أكثر من عام مضى على آخر لقاء جمعني وعم أحمد (70 عامًا)، تركته يعاني من أمراض الوحدة والشيخوخة، كان يسابق الزمن نحو الموت، لم تكن لديه إرادة حقيقية في التمسك بالحياة، لكن قبل يومين حين هاتفته وجدت نبرة صوت مختلفة، شعرت معها أنني اتصل بالشخص الخطأ، فالصوت يحمل رضا وطمأنينة وسعادة لم أعهدها.
وبعد حوار دام قرابة العشر دقائق، أخبرني الرجل السبعيني أنه اكتشف أخيرًا أسرة جديدة له، بداية الأمر لم أفهم ماذا يقصد، خاصة أنني أعلم أنه يعيش وحيدًا، حيث لا عائل إلا جار له يطمئن عليه بين الحين والآخر، أما أبناؤه ففي الخليج، فتوقعت أن أبناءه عادوا من الخارج، ومع إلحاح الاستفسار أشار إلى أن الفضل يرجع في ذلك لـ”الفيسبوك”.
دخل عم أحمد عالم الفيسبوك الافتراضي منذ شهرين تقريبًا، حين أخبره زميل عمل له أنه مشترك في جروب يجمع بين زملاء العمل في المؤسسة التي كان يعمل بها، قبل الخروج على المعاش، في البداية لم يتحمس العجوز لهذا المقترح، خاصة أنه يرى في مثل هذه الوسائل التكنولوجية مضيعة للوقت ومنافذ لنشر الرذيلة والفحشاء.
لكن يومًا بعد يوم حاول الرجل خوض التجربة بنفسه، فأنشأ حسابًا خاصًا له، وبدأ يقتحم هذا العالم، وبات يتعرف على أصدقائه القدامى وبعض أفراد عائلته من الفروع البعيدة في المحافظات الأخرى، ومع مرور الوقت بدأ الانخراط بشكل شعر معه بالألفة، وبات يقبل على الحياة مجددًا.
لا تكون السوشيال ميديا خطرًا على طول الخط كما صورتها العديد من التقارير والرؤى، ففي بعض الأحيان ربما تكون نافذة على الحياة لكبار السن، تلك النافذة قادرة – بحسب العديد من الشهادات – على إخراجهم من حالة العزلة إلى آفاق أخرى رحبة، تكون فيها الحياة مطمعًا بعدما كان الجميع ينتظر قطار الموت واقفًا على رصيف محطته.
حياة جديدة
“بعد 40 عامًا كاملة اكتشفت أخيرًا أصدقائي في الجامعة وبدأنا نتواصل كأن الزمن لم يمر بنا كل هذه السنين”، بهذه الكلمات استهلت الحاجة سميحة (65 عامًا) حديثها عن تجربتها مع مواقع التواصل الاجتماعي، لافتة إلى أنها تقضي ما يقرب من 10 ساعات يوميًا ما بين الفيسبوك وتويتر.
وفي حديثها لـ”نون بوست” تصف المرأة الستينية – بصوت يعلوه الحزن – كيف كانت حياتها قبل ذلك، تقول: “كنتي أقضي اليوم كله بمفردي، داخل غرفتي، حيث كان ابني مشغولًا مع زوجته وأبنائه، ما بين العمل والجلوس لمذاكرة دروس الأولاد حتى الذهاب إلى النوم”.
وتضيف “كنت أقدر مشغوليات ابني في ظل هذه الأيام الصعبة، ما أردت أن أثقل عليه بأن يهتم بي أكثر، وفي يوم من الأيام كنت أتحدث مع زوجة ابني فأشارت عليّ بقضاء الوقت على الفيسبوك ومتابعة أخبار الأصدقاء، وهنا كان السؤال: أنا مليش أصدقاء للأسف، فما كان منها إلا أن دلتني على إمكانية العثور على أصدقاء الدراسة والعمل والجيران والأهل”.
“وبالفعل بعد فترة وجيزة تعلمت كيفية الدخول والمشاركة والبحث وبعد أيام قليلة توصلت إلى زملاء الدراسة وأصدقاء العمل، ومن ذلك الحين شعرت أن الحياة بدأت تتغير شيئًا ما، فلم أعد أشعر بالوحدة ولا العزلة، خاصة أننا نتشارك معًا كل الاهتمامات تقريبًا لساعات طويلة، فجميعهم في نفس ظروفي تقريبًا”، هكذا أنهت الحاجة العجوز حديثها.
