لا توجد فئة واحدة من أطياف المجتمع الإنساني لم تتضرر من تداعيات انتشار فيروس كورونا COVID-19 الذي أصبح من ألد أعداء البشر في كل مكان على ظهر الكوكب، خرجت دعوات تحشد لمساعدة الفقراء وأصحاب الحرف والأعمال اليومية التي تضررت بالكلية من إجراءات محاصرة الفيروس وحظر التجول في العديد من البلدان، ولكن لم يتحدث أحد عن الفن وخاصة الموسيقيين الذين يعملون في أغلبهم بطريقة تقترب من نظام اليوم الواحد، ولكنهم استطاعوا ابتكار طرق شتى للتغلب على الأزمة، لا سيما أن الموسيقى مرتبطة بالبهجة والألفة والروايات، ولهذا خلقوا حالة ونجحوا في حشد الجموع حولهم وربطها بموسيقاهم من الشوارع والأسطح والطرقات.
كورونا والموسيقي.. ما حجم الضرر؟
يمكن القول إن الموسيقيين ضمن أكثر فئات المجتمعات تضررًا بشدة من جائحة كورونا، بعد تعليق التجمعات بأغلب بلدان العالم، والعدد القليل منهم، كما هو حال كل المهن، يعيش على حماية الشهرة ومدخراتها، وعدد آخر يعيش على حماية نسبية من عضويته في المؤسسات والنقابات التي ينضم إليها بعد مشقة وإجراءات معقدة، لكن الغالبية العظمى تتوقف أرزاقهم على الحفلات، ومعظمهم لا يعرف لنفسه دخلًا ماديًا بديلًا، شأنهم شأن أغلب المنتسبين لكل المهن الذين تضيع أعمارهم في البحث عن شغفهم في أعمالهم التي لا يعرفون غيرها.
مع انتشار فيروس كورونا وتضييق كل المنافذ على الموسيقيين، سارع الكثير منهم إلى نشر مقاطع فيديو على الإنترنت من منازلهم، وهم يمارسون هوايتهم في العزف، ودعوا الآخرين لمشاركتهم لحظات انعزالهم حول العالم، لتتحول إلى ظواهر وطنية تعبر عن التماسك والقوة والتضامن في مواجهة أشباح الموت المنظم الذي يسوق البشر إليه جائحة الفيروس التي لم يعرف لها علاج بعد.
وتتسبب الأوبئة والكوارث عمومًا، في أضرار مالية فورية عميقة للكيانات الموسيقية والفنية بشكل عام التي تعد أحد أهم صروح الاقتصادات في أوروبا، ولهذا يعد شارع “برودواي” على سبيل المثال، أحد أكبر المحركات الاقتصادية لمدينة نيويورك الأمريكية، وحقق مبيعات تذاكر بنحو 1.8 مليار دولار في الموسم الماضي، مما يعني أن إغلاقه لشهر واحد فقط، قد يتسبب بخسائر قدرها 100 مليون دولار، كما قدرت مبيعات تذاكر الموسيقى الحية ورعاياتها بما يقارب 29 مليار دولار عام 2019.
وتزداد أزمة الموسيقيين، إذا كانوا يعملون بشكل فردي دون الانضمام لمؤسسة، وأغلبهم يرفض العمل مع جهة واحدة فقط، ويفضل التنقل بين سلاسل ترفيهية مستقلة، لذا فتوقف التجمعات والعروض يعني فقدان الأجور، لا سيما أن الموسيقى والفن والثقافة هي الأشياء الأولى التي يجب أن تذهب عندما تتعرض الصحة العامة للخطر.
الموسيقى والمجال العام.. كيف يحدث الترابط؟
حالة الحب والبهجة والترابط بين الأمل ومقاطع الموسيقى التي انتشرت سريعًا من جميع أنحاء العالم، تكشف أهميتها التي ربما لا تعيها أغلب الكيانات السياسية العربية بمختلف توجهاتها، فطبيعة السياسة نفسها مثل الموسيقى، متجذرة في الصراع والوئام، والأخيرة تحدث حالة غريبة من التفاعل الجسدي والعقلي، بما يخلق توافق قوي بينهما، وهو ما يفسر لجوء العديد من الساسة حول العالم للموسيقى والموسيقيين وضمهم إلى حملاتهم للحشد ببرامجهم السياسية.
وتفاعلات الموسيقى مع المجال العام، ممتدة منذ قرون وتحفل السجلات التاريخية بالموسيقى التي تشيد بإنجازات الأمم وتواجه الظلم الاجتماعي والسياسي، كما تحفل بالمقاطع الشهيرة التي تعبر عن الطغيان والديكتاتورية ولحظات الصدام بين الأمم وعدم المساواة وكل أشكال الاحتجاج في الشارع، لذا كانت الموسيقى دائمًا ملهمة للثوار في الميادين، مما يؤكد أن الحالة الحاليّة من الحب المفعم بالمشاعر الوطنية رغم قسوة فاتورة الوباء، ليست جديدة عليها.
وطوال تاريخها والأحداث المفصلية تلهم الموسيقى بالعديد من الرسائل، سواء كان ذلك متعلقًا بالأخطار بكل أنواعها التي تلاقيها الأوطان أم الرسائل المتعلقة بالموضوعات السياسية أم التي تذهب إلى أبعد من ذلك، خاصة أنها يمكن أن تستخدم في الحشد أو كأداة لزيادة الوعي أو زيادة الترابط بين أبناء الوطن وأبناء الثقافة الواحدة كلما أحدث الواقع ثقوبًا بها، كما تحاكي مقطوعة “منا لأجلكم” التي جمع فيها بعض موسيقيي الأوركسترا الهولندية أنفسهم، لتقديم حفل افتراضي لجماهيرهم في هولندا ومختلف الدول الأوروبية.
