ليست الصورة الوردية المتخيلة عن النظام السعودي الثري حقيقية كما يُخيل للمتابع اليوم، وهو يرى تبديد المال السعودي على صفقات الأسلحة، أو أموال تدفع لوكالات الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى بغرض إسكاتها عن انتهاكاتها الإنسانية، بأن السعودية لا تقع على بحر من النفط فحسب، وإنما على بحر من الأموال الطائلة التي لا تنضب، ربما تشكل الحقائق صدمة للمتابع في كيفية سير نظام الحكم في السعودية وذراعه الاقتصادية.
تغيرت أمور كثيرة منذ تولي ولي العهد محمد بن سلمان مقاليد كثيرة في إدارة شؤون بلاده، ولعل أبرزها حرب اليمن وإطلاق رؤية اقتصادية وثقافية جديدة لبلاده، لتبدأ بها مرحلة مختلفة في تاريخ المملكة العربية السعودية.
حرب اليمن
منذ إعلان السعودية تدخلها عسكريًا في اليمن مارس 2015، أنفقت السعودية عشرات المليارات من الدولارات، سواء بشكل مباشر في إطار التسليح العسكري لجيشها أو تكاليف ضربات جوية تنفذها ضد مقاتلي الحوثي ودعم الحكومة اليمنية، أم بشكل غير مباشر عن طريق هبات لحكومات ومنظمات لدعم موقفها في اليمن أو لشخصيات سياسية واجتماعية يمنية في إطار شراء تأييدهم لحربها ضد الحوثيين.
وفقًا لمعهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام ومرصد المساعدة الأمنية الأمريكية، فإن السعودية أنفقت على صفقات شراء السلاح من أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا ما يصل إلى 82 مليار دولار، تشمل شراء أسلحة وذخائر وتدريب عسكريين سعوديين.
بالمقابل أشار بيان للموازنة العامة السعودية عام 2015 عن الاحتياطي النقدي والإنفاق العسكري للمملكة، أن الاحتياطي النقدي للبلاد وصل إلى 502 مليار دولار بعد الحرب، بعد أن كان 732 مليار دولار، بينما بلغ الإنفاق العسكري بعد حرب اليمن 80 مليار دولار، بعد أن كان 68 مليار دولار، لتكون بذلك السعودية الثالثة عالميًا بعد أمريكا والصين في الإنفاق العسكري.
السعودية تخسر في حربها باليمن 5 – 6 مليارات شهريًا، بينما تستهلك من ميزانية إيران 30 مليون دولار فقط
وعلى الرغم من التكتم الشديد من المسؤولين والمؤسسات السعودية بشأن حجم إنفاقهم العسكري، فإن معاهد أبحاث عالمية ووسائل إعلامية سعودية أشارت في أكثر من مناسبة إلى جزءٍ من التكلفة المالية المنفقة لتمويل العمليات العسكرية في اليمن، فعلى سبيل المثال، أوردت قناة العربية بعد خمسة أيام على انطلاق عاصفة الحزم نقلًا عن مصادر في الجيش السعودي أن المملكة قد تنفق نحو 175 مليون دولار شهريًا على الضربات الجوية، وأن الضربات الجوية قد تكلف السعودية خلال 5 أشهر ما يصل إلى مليار دولار.
أما صحيفة الرياض السعودية فقالت إن الكلفة الشهرية لتشغيل الطائرات الحربية السعودية المشاركة في الحرب تصل إلى 230 مليون دولار، متضمنًا تشغيل الطائرات والذخائر المستخدمة والاحتياطية وثمن قطع الغيار والصيانة.
وبالنظر إلى أن هذه المعلومات وردت على لسان وسائل إعلام سعودية، فمن المحتمل أن الأرقام الحقيقية قد تبدو أكثر من ذلك بكثير، فصحيفة “إنترناشيونال إنترست” الأمريكية قدرت حجم الأموال التي صرفتها السعودية في هذه الحرب بـ100 مليار دولار، كما تم إنهاك الاحتياطي النقدي الذي ظلت السعودية لعقود تعمل على ادخاره.
معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط من جهته وفي إطار مقارنته بين خسائر إيران والسعودية في اليمن، أشار إلى أن السعودية تخسر في حربها باليمن 5 – 6 مليارات شهريًا، بينما تستهلك من ميزانية إيران 30 مليون دولار فقط، بالإضافة إلى قليل من الخبراء والاستشاريين في المجالات العسكرية.
