ما من أحد يمكنه الإدعاء بأن الحقبة العثمانية لم تكن واحدة من أكثر الفصول التاريخية نشاطًا وازدهارًا على المستوى الثقافي، وتحديدًا فيما يتعلق بالموسيقى التي لاقت رواجًا واسعًا سواء من السلاطين العثمانيين ورجال الدولة والوزراء أنفسهم أو الناس من عامة الشعب، فمنذ أن اقتبس الأتراك مقامات هذا الفن من شعوب آسيا والأناضول خلال القرن الثالث عشر، وهم يتفنون ويبدعون في تطويرها وتنويعها.
المثير للاهتمام في هذا الشق، ليس تميز الموسيقى التركية بحد ذاتها أو كونها جزء أساسي من الهوية التعريفية والتفصيلية للتاريخ العثماني والتركي أو حتى مرونتها في عكس كل تفاصيل الحياة الاجتماعية، وإنما خضوعها للتحولات السياسية والإيديولوجية التي نتجت عن انهيار الحكم العثماني وظهور مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك على الساحة وسعيه الحثيث في تغريب الهوية الثقافية للمجتمع التركي.
الموسيقى علم يدرس في القصور
بدأ الاهتمام العثماني في الموسيقى بالانتظام في أواخر القرنين الرابع عشر والخامس عشر، فظهرت الأبحاث والمعاهد الخاصة في تدريسها، وكانت في الغالب مدارس ملحقة بالقصر، إذ تعاملت الدولة العثمانية مع هذا الفن على أنه علم أساسي له منهجية وقواعد خاصة، حيث تأسست مدرسة “دار الألحان” (Darülelhan) للموسيقى كأول مؤسسة رسمية لتعليم أساسيات الموسيقى، حتى كانت النخبة العثمانية تساهم في تطوير هذا الفن من خلال تأليف الألحان وكتابة كلمات الأغاني، وكان البعض الآخر يكتفي بالعزف على بعض الآلات الموسيقية من باب الاستمتاع.
مثلًا، درس السلطان عبد العزيز الأدب والموسيقى الكلاسيكية، ولم يكتف بالجانب الأكاديمي وإنما ألف بعض المقطوعات الكلاسيكية التي اعتمد بعض منها لاحقًا في دور الموسيقى الإيطالية، كما عٌرف السلطان بايزيد الثاني بولعه بالموسيقى ومهارته في تأليف 9 مقدمات موسيقية، ويضاف إليهما، السلطان محمود الأول الذي احترف العزف على الكمان، والسلطان سليم الثالث الذي اكتشف 14 مقامًا موسيقيًا ومارس العزف على آلتي الناي والطنبور، والسلطان محمود الثاني الذي ألف 26 لحنًا، وغيرهم من رجال الحكم الذين أثروا هذا التراث الثقافي.
الدولة العثمانية استخدمت الموسيقى علاجًا للأمراض النفسية والعقلية في مجمع السلطان العثماني بايزيد الثاني
ازداد اهتمام الدولة العثمانية بالموسيقى مع تأسيسها فرقة الموسيقى العسكرية العثمانية “مهترهان” التي تعد أقدم فرق الجوقة الموسيقية العسكرية في تاريخ العالم، إذ بدأت عام 1299 بأمر من الأمير عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية، وبرز دورها سريعًا في تشجيع الجيش العثماني في أوقات الحرب، ولا سيما خلال الحرب العالمية الأولى وحرب الاستقلال.
إلى جانب الحقل العسكري، أفادت الوثائق التاريخية أن الدولة العثمانية استخدمت الموسيقى علاجًا للأمراض النفسية والعقلية في مجمع السلطان العثماني بايزيد الثاني، الواقعة التي أكدها الرحالة التركي، أوليا شلبي، في مذاكرته حين ذكر أن السلطان بايزيد أسس فرقة موسيقية تتكون من عازفين ومطربين وتعمل خصوصًا في المستشفيات، من أجل تخفيف الأزمات النفسية على المرضى، وذلك في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعامل مرضاها بتعسف وقسوة. بحسب ما ذكره هاقان اكينجي، مدير المتحف الصحي بمجمع بايزيد الثاني.
وكانت الموسيقى العثمانية آنذاك متأثرة بشكل واضح بموسيقى الإمبراطورية الفارسية والساسانية والبيزنطية وبعض من آثار الحضارة الإسلامية وفنونها التي انتقلت إليها من بغداد بعد صعود الخلافة العباسية وتوسع الإسلام، وبذلك اتخذت الموسيقى في عهد الدولة العثمانية أشكالًا مختلفة، فكان منها الموسيقى الكلاسيكية التي تدعمها آلات موسيقية كالطنبور والناي والكمنجة والعود والقانون والرباب والسنتور والكمان وغيرها، والفلكلورية التقليدية “Turku” التي تعكس خصائص المجتمع التركي وثقافته، إضافة إلى موسيقى الأرابيسك Arabesk التي ظهرت بين الأعوام 1930 و1950 تأثرًا بالثقافة والألحان العربية.
تغيرت تلك الملامح في أواخر القرن الثامن عشر إلى الربع الأول من القرن العشرين نتيجة للانفتاح على أوروبا وتأثير حركة التنوير الغربي على النظرة الثقافية في البلاد، التحول الذي جمع بين الموسيقى العثمانية الشعبية والغربية الحديثة ولكنه تدريجيًا ما أخذ الطابع الغربي، وسرعان ما كثرت حينها فرق الأوركسترا والكورال والأوبرا والباليه.
