في الوقت الذي تنهي به هذه الكلمات، يكون فيروس كورونا قد أوقع مئات القتلى والمصابين في صفوف البشرية، ومثلما حصل في الحربين العالميتين الأولى والثانية، يدخل العالم مجبرًا في صراع من نوع جديد من شأنه أن يكشف أفضل ما فيه وأسوأه على حد تعبير منظمة الصحة العالمية.
لكن أسوأ ما فيه فاق كثيرًا مزايا النظام الدولي الحاليّ، تبين أن العالم يعيش على فقاعة هشة، فالوباء بدأ بنسب وفيات منخفضة، لكنها وصلت إلى 4.5% لحظة كتابة المقال، والسبب أن حالات الوفاة ارتفعت في الدول ذات الأنظمة الصحية المتقدمة – يشكل ضحايا الفايروس من أوروبا والصين واليابان وسنغافورة وأمريكا وكندا 85% من مجموع الوفيات في العالم -، صحيح أن هذه الدول تتحمل النصيب الأكبر من الإصابات، لكن الأزمة تعكس خللًا واضحًا في أساس نظامها الصحي من حيث القدرة على استيعاب عدد كبير من المرضى مقارنة بجودة الخدمة العالية التي تفاخرت بها تلك الدول.
فصورة مثل هذه في مستشفى جبل سينار الغربي بنيويورك، تحكي كثيرًا عن الأزمة الحاليّة مع ممرضات يرتدين أكياس النفايات بسبب قلة التجهيزات الطبية!
فتش عن كينز.. من جديد
في كتابه “الطريق إلى العبودية”، الذي نشر عام 1944، قال فريدريش حايك إن التدخل الحكومي من شأنه أن يؤدي حتمًا إلى سيطرة شمولية عن طريق سحق الفردية وأن على الحكومة إحالة الأمر لأصحاب رؤوس الأموال وتقليل الضرائب عنهم لأن تحقيق الفائدة لمصلحتهم يعني ببساطة على الجميع باعتبارهم القوة الحقيقية التي تطور الاقتصاد وليس العكس.
منذ فترة الستينيات صعودًا، سيطر التيار النيوليبرالي على الاقتصاد بشكل مهول، ووصلت الخصخصة لكل القطاعات حتى تلك العسكرية منها، وكانت الفكرة تكمن بأن رفاهية الأفراد تكمن في تحرير الاقتصاد من أي تدخل حكومي، والعودة بالنفع على أصحاب رؤوس الأموال، هو في حقيقته عودة بالنفع على العاملين في تلك الشركات، وأصبحت الدولة على حد تعبير الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان المشكلة وليست الحل، على الأقل حتى ما قبل عصر كورونا!
حين بدأ الفيروس هجومه، كان لضرباته على الاقتصاد وقع القنبلة النووية التي قلبت الموازين رأسًا على عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، فمنطق أن الدولة عقبة وليست حلًا تلاشى تمامًا مع الشلل الذي أصاب الدول الصناعية وعجز الشركات الكبرى عن النهوض بالاقتصاد حتى في أشد الدول تعصبًا للنيوليبرالية: الولايات المتحدة! فمنطق عمل تلك الشركات هو الربح، والربح لن يتحقق بينما يقبع معظم المستهلكين والعمال في المنازل، وهكذا هرعت الشركات إلى الحكومات طلبًا للمساعدة.
عندما ضربت الأزمة الاقتصادية العالمية الدول الصناعية عامي 1929 و2008، كان طريق الخروج من الأزمة كما طرحه بالضبط جون مينار كينز، تدخلت الدول وضخت الأموال لتنشيط الاقتصاد، ودفع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت وقتها مثلًا 4 مليارات دولار لبناء برنامج New Deal الشهير من أجل تعزيز النمو وزيادة الطلب وتدويرعجلة الإنتاج، لكن الأمر مختلف هذه المرة، فقد قررت الدول الـ20 الكبرى ضح 5 تريليونات دولار ليس لتنشيط الاقتصاد وإنما لمنع العالم من الذهاب نحو الفوضى!
