أجبر انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) العديد من حكومات الدول على فرض الإغلاق العام الذي شمل تعطيل الدراسة ووقف العمل من المكاتب في معظم الشركات العالمية، ومع تقييد حرية التنقل ومنع ثلثا سكان العالم من الخروج من المنازل بان جليًا استياء العديد من المجتمعات من الحظر المؤقت، الذي يعود في الأساس إلى الهوس العالمي بالإنتاجية وتمجيد وتيرة الحياة السريعة.
وهي مواقف مفهومة نوعًا ما لأنها في الغالب ناتجة عن القلق من الركود الاقتصادي وما يتبعه من آثار قد تكون مدمرة للبعض، ولكن إذا نظرنا للنصف الممتلئ من الكأس، سندرك أن هذا الوقت المثالي للعودة إلى المنازل وتجديد علاقتنا بهذا الحيز الخاص بعيدًا عن التزامات الحياة وزحمة العمل.
الإدمان على الحياة السريعة
كثرت التساؤلات حول كيفية قضاء كل هذا الوقت في المنزل ولا سيما مع التوصيات الرسمية بضرورة الالتزام بالتباعد الاجتماعي. واستجابة لها، انتشرت العديد من المنشورات التحفيزية التي تتحدث عن كيفية استثمار عزلتنا الاجتماعية داخل المنزل على اعتبار أن هذه الفترة مناسبة لممارسة الرياضة وطهي الطعام والعمل بتمهل وتأن، وغيرها من الأنشطة التي اعتدنا ممارستها يوميًا في الحيز العام ولكن بوتيرة سريعة وكأننا في سباق لا نهاية له.
ونتيجة لهذا النمط، جرتنا ضغوط الحياة الحديثة للركض في ماراثون إجباري كل يوم، حتى باتت هذه الضغوط الصاخبة والمنهكة جزء من نسيج وطبيعة مجتمعاتنا التي ترى في العجلة والانشغال والإفراط في العمل مرادفًا للنجاح والإنجاز والقيمة الذاتية. ولذلك، يشعر البعض بعدم الارتياح في الجلوس بالمنزل، لأن الراحة والتباطؤ يُشعرهم بالذنب حتى خلال وجود أزمة صحية بحجم جائحة كورونا.
يضاف إلى ذلك سبب آخر، وهو أن هوسنا بالإنتاجية مبنيًا في الأساس على خوفنا من فقدان وظيفتنا التي تمثل بالمعايير الحالية مكانتنا الاجتماعية وقيمتنا الأصيلة، وهي محددات وإن لم تكن صحيحة بالفعل إلا أنها تهدد أو تزعزع ثقتنا بأنفسنا وتدفعنا دومًا للانحشار وسط الازدحام.
ولكن الآن، حان الوقت للعودة إلى المنزل وأخذ نفس عميق من كل هذه الأعباء التي ضللت طريقنا إلى البيت وشغلتنا عن هذا المكان الذي شكل النسيج الاجتماعي الرئيسي مع العائلة ومثّل مدرستنا الأولى وأسس رابطنا الأساسي مع بقية العالم.
الحاجة للانتماء
تلخص هذه العبارة المختصرة “لا يوجد مكان في العالم مثل البيت” مفهوم البيت العاطفي بالنسبة إلينا والذي يعكس جزء من هويتنا وجذورنا وشخصياتنا، ويُشعرنا برغبة عارمة في العودة إليه كلما غبنا عنه، وهي العلاقة التي تصفها المصطلحات العلمية مثل “Topophilia” و”Rootedness” و”Attachment to Place”، شارحةً الروابط العاطفية بين الإنسان والبيئة المادية المحيطة به ومركزيتها في الحياة البشرية من أجل ضمان الاستقرار العاطفي والسعادة.
ترى عالمة النفس البيئية سوزان كلايتون من كلية ووستر أننا نميل عادةً إلى تزيين منازلنا والاعتناء بها وإضافة تعديلات مختلفة عليها بما يتناسب مع أذواقنا وأطباعنا الشخصية لأننا نعتبر هذا المحيط جزء من تعريفنا لذاتنا وامتدادًا لأنفسنا، فإن كل ما نملكه ونستعرضه داخل هذا المربع من أثاث ولوحات ونباتات وغيرها من تفاصيل يعبر بالأساس عن شخصيتنا ومزاجنا النفسي وشعورنا الداخلي، ولو بجزء صغير.
يشرح لنا البروفيسور سام جوسلينج، أستاذ علم النفس في جامعة تكساس، في السياق ذاته كيف تعبر هذه المساحات المادية عن أنفسنا، ويقول: “نستخدم منازلنا لعكس مواقفنا وأهدافنا وقيمنا وأدوارنا أولوياتنا”، مشيرًا إلى استعراضنا بعض العناصر الثقافية أو الشخصية كجزء من محاولاتنا في إخبار الأشخاص الذين يزورونا بأن “هذا ما أنا عليه وهذا ما يهمني”، وغالبًا ما تكون هذه السلوكيات تلقائية إلا أنها تؤثر بشكل كبير على شعورنا تجاه هذا الفضاء الشخصي.
هذه الخيارات، سواء كانت واعية أو لا واعية، تساعدنا على إدراك أن المنزل ليس مكانًا للاسترخاء أو النوم بعد يوم عمل طويل ومرهق، وإنما معلم من معالم حياتنا الهامة والتي تعكس كل خيار وتغيير يجري في حياتنا، كما أنه إشارة إلى ما نقدره بالمقام الأول، ولعل نمو التفكير الفرداني وميول الأجيال الحالية إلى التنقل والتجديد المستمر لم تعد تسمح لنا بالاستمتاع بهذا الحيز رغم أن ذلك يتعارض مع الطبيعة البشرية التي تسعى لإشباع حاجتها بالانتماء والرغبة الشديدة في الحصول على المكان الذي يمنحنا هذا المراد ويحمينا من مشاعر الاستبعاد والضياع السلبية.