تواصل السلطات السعودية نهجها في التنكيل بكل من يغرد خارج السرب حتى إن كان على سبيل الخطأ أو دون قصد، وسواء تراجع عما غرد به أم لم يتراجع، فلن يغير ذلك من الأمر شيئًا، إذ يبدو أن صدر حكام المملكة بات أضيق من أن يتحمل تغريدة حتى إن لم تحمل بين ثناياها أي إشارة سلبية لسياسات الملك وولي عهده.
بالأمس.. أعفت السلطات بالمملكة إمام مسجد قباء في المدينة المنورة، الشيخ صالح المغامسي من منصبه، على خلفية تغريدة له بموقع “تويتر” طالب فيها بـ”العفو عن المعتقلين” وفق ما ذكر حساب “معتقلي الرأي” المهتم بالحالة الحقوقية في السعودية، على حسابه الرسمي على موقع تويتر.
ورغم حذف المغامسي التغريدة بعدها بساعات قليلة والاعتذار عنها بتغريدة أخرى، فإن ذلك لم يمنع السلطات من إعفائه من منصبه كإمام وخطيب لمسجد قباء، أحد أهم المساجد الدينية الإسلامية، وتعيين الشيخ سلمان الرحيلي بديلًا عنه، وذلك رغم ما عُرف عنه كونه أحد أبرز مؤيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
يأتي إعفاء الداعية المقرب من ابن سلمان من منصبه في سياق حملة اعتقال جديدة شنتها السلطات السعودية رغم انتشار فيروس كورونا الجديد في البلاد، حيث كشف الحساب الحقوقي اعتقال الأمن ناشطًا دعويًا يدعى خالد الشهري، وأكاديميًا في جامعة القصيم هو الدكتور إبراهيم بن عبد الله الدويش، وآخرين على خلفية قولهم “كورونا عقاب من الله”.
? عاجل
السلطات تقوم بإعفاء صالح المغامسي من إمامة مسجد قباء، على خلفية تغريدة طالب فيها بالعفو عن المعتقلين.
وقد قام المغامسي بحذف التغريدة ونشر تغريدة فيها “اعتذار عما نشر” و”تخوين” لمن وصفهم بـ “سيئوا النية”.
ننوه أنه تم تعيين سليمان الرحيلي بدلًا من المغامسي. pic.twitter.com/Q0b1RaDC0G
— معتقلي الرأي (@m3takl) March 28, 2020
اعتذار لم يشفع له
على هامش عقد القمة الافتراضية لمجموعة العشرين بالمملكة، الخميس الماضي، غرد المغامسي على حسابه على تويتر مساء الجمعة قائلًا: “نهنئ في هذا اليوم المبارك خادم الحرمين الشريفين، ونهنئ أنفسنا بنجاح القمة الافتراضية لمجموعة العشرين، وأضيف أن من أسباب رفع البلاء وكشف الوباء، ثلاثة: الالتجاء إلى الله بالدعاء والاستغفار، والإحسان إلى الضعفاء والمنقطعين، والعفو – ما أمكن – عن المخطئين من المسجونين”.
لكن سرعان ما حذفها بعد حالة الجدل التي أثارتها تلك التغريدة، لينشر بعدها اعتذارًا رسميًا جاء فيه: “بعد تأمل وجدت أنني لم أوفق في تغريدتي والتي قصدتُ بها العفو عن مساجين الحق العام في المخالفات البسيطة، كما جرت عليه عادة القيادة المباركة في رمضان”.
وأضاف “أمّا أصحاب المخالفات الجسيمة، فمردّه ما يقرره الشرع بحقهم، وعن سيئ النية الذي حاول استغلالها ضد وطني فأقول: لن يزيدكم خبثكم إلا خسارا”، ردًا منه على الانتقادات التي وجهت له بعد تغريدته التي قوبلت بهجوم كاسح عليه وسط اتهامات بتعريض مصلحة المملكة للخطر وموالاة أعدائها.
بعد تأمل وجدت أنني لم أوفق في تغريدتي والتي قصدتُ بها العفو عن مساجين الحق العام في المخالفات البسيطة، كما جرت عليه عادة القيادة المباركة في رمضان، أمّا أصحاب المخالفات الجسيمة فمردّه لمايقرره الشرع بحقهم، وعن سييء النية الذي حاول استغلالها ضد وطني فأقول:لن يزيدكم خبثكم إلا خسارا
— الشيخ صالح المغامسي (@SalehAlmoghamsy) March 28, 2020
لماذا هذا الهجوم؟
جاءت تغريدة المغامسي التي طالب فيها بالإفراج عن المسجونين في الوقت الذي تتصاعد فيه مطالب الناشطين الحقوقيين السعوديين، داخل المملكة وخارجها، بالإفراج عن معتقلي الرأي، خصوصًا الذين لم تتم محاكمتهم بعد، خوفًا من تفشي فيروس كورونا داخل السجون، أسوة بما فعلته بعض الحكومات العربية في المنطقة على رأسهم السلطات البحرينية، والأردنية وغيرها قبل أسابيع.
