ترجمة وتحرير نون بوست
في الوقت الذي ينتشر فيه فيروس كورونا في جميع أنحاء العالم، فإنه يضع ضغطًا غير مسبوق على أنظمة الصحة العامة ويدمر الاقتصاديات على طول طريقه. وبمرور الوقت، سيؤدي ذلك أيضًا إلى حدوث اضطرابات سياسية لا تقل شأنا عنه. نحن نرى بالفعل التحديات الهائلة التي تفرضها الأزمة على الديمقراطيات الليبرالية في الغرب التي تُكافح من أجل التحكم في الوضع في نظر العامة. في المقابل، تجد الدول السلطوية التي أغلقت حدودها مثل الصين سهولة أكثر في التعامل مع الأزمة، ذلك أنها لم تفرض إجراءات إغلاق صارمة فحسب، بل قامت أيضًا بحجب المعلومات التي قد تتسبب في الذعر وقمع كل شكل من أشكال المعارضة.
سارعت هذه الدول إلى استغلال نقاط ضعف الدول الغربية. وقد كانت الصين، على وجه الخصوص، بارعةً للغاية في استغلال الفيروس في حربها الدعائية العالمية ضد الولايات المتحدة الأمريكية. كما تستغل بكين كل فرصة خلال هذه الأزمة للتفرقة بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، الذي تعتبره منافسًا محتملاً يحمي المصالح والقيم الأوروبية ضد المحاولات الصينية الرامية لتعزيز مصالحها ونفوذها في القارة.
إن هيئة التحكيم لم تتدخل، ولكن من الواضح أنه لا يمكن ترك الصين تفوز. إن بكين تغتنم كل فرصة خلال هذه الأزمة لإحداث انقسامات بين أعضاء الاتحاد الأوروبي. وبالنظر إلى دورها في خلق الأزمة، من المفارقة أن نراها تسجل نقاطًا في حربها الدعائية وتخلق انقسامات بين الديمقراطيات الغربية. وبدلاً من تحذير العالم من تفشي المرض، نجدها تنخرط في تغطية واسعة لانتشاره.
في عرض يخطف الأنفاس لمهارتها في التلاعب، تحاول الصين حاليًا أن تطعن الولايات المتحدة الأمريكية في ظهرها. ولعل ذلك ما يؤكده التصريح الذي أدلى به مؤخرًا المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية في تغريدة له بقوله: “قد يكون الجيش الأمريكي هو من جاء بالوباء إلى ووهان”، مضيفًا “كونوا شفافين! وأعلنوا عن بياناتكم للعامة! الولايات المتحدة الأمريكية تدين لنا بتفسير!”.
هل ينبع اهتمام الصين الجديد بمصلحة إيطاليا من قلقها الصادق بشأنها، أو من وضع روما كأحد أكبر المؤيدين لمبادرة الحزام والطريق الأوروبية؟
من جهته، أضاف الحزب الشيوعي الصيني، المعروف بمغالطاته بشأن كل شيء بدءًا من الإنفاق العسكري وصولا إلى النمو الاقتصادي، لمسته الخاصة الخادعة على هذه الأزمة أيضًا. باعتبارها ماهرة في تشديد الرقابة، استخدمت الصين الأزمة كفرصة لعزل البلاد عن العالم الخارجي، حيث قامت بطرد معظم الصحفيين الأمريكيين وفرض رقابة أشد صرامة. ونتيجة لذلك، فإن القليل مما تقوله بكين للعالم صحيح، وإذا كان تعامل الصين مع فيروس كورونا يبدو مبهرًا، فذلك فقط لأن السلطات الصينية تمثل مصدر المعلومات الوحيد.
عززت بكين هذه الحملة الدعاية عن طريق إرسال الإمدادات الطبية إلى أوروبا. ومن الصعب التصديق أن دولة تعتقل أكثر من مليون من مواطنيها قادرة على أن تكون بمثل هذا السخاء. وفي الحقيقة، إن كل عمل صيني هو نوع من الخيانة للمبادئ الميكافيلية تحت ستار إنساني.