استعمال الفيسبوك وشبكات التواصل الاجتماعي يقلل خطر الإصابة بالاكتئاب والقلق لدى كبار السن، ويساعدهم على الإقبال على الحياة والتمسك بها
أما المدير السابق بالتربية والتعليم (عبد الرحمن) البالغ من العمر 68 عامًا، فيشير إلى أنه ظل لما يقرب من عامين كاملين لا يخرج من البيت بعد زواج ابنته الصغرى، حيث كان يعاني من أمراض روماتيزمية وخشونة في الركبة حالت دون تحركه، وبعد زواج ابنه وابنته تعرض لموجة اكتئاب شديدة جراء بقائه في البيت بمفرده، حيث توفت زوجته قبل عشرة أعوام تقريبًا.
ويضيف عبد الرحمن في حديثه لـ”نون بوست” أن أبناءه كانوا يزورونه مرتين في الأسبوع، حيث يعدا الطعام الذي يكفيه طيلة هذه الفترة وينظفون البيت ثم يتركونه وحيدًا كالعادة، لكنه ما إن دخل عالم الفيسبوك وتويتر حتى تغيرت حياته، فتعرف على أصدقائه في الوزارة وزملائه في العمل.
ومع مرور الوقت بدأ أصدقاؤه يقترحون عليه لقاءات تجمعهم بصورة شهرية، يجتمعون في مقر النادي النهري الخاص بالعاملين بالتربية والتعليم بشارع البحر العظيم المطل على نهر النيل، حتى بات هذا اللقاء المتنفس الوحيد له، ففيه يستعيد الماضي وأيام الشباب ويشارك زملاءه قصصه وحكاياته.
ويواصل التربوي الذي شارف على السبعين حكايته: “بدأت مشاعر الكآبة والعزلة تتقلص يومًا تلو الآخر حتى تلاشت تمامًا، شعرت أخيرًا أن للحياة طعمًا مع أصدقائي، ولم أعد أتصل بأبنائي أناشدهم الزيارة كما كان في السابق، حتى إنني أفكر الآن في الزواج من إحدى صديقات العمل، ظروفها مثل ظروفي، لكن هذا الأمر يحتاج لمزيد من الوقت للتفكير واتخاذ القرار”.
الفيسبوك يقلل الاكتئاب
في الوقت الذي أشارت فيه بعض الدراسات إلى مسؤولية مواقع التواصل الاجتماعي عن زيادة أمراض العزلة والاكتئاب لا سيما لدى الشباب وصغار السن، إلا أن الوضع يختلف بصورة كبيرة مع كبار السن، وهو ما كشفته العديد من الأبحاث الجديدة في هذا الشأن، التي تتسق بشكل كبير مع نتائج دراسات سابقة بخصوص تأثير التواصل عبر شبكات الإنترنت على الصحة العقلية.
ففي دراسة جديدة أجريت بجامعة ولاية ميتشغان في الولايات المتحدة، تبين أن 63% من مستخدمي شبكة الفيسبوك من كبار السن أقل عرضة لمشاكل الصحة النفسية، وفسّر فريق البحث هذا التأثير بأن شبكات التواصل الاجتماعي جعلت المنتمين إلى هذه الفئة العُمرية أكثر اتصالًا بالعالم والأشخاص من حولهم.
نتائج الدراسة قالت إن استعمال الفيسبوك وشبكات التواصل الاجتماعي يقلل خطر الإصابة بالاكتئاب والقلق لدى كبار السن، وتساعدهم على الإقبال على الحياة والتمسك بها، في ظل ما تفتحه أمامهم من آفاق رحبة، تساعدهم على اكتشاف أنفسهم من جديد.
ويختلف تأثير التواصل عبر شبكات الإنترنت حسب الفئة العُمرية والاجتماعية، فالمراهقون والشباب أكثر عرضة للضغوط والإصابة بالقلق نتيجة كثرة استخدام هذه الشبكات، وفقًا للتقرير الذي نشرته دورية “كومبيوتر- ميديات كوميونيكيشن”، الذي كشف أيضًا أن الأمريكيين من أصول إفريقية ومن هم أقل تعليمًا، يتعرضون لضغوط نفسية أكبر ويكونون أكثر عرضة للاكتئاب مع تزايد استخدام شبكات التواصل.
وهكذا وجدت شريحة كبيرة من كبار السن في مواقع التواصل الاجتماعي ضالتهم لهزيمة حالة العزلة التي يعانون منها في ظل الانشغال الكبير لأهليهم وذويهم، وهو الدور الذي ربما يعزز تمسكهم بالحياة ويكسر حالة الملل التي اعتادوها طيلة السنين الماضية، الأمر الذي يدفع المجتمع نحو التفكير في كيفية استغلال هذه الحالة لتعظيم الفائدة المرجوة وتقديم المحتوى البناء والمفيد للآباء والأجداد، يضفي السعادة عليهم ويعوضهم عن التقصير المجتمعي بحقهم.