هذا التزامن أثار استياء البعض ممن فسروا تغريدة الداعية السعودي بأنها تأتي في إطار حملة ممنهجة للإساءة للمملكة وقيادتها واتهامها بالتعنت في مواجهة المسجونين لا سيما في قضايا الرأي، إلا أن ذلك لم يكن السبب الرئيسي الذي جعل من المغامسي – وهو الشيخ المحبوب من شريحة كبيرة من السعوديين – هدفًا لسهام النقد والتوبيخ.
غير أن ناشطين ألمحوا إلى أن سر الهجوم على تغريدة المغامسي هو ربطها بمبادرة الحوثي المتعلقة بالإفراج عن معتقلي حماس مقابل الإفراج عن الجنود الأسرى لدى قواته في اليمن، وربطوا تغريدته بعمالته لحركة حماس وجماعة الحوثي، وهي النقطة التي على إثرها تم الإطاحة به من منصبه.
وكان عبد الملك الحوثي، زعيم جماعة “أنصار الله”، قد أطلق قبل يومين مبادرة لإطلاق سراح خمسة أسرى سعوديين، مقابل إفراج المملكة عن معتقلين فلسطينيين لديها يتبعون لحركة “حماس”، وبينما لم يصدر أي رد فعل من الرياض، أعربت حركة “حماس” عن شكرها للمبادرة، وجددت دعوتها للرياض للإفراج عن الفلسطينيين المعتقلين لديها.
تأييد مطلق لـ”ابن سلمان”
كان المغامسي مثله مثل العديد من دعاة المملكة من أشد الداعمين لتوجهات ولي العهد، فلطالما أغدق عليه بالمديح والثناء، وألصق به صفات لا تتوافر إلا في الصحابة وأولياء الله الصالحين، وهي المواقف التي أثارت الجدل رغم أنها قربته خطوات كثيرة نحو الرضا السامي لولي العهد وحاشيته.
مؤخرًا تماشى الداعية المعزول مع توجهات ابن سلمان فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، في إطار الحملة الممنهجة التي قادها دعاة المملكة (على رأسهم عائض القرني) ضد بعض الدول التي تشهد علاقاتها بالرياض توترًا في الآونة الأخيرة وعلى رأسها تركيا وقطر وإيران.
ففي تصريحات له في 14 من مايو 2019 شدد الإمام السابق لمسجد قباء على أنه “واجب ديني على كل سعودي أن يذود عن بلاده أمام الأعداء الأربع: إيران وتركيا وقطر وجماعة الإخوان”، مشيرًا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أقواله وأفعاله “عدو للمملكة”.
المغامسي في برنامج “منابر النور” الذي تعرضه قناة “إم بي سي” السعودية، أضاف عن أردوغان: “هو الذي جلعنا نحكم عليه بذلك، هو الذي يُعرض بولاة أمرنا وببلدنا وقادتنا، ويحاول أن يسلب هيبة الإسلام منا”، لافتًا إلى أنه “آوى قنوات وأفرادًا يعلم جيدًا أنهم محاربون للسعودية، وأنهم لا يريدون بها خيرًا، وجعل بلاده وكرًا من خلالها يبثون عبرها السموم”.
التطاول التركي على السعودية
المغامسي: اوردوغان غريب ويحلم وهذه هي قصته في كشف الغطاء@SalehAlmoghamsy@SultanQhtani#منابر_النور#رمضان_يجمعنا pic.twitter.com/mzUwLKRD8G
— MBC1 (@mbc1) May 14, 2019
كما هاجم قطر في أكثر من مناسبة، قائلًا: “إننا على يقين بأن قطر ذات يوم ستنجب رجلًا سيُخرج الأتراك من أراضيها”، مضيفًا: “القطريون هم أبناء عمومتنا، وجيران لنا، لكنهم استقطبوا الإخوان المسلمين، وهم رابع الخصوم والأعداء للسعودية”، واتهم القطريون بتمويل جماعة الإخوان المسلمين التي اعتبرها أشد خطرًا على السعودية من أي فصيل آخر.
كما أفاض الكيل في مدح ابن سلمان، ففي الوقت الذي كان يتهم فيه بالتورط في قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في مقر قنصلية بلاده في إسطنبول في أكتوبر 2017، دافع المغامسي عن ولي عهده قائلًا: “ثمة شيء بين الأمير محمد بن سلمان، وبين الله فإن الحفظ يكون بأسباب أرضية وأسباب سماوية” على حد تعبيره.
وأضاف: “نجاه الله عز وجل بأمرين، الأمر الأول هو رباطة جأشه وهذا كان ظاهرًا جليًا لأنه يعرف من نفسه أنه بريء مما قيل فيه براءة الشمس من اللمس، وكانت القوى تحرص على ألا يكون له ظهور وأن ينيب أحدًا في قمة العشرين التي تجمع قادة العالم فإذا بالأمير يذهب بنفسه ولم يكتف بهذا، ولكن قبل أن يذهب إلى قمة العشرين مر في جولة على الدول العربية”.