البي بي سي وفي مقابلة أجراها مراسلها للشؤون الأمنية فرانك غاردنر مع خبير شؤون الخليج في مركز الخدمات المتحدة الملكي في لندن مايكل ستفينز، قال فيها الأخير إن الرياض اليوم أضعف مما كانت عليه قبل 2015.
السعودية ليست دائنًا في جميع الأوقات، بل هي مدينة في أوقات عدة، وتستدين مبالغ ضخمة – على مراحل – لتغطية عجز موازنتها المترتب على تفاوت أسعار النفط
علاوة على النفقات العسكرية، هناك الودائع المالية التي تقدمها السعودية للحكومة اليمنية للحفاظ على الاقتصاد اليمني الهش من السقوط والعملة اليمنية من الانهيار التام، لذلك قدمت في فترات متلاحقة ودائع مالية للبنك المركزي اليمني للمساعدة على استقرار العملة وإيقاف تدهورها، قُدرت تلك الودائع بـ3 مليارات دولار خلال عامي 2018-2019.
في سياق متصل، تعمل السعودية عبر برنامجها السعودي لإعمار اليمن – كما تعرّف أنشطتها على موقعها الرسمي على الإنترنت – على تأهيل البنية التحتية اليمنية المدمرة في قطاعات الصحة والتعليم والكهرباء والمياه، علاوة على وعود هذا البرنامج بالقيام بمشاريع ضخمة في البنية التحتية اليمنية في الأعوام القادمة، الذي يسلتزم بالتأكيد ميزانية مالية ضخمة ستكلف الاقتصاد السعودي الكثير. وهذا الجانب سنتناوله في تقرير قادم يوضح طبيعة هذا البرنامج وما قدمه من مشاريع والانتقادات التي طالته.
من الواضح إذًا بأن الحرب اليمنية تستمر في استنزاف الخزينة والاقتصاد السعودي بشكل مستمر، ونحن ندخل اليوم العام السادس على إعلان عاصفة الحزم في اليمن لإعادة الشرعية.
لكن مقدرة الاقتصاد السعودي على تحمل كل هذه التكاليف، خاصة مع انخراط نظامه السياسي في ملفات أخرى، في إطار سعي المملكة إلى البقاء كقوة إقليمية، من ضمن هذه الملفات، صراعها مع ايران ومواجهة النفوذ التركي المتصاعد في المنطقة ودخولها في نزاعات نفطية مع روسيا، ولا ننسى أيضًا تنفيذ الخطة التي أعلنها ولي العهد محمد بن سلمان في إطار إحداث طفرة في الدولة السعودية وتحوّل تاريخي لها، اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا ينقلها إلى عهد جديد بقيادة الأمير الشاب ممثلة برؤية 2030.
تحديات يواجهها الاقتصاد السعودي
على غير المألوف وخلافًا للمُعتقَد، فإن السعودية ليست دائنًا في جميع الاوقات، بل هي مدينة في أوقات عدة، وتستدين مبالغ ضخمة – على مراحل – لتغطية عجز موازنتها المترتب على تفاوت أسعار النفط.
أحد القروض التي حصلت عليها، كان لحساب صندوق الاستثمارات العامة السيادي بمبلغ 11 مليار دولار، أقرضه تحالف بنكي أمريكي بريطاني عالمي، وحسبما ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية فإن السعودية استدانت منذ تراجع أسعار النفط في 2014 ما يصل إلى 100 مليار دولار، لتمويل جزء من عجز موازنتها الذي بلغ 260 مليار دولار في السنوات الأربعة الماضية.
كانت السعودية تخطط للوصول بمديونيتها مع نهاية 2019 إلى 181 مليار دولار، أي ما يساوي 21.7% من الناتج المحلي
كانت الحكومة السعودية تعوّل كثيرًا على طرح جزءٍ كبيرٍ من أسهم شركة أرامكو النفطية المملوكة للدولة في بورصة نيويورك، لتحصيل مبلغ مالي ضخم يساعدها على تسديد جزء من ديونها وتمويل احتياجات تنفيذ رؤية 2030، لكن المخاوف من مصادرة أموالها في أمريكا بسبب قانون جاستا الذي استصدره المشرعون الأمريكيون مؤخرًا، ويسمح لعائلات ضحايا هجمات سبتمبر بمقاضاة دول متهمة برعاية الإرهاب وإجبارها على دفع تعويضات ضخمة لهم، وهناك بالفعل دعاوى كثيرة مفتوحة لهؤلاء الأهالي، مما قد يعرض السعودية لخسارة جزء من نصيبها في الشركة من خلال الأموال المتحصلة من بيع أسهمها، بالإضافة إلى موجة الانتقادات التي تزايدت في أوساط الرأي العام المحلي من جراء بيع جزء كبير من أسهم شركة وطنية مهمة كشركة أرامكو، كل ذلك دفع الحكومة السعودية إلى تأجيل عملية البيع وربما إلغائها.