هذه الأموال ستُدفع على شكل مرتبات وتخفيض في الضرائب وسداد ديون وقروض دون فائدة وموازنات تشغيلة، بمعنى آخر، لن يتحرك الاقتصاد قيد أنمله، كل ما في الأمر، ستبقى الأمور على ما كانت عليه!
الميل نحو الحرية والانفتاح، كان الرسالة الأولى التي نادت بها تلك الملايين التي شهدت الحرب العالمية الثانية
هذا التحول الراديكالي في سيطرة الحكومة على الاقتصاد قد لا يقتصر على عملية تدوير الأموال والأعمال، إنما قد يمتد إلى علاقة الشعوب بالحكومات.
إن صعود الحريات المدنية والليبرالية الاقتصادية كان متلازمًا، ويعود جزء كبير من جوهر الحقوق الدستورية إلى صراع مرير خاضته أوروبا مع الكنيسة، وإلى تحررها اقتصاديًا من سيطرة الحكومات عبر الرأسمالية وعودة الهيمنة البيروقراطية قد يطيح بالحريات أو يصيبها بشكل كبير، خاصة مع وجود ترابط بين انحسار الفيروس وتشديد القبضة الحكومية.
في ورقة أعدها مجموعة من الباحثين في جامعة ميرلاند ونشرتها مجلة “science”، صنفت البروفيسور ميشيل جلفاند مؤلفة كتاب “صانعو القوانين ومحطموها”، الدول من حيث أولوية إنفاذ القوانين على الحرية إلى قسمين: “صارمة” و”متساهلة”: “المجتمعات الصارمة مثل الصين وسنغافورة والنمسا لديها العديد من القواعد والعقوبات التي تحكم السلوك الاجتماعي ويخضع المواطنون في تلك الأماكن إلى درجة عالية من المراقبة التي تهدف إلى تعزيز السلوك الحسن.
بينما تشهد الدول المتساهلة مثل الولايات المتحدة وإيطاليا والبرازيل، قواعد أضعف وأكثر تسامحًا، وهذا لم يات من فراغ، فهذه الاختلافات في الصرامة والتساهل لم تكن عشوائية: “البلدان التي لديها أقوى القوانين والعقوبات الأكثر صرامة هي تلك التي شهدت تاريخًا من المجاعة والحروب والكوارث الطبيعية، وبالطبع، تفشي الأمراض.
لقد تعلمت هذه الدول المعرضة للكوارث بالطريقة الصعبة على مر القرون، القواعد الصارمة والنظام لإنقاذ الأرواح، وفي الوقت نفسه، فإن الثقافات التي واجهت القليل من التهديدات – مثل الولايات المتحدة – لديها رفاهية البقاء بطريقة متساهلة، فلا عجب أن المجتمعات الصارمة مثل سنغافورة وهونغ كونغ أظهرت استجابة أكثر فاعلية لفيروس كورونا.
إن الميل نحو الحرية والانفتاح، كان الرسالة الأولى التي نادت بها تلك الملايين التي شهدت الحرب العالمية الثانية وهي تخرج من أتون حرب طاحنة تسببت بها الحكومات الحديدية في ألمانيا واليابان وإيطاليا، واليوم مع اشتداد الأزمة وتأثيرها العميق، قد يفضي الوباء إلى نظام عالمي جديد تعود فيه الدولة “الحاجز الوحيد دون الفوضى الآن” لتسترجع قبضتها على المجتمعات، النظام الذي رجح الباحثون أن تجد الصين فيه مقعدًا أكبر في قيادة العالم.
عالم ما بعد كورونا.. هل لدى الصين ما تقدمه؟
في المقال الذي نشرته مجلة فورين يوليسي قبل أيام، رجح مجموعة من الدبلوماسيين والأكاديميين أن يكون للصين دور الريادة في قيادة العالم أو على الأقل مشاركة الولايات المتحدة دورها القيادي فيه. يقول وزير الخارجية السنغافوري السابق، كيشور محبوباني: “الشعب الأمريكي فقد إيمانه في العولمة والتجارة الدولية مع أو دون الرئيس ترامب، بينما الشعب الصيني لم يفعل. اندماج الصين مع العالم في أواخر القرن الماضي أدى إلى إعطاء الثقة للصينيين أنه يمكنهم المنافسة في أي مكان، وبالتالي أرى أن الصين انتصرت”.
