علي السيستاني المرجع الشيعي في العراق: “من نقل العدوى دية عليه أن يدفعها بغض النظر عن دينه أو مذهبه”، مؤكدًا أنه من غير الجائز للمريض أن يختلط بالآخرين مطلقًا وأن عليه أن يلزم التعليمات الصادرة بهذا الشأن. وعلى نفس المنوال، أجاز الشيخ عبد الله المنيع، عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية، للحكومة معاقبة من يتعمد نقل عدوى فيروس كورونا للغير عن طريق مخالطتهم بالقتل تعزيرًا، وأكد منيع في فتواه التي نشرتها صحيفة عكاظ السعودية، أن الخروج للتجمعات رغم التحذيرات التي أكدتها الجهات الخاصة بالدولة جريمة وأذى.
ورغم إعلان العديد من هيئات الأوقاف والمجمعات العلمية ضرورة إغلاق المساجد، إلا أن بعض الشيوخ رفضوا فكرة هذا الإغلاق ومنهم الداعية الكويتي حاكم المطيري الذي ما زال مصرًا على رأيه الداعي لفتح الجوامع والمساجد، قائلًا: “بحمد الله، لم تحدث حتى الآن في الكويت أي حالة وفاة بين المصابين بكورونا بعد شهر كامل من بدء الحجر الصحي للقادمين من الخارج، وقد تشافى كثير منهم وهو ما يؤكد أن إغلاق المساجد وحظر التجول وإثارة الرعب بين الناس لا علاقة له بالمرض الذي صار يُستغل لخطف المجتمع وبرمجته وضبطه والتحكم به!”.
كورونا وتجديد الخطاب الديني
لاقى كلام المطيري وفتواه التي رفض فيها فكرة إغلاق المساجد ردًا حازمًا وصريحًا من الدكتور معتز الخطيب، أستاذ فلسفة الأخلاق في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة، الذي قال: “رغم وضوح العدوى لكل ذي عينين، فلا يزال هناك من يستدل بحديث “لا عدوى”، ويعتبر أن إغلاق المساجد وتوقيف صلاة الجماعة يوم الجمعة قرار غير شرعي، كما فعل حاكم المطيري وآخرون خاصةً ممن يُحسبون على السلفية السرورية”.
مؤكدًا في مقال له أنه “بعيدًا عن طابع المناكفة السياسية في مثل كلام المطيري ومن أيده؛ فإن البيان الذي أصدره احتوى على أخطاء ومغالطات علمية، ويغيب عنه البعد الأخلاقي. وأصل المسألة يدور على مسألتين: العدوى، والحفاظ على شعائر الإسلام ومنها صلاة الجمعة”.
انطلاقًا مما يحدث على الساحة الدينية في هذا الخصوص، توجهنا في “نون بوست” للحديث مع الدكتور الخطيب وسؤاله عن إمكانية تغير الخطاب الديني بما يتناسب مع الحالات الطارئة التي تتطلب مرونة لمواجهة التغيرات التي فرضتها جائحة كورونا، فأجاب قائلًا: “هذا الوباء حدثٌ جديد يضاف إلى غيره، ويكشف عن وجود مشكلة منهج لدى العديد من المشايخ من مختلف الاتجاهات في فهم أدبياتهم الفقهية من جهة، وقصورهم عن استيعابها والتحقق بأدواتها، ويكشف عن قصور في فهم الواقع بعلومه المختلفة من جهة أخرى”.
ويتابع الخطيب حديثه مضيفًا أن “النظر في الحكم الفقهي أو الأخلاقي له نظران: الأول في دليل الحكم والأدلة هنا عديدة، إذ لا حكم من دون دليل خصوصًا عندما نتحدث عن الشارع، وما يجعل الأمور أكثر تعقيدًا هو النوازل الجديدة ولجوء كثير من المفتين الى النصوص العامة التي تصلح للاستدلال بكل اتجاه”، أما فيما تعلق النظر الثاني، يقول: “في محل الحكم وهو الواقع الذي يتم تنزيل الحكم العام عليه، وهذا الواقع صار له علوم اليوم تساعدنا على فهمه ولم يعد مقبولًا من المشايخ أن يكتفوا بكلام عام وخطابي!”، مشيرًا إلى ضرورة “تحقيق المناط”، وهذا لا يتم إلا بناءً على معطيات علمية دقيقة يفتقدها المفتي اليوم لأنه لا يملك أدوات المعرفة.