في أغسطس 2018 أعلنت وزارة المالية السعودية ارتفاع حجم الدين الداخلي والخارجي بنسبة تعدت 21% إلى 146.6 مليار دولار، وهو ما عده خبراء اقتصاديون مؤشرًا سلبيًا عن الوضع الاقتصادي الذي تمر به البلاد في السنوات الأخيرة.
وفي العام الماضي نقلت وكالتا الأناضول ورويترز عن مكتب إدارة الدين العام التابع لوزارة المالية السعودية أن المملكة تخطط لإصدار أدوات دين بقيمة 31.5 مليار دولار للمساعدة في تمويل عجز الموازنة العامة، وكما أوضحت الوكالة فإنه مع حلول نهاية 2018 بلغ حجم الدين للمملكة 150 مليار دولار، وبررت الرياض إستراتيجية اقتراضها الخارجية بأنها تتمحور حول تمكين المملكة من اقتراض معظم احتياجاتها التمويلية خلال الربع الأول، وذلك لتخفيف الانتشار على مخاطر السوق وإتاحة المجال للجهات الحكومية والقطاع العام لاختيار الوقت المناسب لإصداراتهم الخارجية، حيث كانت السعودية تخطط للوصول بمديونيتها مع نهاية 2019 إلى 181 مليار دولار، أي ما يساوي 21.7% من الناتج المحلي.
في ذات الصعيد، وحسب موقع “دوتش فيله” الألماني نقلًا عن شبكة بلومبرغ الإخبارية الأمريكية، فإن السعودية ومصر تصدرتا مؤشر البؤس الاقتصادي، حيث احتلت مصر المرتبة الرابعة، بينما تراجعت السعودية إلى المرتبة العاشرة ضمن 66 دولة أخرى، بسبب عوامل اقتصادية عاشتها، من ضمنها التضخم بسبب انكماش الأسعار.
خفضت السعودية أسعار النفط الخام لديها للأسواق الخارجية إلى أدنى مستوى له منذ 20 سنة
كما أن حملات الملاحقة والاعتقالات التي أطلقتها السلطات السعودية على رجال أعمال سعوديين وأمراء عام 2017، من بينهم الملياردير الشهير الأمير الوليد بن طلال، بدعوى محاربة الفساد، وأجبرتهم على تسليم أموالهم وأصولهم للدولة مقابل إطلاق سراحهم، فيما أطلق عليه لاحقًا “اعتقالات فندق الريتز”، دفعت كثيرًا من رؤوس الأموال من سعوديين وأجانب للهرب بأموالهم، كما نبّهت من كان يفكر بالقدوم للاستثمار إلى التفكير مرة أخرى بسبب المخاوف من ممارسات مشابهة قد تطالهم.
يوجد سبب رئيسي آخر وراء تزايد عجز الموازنة المالية للمملكة لا يمكن إغفاله، وهو تهاوي أسعار النفط بشكل مستمر منذ 2014، وهي دولة ريعية تعتمد بشكل أساسي على صادراتها من النفط كأكبر بلد مصدر للنفط في العالم.
أسعار النفط
بعد انتهاء اتفاق جمع بين دول منظمة أوبك وروسيا استمر لثلاثة أعوام، ورفض روسيا تخفيض إنتاج النفط ليتناسب مع مستوى طلب السوق إزاء التطورات العالمية لانتشار فيروس كورونا، ردت منظمة أوبك بإلغاء كل القيود على إنتاجها، مما يعني زيادة إنتاج الدول المنتجة للنفط لصادراتها، مما سيولد حالة إرباك في السوق وكمية النفط المعروضة.
السعودية بدورها التي كانت تنتج في السابق ما نسبته 9.7 مليون برميل نفط يوميًا، سترفع إنتاجها لإلى 11 مليون برميل، والتقديرات تشير إلى احتمالية أن يصل الرقم إلى 12 مليون برميل، مما يهدد بانخفاض أسعار برميل النفط الواحد إلى 20 دولارًا، في هبوط قياسي للأسعار لم تشهده أسواق النفط سابقًا.