خذ على سبيل المثال قرار شركة الاتصالات الصينية العملاقة “هواوي” بالتبرع بـ 800 ألف قناع لهولندا. لماذا قد يُظهر التكتل المعروف بعلاقته الجيدة مع الحكومة الصينية مثل هذا الإحسان تجاه بلد لم يكن يعاني في ذلك الوقت من أي حالات لفيروس كورونا؟ من المؤكد أن السبب وراء ذلك ليس تاريخ إجراء مزاد هولندا لتراخيص الهاتف المحمول المزودة بتقنية الجيل الخامس المقرر في حزيران/ يونيو، وليس تردد الهولنديين بشأن إذا كانوا سيستبعدون “هواوي” من شبكات الجيل الخامس بسبب المخاوف من التجسس.
لابد من أخذ إيطاليا أيضا بعين الاعتبار، حيث أرسلت الصين أطباء وأجهزة تهوية كانت إيطاليا تفتقر لها. هل ينبع اهتمام الصين الجديد بمصلحة إيطاليا من قلقها الصادق بشأنها، أو من وضع روما كأحد أكبر المؤيدين لمبادرة الحزام والطريق الأوروبية؟ ربما يمثل تبرع الصين بـ 500 ألف قناع لليونان إذن هدية سخية بشكل غير معهود، أم أنها جزء من حملة طويلة لإغداق اليونان بالتجارة والاستثمار؟ بالفعل، كانت اليونان مؤيدًا موثوقًا للصين في بروكسل، حيث تعتمد عليها بكين بشكل متزايد للاعتراض على أي إجراءات تعتبرها الصين ضد مصالحها – على سبيل المثال، في التجارة أو الأمن أو حقوق الإنسان.
قال الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش إن “الصين تمثل الدولة الوحيدة القادرة على مساعدة صربيا. أما بالنسبة لبقية الدول، شكرا على لا شيء”.
تمثل مبادرة التعاون بين الصين ودول وسط وشرق أوروبا محاولة أخرى للتفرقة بين الدول الأوروبية. في هذه المحاولة، ركزت الصين على الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل صربيا، التي تلقت مؤخرًا مساعدة صينية. لسوء الحظ، مهد الأوروبيون الطريق لبكين لاستغلال خلافاتهم. مع تضرر أوروبا بشكل خاص من جائحة فيروس كورونا، انعدم التضامن الأوروبي إلى حد كبير مع إغلاق الحدود ومع مدافعة كل دولة عن نفسها.
يتضح ذلك بشكل كبير في إيطاليا، حيث ارتفع عدد القتلى إلى الآلاف في غضون أيام مع معاناة نظامها الصحي. بدلاً من الهرع إلى مساعدة روما، قررت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ترك مرافق الرعاية الصحية الخاصة بها على أهبة الاستعداد لأزماتها الخاصة. كما فرض العديد منهم ضوابط حدودية صارمة مع القليل من التنسيق، من بين إجراءات أخرى اتخذت من جانب واحد. بالنسبة لألمانيا، فقد استغرقت حتى منتصف آذار/ مارس لتتصدر زمام المبادرة في أوروبا وتعلن عن إرسال معدات طبية إلى إيطاليا.
تمثلت النتيجة في أن خُمس الإيطاليين الآن يعتقدون أن عضوية الاتحاد الأوروبي تساعد إيطاليا، بينما يرى ثلثا السكان أن تلك العضوية تمثل “نقطة ضعف”. وقد استنكرت صربيا التي لا تنتمي إلى الاتحاد الأوروبي ولكنها تطمح إلى العضوية عدم تضامن أوروبا واتجهت علنًا إلى بكين طلبًا للمساعدة. حيال هذا الشأن، قال الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش إن “الصين تمثل الدولة الوحيدة القادرة على مساعدة صربيا. أما بالنسبة لبقية الدول، شكرا على لا شيء”. كما شكر فوتشيتش حسب الأصول الحزب الشيوعي الصيني.
سوف يشهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب – الذي جعل احتواء قوة الصين أولوية رئاسية – تضاؤل فرص إعادة انتخابه في حال أساء إدارة الأزمة
إن الآثار المترتبة عن سياسات أوروبا خطيرة، نظرا لأن فيروس كورونا يكشف عن ضعف وهشاشة الاتحاد الأوروبي كمشروع يتجاوز الحدود الوطنية. بعبارة أخرى، تؤدي هذه الأزمة إلى تفاقم ضعف الاتحاد الأوروبي إلى حد مميت. وبقدر ما يواجه من إساءة من قبل خصومه، كان الاتحاد الأوروبي يحارب لفترة طويلة من أجل قارة موحدة ومسالمة ومزدهرة، وقد جذب الدول المجاورة التي تطمح إلى الانضمام إلى ناديه الديمقراطي الحصري. وبالتالي، سوف تجد أوروبا الضعيفة والمقسمة نفسها هدفا سهلا لأعداء النظام الديمقراطي الليبرالي، سواء كانوا في موسكو أو بكين.