بداية التغريب.. الهوية الموسيقية على الطراز الأوروبي
“كانت الجمهورية الجديدة، حين سقطت الإمبراطورية العثمانية واثقة من هدفها إلا أنها لم تكن واثقة من هويتها؛ وقد اعتقد مؤسسوها أن الطريق الوحيد للانطلاق بها هو إنشاء مفهوم جديد للتركية، وكان هذا يعني نطاقًا معينًا يفصلها عن بقية العالم. كانت هذه نهاية إسطنبول العصر الإمبراطوري، إسطنبول العظيمة متعددة الثقافات واللغات”، بهذه الكلمات تحسر الكاتب التركي الشهير أورهان باموق في كتابه “إسطنبول المدينة والذكريات” على طبيعة بلده الكوزموبوليتانية التي انتهت بعد قيام الجمهورية والزيادة العنيفة في الأتركة، على حد وصفه.
لعل باموق في هذا الشق لا يقصد الموسيقى على وجه الخصوص، ولكنه بشكل من الأشكال يناقش الوجه الثقافي الذي اختلفت طبيعته مع إصرار مؤسسي الجمهورية على تغريب هوية المجتمع التركي من خلال التحدث بالتركية فقط، وتنقية الثقافة من الملامح العثمانية الإسلامية التي اقتبست عاداتها ومعتقداتها من العرب واستبدالها بالملامح الغربية، على قدر المستطاع.
صفحات الجرائد ساهمت في الترويج للموسيقى الجديدة ووصفت موسيقى الأرابيسك بالذات بـ “موسيقى الأحياء الفقيرة”، و “موسيقى الميني باص”
وبسبب الانبهار الكبير تجاه الثقافة الغربية والتفوق الأوروبي، شهدت الموسيقى التركية انقلابًا مشابه بالانقلاب اللغوي الذي فرض على الأتراك عام 1928 استعمال الأبجدية اللاتينية بدلًا من العربية، وتم التعامل مع الموسيقى العثمانية الكلاسيكية على أنها جزء من ذاك التاريخ الذي لا يعبر عن هوية الجمهورية الجديدة ولا يعكس طبيعتها.
وكان الشاعر والسياسي، ضياء جوك ألب، الملقب بـ “أبو القومية التركية” من أبرز أنصار هذا الاقتراح، بخلاف الموسيقي التركي رؤوف يكتا بك، الذي رفض هذه الفكرة واستمر في تأليف الموسيقى الشرقية. امتدت هذه الخلافات إلى ساحة البرلمان التركي وصفحات الجرائد التي ساهمت في الترويج للموسيقى الجديدة وسوقت الآلات الموسيقية التقليدية كالعود والقانون على أنها رجعية ومحط سخرية، ووصفت موسيقى الأرابيسك بالذات بـ “موسيقى الأحياء الفقيرة”، و “موسيقى الميني باص”.
اتخذت الحكومة إجراءات أكثر حدة، حين حظرت عزف الموسيقى التقليدية على أجهزة الراديو بين عامي 1934-1936، في محاولة لتعويد الشعب التركي على الهوية الموسيقية الجديدة، كما أغلقت قسم الموسيقى الشرقية في دار الألحان ومنعت تدريسها في المؤسسات الرسمية، وافتتحت عوضًا عنها معهد جديد للموسيقى على الطراز الغربي وأسست أول فرقة أوركسترا عام 1932، وأرسلت بعثات طلابية للخارج بهدف تعلم الإيقاعات الموسيقية الغربية، وبذلك انقطعت الصلة بين المجتمع التركي والثقافة العثمانية كما أراد الكماليين.
العودة إلى الجذور
استمر التضييق على الموسيقى التقليدية لمدة 50 عامًا حتى سُمح في السبعينيات لمغني الأرابيسك بالظهور على التلفزيون مرة واحدة في الشهر، وبث أغانيهم مرة واحدة في الأسبوع على الراديو، وفي عام 1976 افتتحت حكومة سليمان ديميريل معهدًا للموسيقى التركية الكلاسيكية في إسطنبول، ومع بداية فترة الثمانينات، استحوذت هذه الموسيقى على الساحة السياسية وباتت مدخلًا جيدًا للأحزاب السياسية التي تسعى لحصد أصوات الناخبين من الطبقات المتوسطى، فاستخدم حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان موسيقى الأرابيسك في حملته الانتخابية، وانعكس نجاحه السياسي وصيته آنذاك في الوسط التركي على القبول الشعبي.
اليوم، نصادف الكثير من فنانين الأرابيسك الذين أصبحوا رموزًا ثقافية وشعبية، وهم جزء من الدوائر الفكرية التي لعبت دورًا في تحديث وإعادة إنتاج هذا النوع من الفن، وأبرزهم إبراهيم تاتليسيس ومسلم بابا وأورهان كنجباي، وذلك بعد المرور بمنعطفات متعرجة تحولت فيه الأرابيسك من موسيقى رجعية ومحظورة إلى لغة التمرد والتغيير والمقاومة، وأحد ساحات الصراع الإيديولوجي في التاريخ التركي.