الـ19 موسيقيًا وعازفًا قدموا نشيد الفرح الشهير الذي كتبه الشاعر والمسرحي الألماني فريدريخ فون شيلر عام 1785، ولحنها بيتهوفن وأدرجها في المقطع الرابع والأخير من السيمفونية التاسعة، باعتباره النشيد القومي للاتحاد الأوروبي، في محاولة منهم للتعامل مع الواقع الجديد، وفي الوقت نفسه إيجاد حالة من الترابط بين البلدان الأوروبية، بعد تزايد الاتهامات بينهم بالأنانية وعدم إعانة البلدان المنكوبة بما يكفي.
ابتكارات للتغلب على البطالة والعزل
خرج الموسيقيون من كل مكان في العالم، بتصورات مختلفة للتغلب على البطالة والعزل وإعادة تقديم أنفسهم للمجتمعات من جديد، ففي إسبانيا، دشن عدد من الموسيقيين بالتعاون مع لاعبي الكرة مهرجانًا لجمع الموسيقى والرياضة معًا لمكافحة كورونا، بمشاركة 20 نجمًا موسيقيًا، على رأسهم أليخاندرو سانز ودافيد بيسبال وأيتانا وسيباستيان ياترا أو أنطونيو وروزكو، وجرى الاتفاق على إقامة المهرجان يوم 28 من مارس الحاليّ، وسيكون متاحًا للجماهير حول العالم، على أن تذهب أرباحه لجمع أموال من أجل شراء مستلزمات طبية، ورفع معنويات المشجعين خلال فترة الحجر الصحي.
أخذ التنافس الجديد بين الموسيقيين بعدًا خاصًا في أوروبا التي تعاني بشدة من الفيروس، فرغم ابتكار الإيطاليين حفلات عزف الأسطح والشرفات والشوارع، فإن فرنسا لاحقتها، خاصة أنها تعيش منذ الثلاثاء الماضي حجرًا صحيًا إلزاميًا، بسبب الوباء الذي أودى بحياة المئات، وكان لافتًا مشاركة الـDJ العالمي “سانكلير” في هذا السباق للبقاء في الأضواء، وقرر توزيع مقاطع موسيقية على البث المباشر كل يوم بحسابه عبر فيسبوك، وشاهد توزيعه الأول أكثر من ثلاثة ملايين شخص في أقل من 24 ساعة.
دخلت السباق أيضًا، كارينا نونيز عازفة التشيلو الأورغوانية الشهيرة، التي تعيش فى ظل حجر صحي إجباري فرضته السلطات للحد من انتشار فيروس كورونا، وأصبح عزف نونيز يضفي حالة من البهجة على جيرانها ومواقع التواصل الاجتماعي، وأعادت في الوقت نفسه تقديم نفسها ليس فقط للجمهور الأوروغواني، بل وجميع الجماهير التي تعيش في كنف العزل الإجباري في العالم.
العرب.. اختفاء العازفين
لم تشهد المنطقة العربية أنشطة توازي الزخم الأوروبي على مستوى العازفين، لكن مؤخرًا تحركت وزارة الثقافة المصرية ودشنت مبادرة بث حفل عبر الإنترنت لعدد من كبار المطربين والموسيقيين، اشترك فيها حتى الآن مدحت صالح وعلي الحجار وريهام عبد الحكيم وأمينة خيرت والموسيقار عمر خيرت، كما أعلن المطرب المصري علي الحجار عبر حسابه الشخصي بموقع فيسبوك بث حفلات تجمعه بعدد من أعضاء فرقته مع مراعاة المسافة بينهم، وطالب جمهوره بترشيحات ما يريدون سماعه.
فرقة مسار إجباري المصرية دشنت هي الأخرى حفلًا عبر الإنترنت من موقع يوتيوب، تحت شعار الحفلة في البيت، ووجدت تفاعلًا كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي، كما أعلن المطرب المصري تامر عاشور تقديم حفل بث مباشر لجمهوره يتيح لهم مشاهدته من المنزل.
في لبنان لم تختلف الأجواء كثيرًا عن المشتغلين بالموسيقي ولم يستغل أي عازف الفرصة للظهور في المشهد منذ لحظة إعلان أول إصابة بفيروس كورونا في لبنان، وارتفعت نسبة القلق من احتمال انتشاره، وما واكب ذلك من إجراءات استثنائية من السلطات اللبنانية والجهات المعنية التي أصدرت التحذيرات والإرشادات اللازمة للعمل بها، تجنبًا لانتشار الفيروس.
ولكن كان لافتًا أن أكثر الذين تابعهم الجمهور من المنازل، جورج مجدلاني، وهو شاب يعمل أستاذًا للموسيقى بإحدى المدارس، بعدما ظهر بجانب تلاميذه من المدرسة الإنجيلية في مدينة صور، وقدم أغنيةً له من وحي هواجس الفيروس، أداها على وقع العزف على آلة البيانو ونالت إعجاب الكثيرين.
أخيًرا، ربما تجدر الإشارة إلى أن أول من تجاوز محنة الحصار الإجباري بالموسيقى، كان الشعب السوري، حين شارك أطفال حي الوعر في مدينة حمص عندما كان محاصرًا من قبل النظام السوري، بأداء أغنية تحت إشراف وتوجيه الموسيقار السوري العالمي مالك جندلي عن بعد من مقر إقامته في الولايات المتحدة، ليتحفونا بأغنية “صوت أطفال سوريا الأحرار”، ولكن من بين الأنقاض وتحت القصف هذه المرة لا من على الشرفات.