ويعتقد الخطيب أيضًا أن أزمة كورونا لن تسهم في أي تغيير يذكر بالنسبة للدعاء والشيوخ، فبحسب رأيه: “”لا يراجع هؤلاء منهجهم وطرائقهم بشكل علمي ونقدي. ومرد الأمر الى غياب التفكير النقدي والعلمي لديهم”، ويضيف “لو وقفوا على التجارب التاريخية للمسلمين السابقين مع الأوبئة والطواعين لاستفادوا منها وهذا يوضح عمق المشكلة في طريقة تفكيرهم وقصور تكوينهم الفقهي والعلمي الواقعي وسطحية أدواتهم”.
طرحنا فكرة النقاش ذاتها مع الشيخ والداعية السوري محمود الدالاتي الذي قال في حوار خاص مع “نون بوست”: “أعتقد أنه يجب على من يتبنى الخطاب الديني أن يصحح الكثير من المسارات الخاطئة التي تختلط فيها المفاهيم الدينية الحقيقية، والتي لا تتعارض أساسًا مع العلم بممارسات تلبس لبوس الدين وتنزع نحو الدروشة والتواكل المنهي عنه”.
ويتجه الدالاتي إلى المنطقية وربط الأسباب الدنيوية بالسماوية مع الأخذ بما يقرره العلم في هذه الجوانب والاعتدال بين الفريقين الذيَن يشير إليهما الدالاتي وهما: “في الوقت الذي نجد فيه بعض الملحدين يستغل أزمة الوباء ليصفّي حسابات أيديولوجية مع الدين فيقول لم يبق إلا العلم ولامكان للدين في هذه الأزمة أو يقول ما نفعله على الأرض هو ما يفيدنا لا ما يأتينا من السماء، وبين فئة من الناس ترفض تحكيم العقل والمنطق فترفض الأخذ بأي نوع من أنواع الحماية والوقاية من هذا الوباء، متذرعةً بأن الضار والنافع هو الله.. ناسين أن الضار والنافع هو الذي أمرنا بالأخذ بالأسباب حين قال النبي صلى الله عليه وسلم :إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأرْضٍ، فلاَ تَقْدمُوا عَلَيْهِ، وإذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلا تخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ “.
وبذلك يرى الشيخ الدالاتي أن “المسلم الحقيقي يحقق التوازن فهو الذي تتصل عنده أسباب الأرض بأسباب السماء، فيؤمن أن مسبب الأسباب هو الله وبيده ملكوت كل شيء وهوبنفس الوقت يعمل بالأسباب الدنيوية ويأخذ بها كالوقاية والبعد عن العدوى والبحث عن العلاج”.
تأثير كورونا على المساجد
أثارت صور وفيديوها إخلاء صحن الطواف في المسجد الحرام بمكة المكرمة من الطائفين والمصلين، مشاعر الحزن والأسى لدى المسلمين الذين لم يعتادوا على هذا المنظر، ولكن الضرورات والخشية من انتشار فيروس كورونا دفع السلطات السعودية لتعليق الصلاة في ساحات الحرمين الشريفين، إذ قال المتحدث الرسمي باسم الرئاسة العامة لشؤون الحرمين هاني حيدر إن: “الجهات الأمنية والصحية قررت تعليق التواجد والصلوات في الساحات الخارجية للمسجد الحرام والمسجد النبوي بدءًا من الجمعة كإجراء احترازي ضد كورونا.”