بينما هددت أزمة فيروس كورونا بإضعاف أوروبا الديمقراطية وشجعت أعداءها، فقد فضح الوباء أيضا أوجه القصور في المؤسسات الديمقراطية في الولايات المتحدة. ومع تلقي الحكومة الأمريكية لموجة انتقادات حول كيفية تعاملها مع أزمة الصحة العامة باعتبارها غير منظمة وغير كافية، فإن العديد من بعض الفئات الأمريكية عبرت علانية عن إعجابها بالصين بسبب كفاءتها المستبدة في التعامل مع الأزمة، حيث كانت بكين تمارس تأثيرها بمهارة في الداخل والخارج.
سوف يشهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب – الذي جعل احتواء قوة الصين أولوية رئاسية – تضاؤل فرص إعادة انتخابه في حال أساء إدارة الأزمة. وعلى الرغم من ذلك، من المفارقة أن تعمل جائحة فيروس كورونا على تعزيز نظرة ترامب للعالم. كما تمنح مسؤولية الصين الواضحة والجلية في السماح لوباء محلي في مدينة ووهان بالنمو إلى جائحة عالمية العتاد لمنتقدي العولمة الذين يعتبرون الصين شريكا غير جدير بالثقة. وبسبب الوباء، من المرجح أن تتضاعف ثروات أولئك الذين يشككون في العولمة، ويدعمون النزعة القومية، وعدم الوثوق في الصين.
إذا كانت المجتمعات الليبرالية في الغرب تبحث عن علامات تبعث على الأمل في خضم الفوضى، فقد نعثر على هذه العلامات في ديمقراطيات آسيا
علاوة على ذلك، سيحدد مسار تفشي الفيروس مدى تأثير ذلك على الانتخابات الرئاسية الأمريكية في تشرين الثاني/ نوفمبر، وما إذا كان ترامب قادرا على حشد استجابة فعالة. لكن فيروس كورونا ساهم فقط في تسريع إدراك حقيقة أنه ألقى بظلاله على الغرب لبعض الوقت: حيث تخلق القوة العظمى للمجتمعات الليبرالية – انفتاحها – نقاط ضعف في عالم مترابط، التي يعمل أعداؤها بنشاط لاستغلالها.
في الواقع، يطرح هذا الوضع مشاكل فريدة للديمقراطيات الليبرالية. وأبرز مثال على ذلك هو حقيقة أنه على الرغم من أن حظر التجمعات الكبيرة قد يكون ضروريًا لإبطاء تفشي الوباء، إلا أن حرية التجمع تعتبر حقا مضمونا في التعديل الأول للدستور في الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، تتعرض الحريات المدنية في قلب الديمقراطية لضغوط شديدة حيث تميل الحكومات إلى اللجوء إلى سلطة الطوارئ. لذلك يتعيّن على كل ديمقراطية، سواء في أمريكا الشمالية أو أوروبا، أن تتفاوض على هذه القضايا خلال الأشهر القادمة.
إذا كانت المجتمعات الليبرالية في الغرب تبحث عن علامات تبعث على الأمل في خضم الفوضى، فقد نعثر على هذه العلامات في ديمقراطيات آسيا. عموما، تستجيب كوريا الجنوبية واليابان وتايوان بشكل أسرع وأكثر نجاحًا لفيروس كورونا مقارنة بمعقل القمع في آسيا. ومهما كانت مزايا الاستبداد التي قد تحاول بكين الترويج لها في السوق، يجب أن تظل المجتمعات الليبرالية واثقة بنفسها وتتصرف على نحو موحد. وعلى عكس الصين، تتميّز الديمقراطيات الليبرالية بالمرونة والفضول والإبداع الثقافي للتعلم من هذه التجربة والخروج أقوى لمواجهة الأزمة التالية التي ستصيبهم.
المصدر: فورين بوليسي