لكن القول بريادة الصين للعالم قد يكون مبالغًا فيه أيضًا ويحمل بعض التسرع، لأنه يصطدم بعدة حقائق:
1. الصين جزء من المشكلة بالأساس! لولا تأخرها في الاعتراف بوجود المرض لما انتشر الفيروس بهذه السرعة المخيفة مع فترة الحضانة التي قد لا تظهر معها الأعراض.
2. تغلب الصين على المرض جاء بتكلفة باهظة في الأرواح والأموال، وعلاوة على إمكانية عودة المرض لم يكن القضاء عليه بسبب إنجاز طبي قدر ما كان باستخدام القوة لمنع انتشار العدوى، أمر يستطيع شخص مثل عبد الفتاح السيسي فعله بكفاءة أكبر حتى!
3. إن المساعدات التي قدمتها الصين والفرق الاستشارية التي أرسلتها لبعض الدول “إيطاليا، صربيا”، لا تعدو كونها مساعدات كمية وليست نوعية (أجهزة تنفس صناعي، أقنعة حماية، مواد معقمة، إلخ)، اكتسبت أهميتها من الوضع الطارئ في عدم استعداد تلك الدول لهذا الحجم من الإصابات، والمساعدات بأي حال لم تكن من النوع الذي يقلب الموازين رأسًا على عقب كالعقارات الطبية لو أن الصين طورت جزءًا منها.
4. حتى مع افتراض أنها خرجت منتصرة في هذه الحرب، فهل يكفيها هذا لقيادة العالم؟
إذ ليس لديها ما تقدمه من حلول إستراتيجية للدول الأوروبية وأمريكا والعالم الثالث، فالصين دولة ناجحة اقتصاديًا، لكن الغرب سبقها في هذا المضمار بعقود، أما نظامها السياسي فهو قمعي مبني على تدخل الدولة في أبسط تفاصيل الحياة الفردية وتقديم مصلحة المجموع على الفرد إلى حد سحقه، أمر ناضلت أوروبا قرونًا طويلة للتخلص منه، ومهما كان عمق تأثير الأزمة فلا يمكن تخيل القارة العجوز متخلية عن حريتها للعودة إلى النازية والفاشية!
لا يزال مبكرًا الحديث عن شكل العالم الجديد بعد انقضاء الفيروس، فتداعيات انتشاره لم تكشف تفاصيلها بعد
إن تجربة الاتحاد السوفيتي الذي خرج كقوة عظمى عقب الحرب العالمية الثانية، تحاكي إلى حد بعيد تجربة خروج الصين منتصرة في هذه المواجهة، فالاتحاد السوفيتي ورغم أنه يحمل أيديولوجية اخترقت الدولة الغربية علاوة على الدول النامية، لم ينجح في مجاراة النموذج الذي كانت تقدمه أوروبا وأمريكا، إذ لم يمتلك ما يقدمه للعالم غير التستر خلف عبارات الديمقراطية والتقدم في حين كان القمع وسيلته الوحيدة لحل أي مشكلة، وحتى مع مواقفه المساندة لحركات التحرر وتقديمه مساعدات مالية وعسكرية ضخمة للدول حديثة الاستقلال، كانت تلك الدول ترى النموذج الغربي هو الأقرب لها اجتماعيًا وثقافيًا.
ومهما يكن من أمر، لا يزال مبكرًا الحديث عن شكل العالم الجديد بعد انقضاء الفيروس، فتداعيات انتشاره لم تكشف تفاصيلها بعد، وخروج الأمور عن السيطرة – وعن الحسابات والقياس – وارد أيضًا، فيكفي معرفة أن مبيعات البنادق الهجومية تضاعفت بنسبة 68% في الولايات المتحدة ومعها نسبة الأعتدة بـ179% لتخمين أي احتمالات تنتظر البشرية في نضالها ضد فيروس يبدو مؤكدًا أن العالم قبله لن يكون كما بعده!