وتدريجيًا شمل قرار الإغلاق معظم مساجد العالم الإسلامي، ثم امتد إلى تعطيل الدروس العلمية والبرامج الدعوية والمحاضرات وحلقات تحفيظ القرآن في جميع المساجد حتى إشعار، ما قد يؤثر فعليًا على عملية التعليم الديني التي تنتهجها عدّة بلدان كما في الأزهر بمصر، وغيره من الأماكن، ليتجه القائمون على ذلك الأمر إلى تسخير التكنولوجيا للتحدث مع طلابهم وإلقاء الدروس عليهم عن بعد.
وتجاوبًا مع هذه الأوضاع الطارئة، أطلق الأزهر الشريف منصة إلكترونية للتعليم ما قبل الجامعي، وتشتمل هذه المنصة على فيديوهات تعليمية لجميع المراحل الدراسية، إضافة إلى إعداد نماذج تفاعلية تتيح للمعلمين التواصل مع طلابهم بشكل سهل وفوري، لتقديم حلول متعددة لتطبيق “التعلم عن بعد”.
لكن الدالاتي يعتقد أن التعليم عن بعد في الأمور الشرعية “سيترك أثرًا سلبيًا”، فبحسب وجهة نظره “يختلف التعليم الديني عن غيره من باقي العلوم، إذ أنه يجمع بين العلم التربية والسلوك، فطالب العلم الشرعي يحتاج قبل العلم إلى أن يقتبس من أخلاق العالم المربي وطريقة تعامله مع الطلبة ومع الأحداث بشكل عام، كي يتمكن من تطبيق شعائر الإسلام وأخلاقه وهذا الجانب غير متوفر في التعليم الإلكتروني عن بعد، فلا شك أن هذا سيترك أثرًا سلبيا على سلوك طالب العلم إذا طالت مدة هذا الوباء”.
يضيف الدالاتي أن “هناك بعض العلماء عندهم من الحيوية والمرونة وروح الشباب والعصر ما يجعلهم مواكبين لأحدث وسائل التكنولوجيا عبر الإنترنت وسائر المنصات الإعلامية، فلهم حضور دائم على منصات التواصل وبعضهم حساباتهم متابعة بمئات الآلاف وهم قريبون من قضايا الأمة والساعة وعلى تواصل دائم مع شتى فئات المجتمع، ولا سيما فئة الشباب منهم”، منوهًا إلى أن هؤلاء المشايخ أساسًا معظم توجيههم يكون من خلال صفحات السوشيال ميديا التي سمحت لأعمالهم بالانتشارفي كل مكان.
رمضان وكورونا
في غضون شهر من الآن، سوف يبدأ شهر رمضان الذي تكون فيه المساجد أكثر امتلاءًا من باقي الشهور، الأمر الذي من المتوقع أن يفتح الباب لجدالات جديدة ما إذا استمر وباء كورونا في الانتشار واستمر معه قرارات إغلاق المساجد، كما أن البعض بدأ منذ الآن بتصدير الفتاوي في هذا الشأن مثل الدكتور مبروك عطية، أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية بجامعة الأزهر، الذي قال: “لو حل شهر رمضان ولم ينته فيروس كورونا وذكر الأطباء أنه من الخطورة أن يكون الريق ناشف، فعلى المسلم أن يفطر في رمضان”، في الوقت الذي قالت فيه مصادر شرعية أردنية “أنه في حال استمرار انتشار الوباء فمن المؤكد سيستمر إغلاق المساجد في رمضان”.
ورغم قدسية هذا الشهر التي لا خلاف عليها، فإن الشيخ الدالاتي يعتقد أنه لا يجوز تعريض أرواح الناس للخطر من خلال التعاطي مع الموضوع ببرود وبقلة اهتمام، داعيًا إلى وقف النشاطات الدينية حتى في شهر رمضان، من باب أنه تم الاتفاق على نهي الناس عن صلاة الجمعة وهي من فرائض الإسلام، فترك التراويح وهي سنة أولى.
أخيرًا: لعلّ الأولى بعلماء المسلمين أن يكونوا في هذه الأيام على قدر من المسؤولية والعمل على المرونة وتجديد الأدوات للتعامل مع الأمور الطارئة بعلم وعقل وحرص على الناس.