وأشار المغامسي إلى أن ابن سلمان كان يرسل له “الأموال من أجل توزيعها على الفقراء والمساكين” متسائلًا: “أين سيصل استئجار شخص لمهاجمة الأمير، مع امرأة تدعو للأمير محمد بن سلمان، في الثلث الأخير من الليل، في مسجد رسول الله” على حد قوله، وقال: “كل السهام التي وجهت للأمير، تكسرت بفضل الله”، وفق وصفه.
وفي الوقت الذي أثار صعود ابن سلمان سطح الكعبة وطوافه بالحرم دون ملابس إحرام، كان المغامسي من أشد المدافعين عنه أمام الانتقادات التي وجهت لنجل العاهل السعودي، حيث قال: “جمهور العلماء أجاز الصعود فوق سطح الكعبة”، مستشهدًا بأمر الرسول – صلى الله عليه السلام – بلال بن رباح بالصعود فوقها للأذان، بعد فتح مكة.
وفي إطار التبرير تابع: “الصعود إلى سطح الكعبة يتيح لولي العهد رؤية أكثر وضوحًا بنفسه، لمعرفة ما يحتاجه الحرم من توسعة وإصلاحات جديدة، وهنا المصلحة قائمة”، الأمر الذي جعله مثار انتقاد الكثير من جمهوره الذي وصفه بأنه يطوع الدين ويوظفه لأغراض سياسية.
ما تعليق الشيخ صالح المغامسي على صعود الأمير محمد بن سلمان على سطح الكعبة؟#الأبواب_المتفرقة@alabwab@SalehAlmoghamsy@SultanQhtani pic.twitter.com/8fTb3kQnwR
— MBC1 (@mbc1) February 16, 2019
فتاوى مثيرة للجدل
عُرف عن خطيب مسجد قباء المعزول فتاواه المثيرة للجدل خلال السنوات الأخيرة، لعل على رأسها تلك المتعلقة بتحديد الذبيح من أبناء نبي الله إبراهيم: هل هو إسحاق أم إسماعيل (عليهما السلام)؟ تلك الفتوى التي أثارت جدلًا واسعًا في المجتمع السعودي، وأصابت الكثيرين بالصدمة.
فخلال محاضرة في جامعة الأمير مقرن بن عبد العزيز بالمدينة المنورة، قال الداعية: “الذبيح هو إسحاق عليه السلام، وليس إسماعيل”، لافتًا إلى أنه “لم يقل هذا القول إلا بعد أن بحث 16 عامًا، ليعلن رأيه للملأ”، مخالفًا بذلك ما أجمع عليه علماء المسلمين ومذاهبهم الفقهية، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، والمتمثل في أن الذبيح هو إسماعيل.
ومن الفتاوى المثيرة للجدل كذلك، إباحته الزواج المؤقت وهو ما يسمى زواج المتعة لفترة محددة، ورغم أنها تختلف عن الشيعة في أنه لا يجوز تحديد المدة مسبقًا، بل يطلق متى شاء ويرميها بعد المتعة منها، إلا أنها كانت صادمة للبعض، خاصة أنها على عكس النهج المتعارف عليه من دعاة السلف بالمملكة، وقد جاء ذلك خلال لقاء متلفز له متحدثًا عن أحكام الزواج في الإسلام، عندما عرَّج على الفتاوى القديمة والحديث عن الزواج المؤقت.
ما هو حكم الزواج بنية الطلاق؟.. وما هي أوجه الاختلاف بين العلماء؟#mbc1#الأبواب_المتفرقة pic.twitter.com/k2RkqzNNze
— الأبواب المتفرقة (@alabwab) December 14, 2019
كذلك فتواه المتعلقة بعدم استحباب تشغيل القرآن الكريم في البيوت طوال اليوم، بزعم أن “الناس يكونون مشغولين عنه في بعض الأحيان كفترة الغداء أو الجلوس العائلي” وهو ما يفقد القرآن هيبته وقيمته على حد قوله، فيما انتقد مغردون بشدة تلك الفتوى كونها غير واقعية، فلا يوجد منزل يشغل القرآن 24 ساعة، إلا أن حديثه في هذه المسألة قد يفتح بابًا لعدم تشغيل القرآن بالبيوت، وفق قولهم.
رأي الشيخ صالح المغامسي في تشغيل القرآن داخل البيت باستمرار #MBC1#الأبواب_المتفرقة pic.twitter.com/SV9e2V83M0
— الأبواب المتفرقة (@alabwab) October 5, 2019
وهكذا ورغم الجهد الذي بذله المغامسي لإرضاء ولي عهده والتقرب إليه، وإن كان عبر بوابة تطويع الدين لأغراض سياسية، فإن ذلك لم يشفع له، فمع أول خطأ غير مقصود، رغم الاعتذار عنه، تمت الإطاحة به، ليواصل ابن سلمان طريقه نحو تحقيق حلمه في اعتلاء كرسي العرش، ولو كان ذلك على جثث وأشلاء من يقف في طريقه، وإن كان بعضهم من المؤيدين له.