بناءً على ذلك، وحسب وكالة بلومبيرغ الأمريكية فإن السعودية خفضت أسعار النفط الخام لديها للأسواق الخارجية إلى أدنى مستوى له منذ 20 سنة، وبالتالي سيلقي الوضع الجديد للاقتصاد السعودي بظلاله على حجم التمويل والإنفاق على الحرب في اليمن، خاصة أن الموازنة السعودية تشهد عجزًا قياسيًا كما أوردنا سابقًا، بالإضافة إلى تعليق عدد من المشاريع الكبيرة التي كانت السعودية بصدد إقامتها تماشيًا مع رؤيتها 2030.
تبدو الحكومة الشرعية هنا الحلقة الأضعف في هذه المعادلة لارتباط مركز قرارها وتبعيته للقرار السعودي
تحديات الاقتصاد السعودي وتأثيراته على الملف اليمني
بالنظر إلى مجموعة من المخاطر التي تتهدد الاقتصاد السعودي جراء انخراط نظام الحكم السعودي في عدة ملفات معقدة تخص الإقليم والعالم وعدم مقدرته على الصمود في وجه أعاصير تداعيات هذه الملفات على اقتصاده الوطن الذي يتحمل أعباءً كثيرة منها الملف اليمني.
وبالتالي فإن استمرار إنفاق السعودية على الملف اليمني سينخفض كثيرًا مقارنة بالسابق، تماشيًا مع قدرة الاقتصاد السعودي وإدارته لالتزاماته الأخرى، ولأن السعودية ترى في استمرار مشاركتها بحرب اليمن كلفة ليست هينة على اقتصادها، لا سيما مع إدراك صعوبة تحقيق أهداف التحالف المعلنة منذ بداية عاصفة الحزم، فإنها قد تلجأ إلى الاستماع إلى مقترحات للتوصل إلى حلول سياسية قد لا تكون في صالح الحكومة الشرعية، وقد تعقِد تفاهمات منفردة مع الحوثيين في الشمال والمجلس الانتقالي في الجنوب، وتثبيت الوضع الراهن مع تلقي ضمانات تحمي حدودها ومصالحها.
فالمعلومات التي تم تسريبها عن لقاءات بين مسؤولين سعوديين وقيادات لدى الحوثيين نهاية العام الماضي تتعلق بالتوصل إلى تفاهمات لوقف إطلاق النار والدخول في حوار مباشر ينهي الحرب في اليمن، أكدها تراجع عدد الغارات الجوية تلك الفترة بدرجة كبيرة ووقف تصعيد الحوثيين في جنوب المملكة، كل ذلك قبل أن ينهار، نتيجة تصعيد الحوثيين بداية هذا العام في نهم والجوف، واستئناف الطيران السعودي لغاراته.
تبدو الحكومة الشرعية هنا الحلقة الأضعف في هذه المعادلة لارتباط مركز قرارها وتبعيته للقرار السعودي، وعدم استطاعة القيادة اليمنية استعادة السيادة على قرارها، فيما يخص معركتها ضد الحوثيين شمالًا وخلافاتها مع الكيانات المتمردة جنوبًا.
وفي الوقت الذي تبدو فيه خيارات خصوم الحكومة الشرعية متعددة، فإن الحكومة تعتمد بشكل شبه كلي على السعودية وتحركاتها ودعمها وتدخلاتها في الوساطات أحيانًا حتى وهي مثقلة بعدة قضايا تخص المملكة داخليًا وخارجيًا تتعامل معها في ذات التوقيت، ومن ضمنها حالة اللااستقرار داخل الأسرة الحاكمة، وبالتالي فإن الجهد السعودي المخصص للملف اليمني تضاءل أكثر من ذي قبل، مما سيحصر الشرعية في زاوية ضيقة لا تستطيع معها التحرك بحرية كما يتحرك خصومها.
كما أن وعود الإعمار والاهتمام بالبنية التحتية للقطاعات اليمنية المختلفة كما أعلن تبينها البرنامج السعودي، قد تتلاشي، في ظل مواجهة السعودية لعدة التزامات وعدم مقدرتها على تمويل مشاريعها في اليمن، تماشيًا مع خطط التقشف التي باتت تمضي عليها بعد التدهور الأخير لأسعار النفط.
وفي سبيل ذلك، كان على الحكومة اليمنية الاستماع في وقت مبكر للدعوات بعدم رمي ثقلها السياسي والعسكري والدبلوماسي كاملًا على السعودية، واعتماد تحالفات أخرى تعمل من خلالها على توسيع خياراتها، للتعامل مع ظروف مشابهة لما تمر به اليوم.