تكتسب المجتمعات صورها وطبيعتها بفعل عوامل وأحداث تسلسلت وشكلت ما هي عليه الآن، وهذا ينطبق تمامًا على المجتمع التركي، فالكثير من الناس يجدون صعوبة في فهم طبيعة هذا المجتمع، فيطلقون عليه أحكامهم التي قد تكون غير منصفة، بسبب عدم الفهم الأدق لتلك العوامل والتقلبات التي مر بها الوسط التركي خلال القرن المنصرم فقط.
لم تكن المئة عام الماضية بالعادية أبدًا على المجتمع التركي، فقد كان تحت حكم سلطنة عثمانية إسلامية مستمرة لعقود، تسيطر على مناطق واسعة من هذا العالم، ودخل حرب عالمية ترتب عليها أمور كثيرة، وتحول بعدها لمجتمع علماني منعزل عما حوله، ليعود في صدارة الدول الإسلامية برؤية العدالة والتنمية المعاصرة، منفتحًا على كل العالم.
المجتمع التركي في أثناء حكم الخلافة العثمانية
ظلت تركيا ما يقارب الـ600 عام، تحت حكم الخلافة العثمانية الإسلامية، وبطبيعة الحال كانت إسطنبول مركز وعاصمة الخلافة، ويخرج منها العلماء والمفكرون المسلمون، وبقيت لعقود طويلة البوصلة التي يتوجه إليها الجميع، حتى غير المسلمين.
يؤكد الكاتب والباحث الليبي في التاريخ الإسلامي فرج كُندي في دراسته “النظام الاجتماعي في الدولة العثمانية”، حقيقة أن حركة الفتح العثمانية أثرت في التركيبة السكانية من حيث العدد والتنوع العرقي واللغوي والثقافي والديني، لذلك كان التقبل أساس المجتمع التركي الإسلامي.
وفي كتابه “مسيرة الحضارة الإسلامية التركية في الأناضول بين الماضي والحاضر”، يقول الدكتور التركي حر محمود يوجر إن تجربة الحضارة العثمانية الإسلامية نجحت لمدة خمسمئة عام في جعل البلقان والقفقاس والشرق الأوسط بلادًا للسلم والأمن ومركزًا للحضارة الحقيقية ومكانًا تؤدى فيه الحقوق ولا يُظلم فيه أحد.
فالمجتمع التركي كان امتدادًا للمجتمع الإسلامي الذي ورثوه عن من سبقهم، وكان حاضنًا لبلاد الشرق العربي، ليؤثر ويتأثر المجتمع التركي بالعربي، ويصبحان في أعلى درجات الاندماج، ولكن في نهاية الحكم العثماني بدأت التوترات تدخل المجتمع التركي والتدخلات الأجنبية وتأجيج المشاكل العرقية لتفكيك هذا المجتمع وضرب عمقه الإسلامي، ما أحدث اضطربات داخله.
المجتمع التركي بعد الحرب العالمية الأولى
دخلت الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى مع دول المحور وخسرت هذه الحرب، وترتب عليها اتفاقات أنهكت الدولة العثمانية كمعاهدة سيفر التي تضمنت التخلي عن جميع الأراضي العثمانية التي يقطنها غير الناطقين باللغة التركية، ووصفها المؤرخون بأنها المسمار الأخير في نعش تفكك وانهيار السلطنة.
أثارت تلك المعاهدة مشاكل جمة في المجتمع التركي، حيث تسببت بانفصال الحركة التركية الوطنية بقيادة كمال أتاتورك عن الباب العالي في إسطنبول، وأقامت برلمانًا في أنقرة عام 1920، وانقسم الشعب بين أنقرة وإسطنبول مع ما تبقى من الدولة العثمانية.
تلت سيفر معاهدة لوزان التاريخية عام 1923 في سويسرا، التي على إثرها تم تسوية وضع الأناضول وتراقيا الشرقية (القسم الأوروبي من تركيا حاليًّا) في الدولة العثمانية، وذلك بإبطال معاهدة سيفر، كنتيجة لحرب الاستقلال التركية بين قوات حلفاء الحرب العالمية الأولى والجمعية الوطنية العليا في تركيا بقيادة أتاتورك، لينتج عنها اعتراف دولي بجمهورية تركيا التي ورثت محل الإمبراطورية العثمانية.
عهد أتاتورك الجديد
شهد المجتمع التركي في عهد أتاتورك، تغيرات جوهرية قلبت معاييره في جميع المستويات، فبعد تأسيس الجمهورية التركية الحديثة عام 1923، انتقلت البلاد من دولة ذات طابع إسلامي يقوم على الخلافة العثمانية إلى دولة علمانية جمهورية.
وعن هذا الأمر، يقول الباحث العراقي في الشأن التركي أحمد حسن علي، إن هذا التحول جاء بشكل قسري، حيث دخلت الجمهورية في خلاف حاد مع فئة كبيرة من المجتمع التركي وحاولت إرغامهم على التخلي عن التقاليد الإسلامية أو العادات المحافظة، ولكنها لم تنجح.
يوضح علي في دراسته أن الإصلاحات التي أجراها أتاتورك، أنتجت نظامًا جديدًا للحياة على أساس النمط الغربي، وصارت تركيا من حينها وصاعدًا، دولة علمانية تمامًا، كما أن سياساته لإنهاء الدور السياسي للإسلام، كانت محاولة لإلغاء الإسلام في كثير من جوانب الحياة الاجتماعية أيضًا.
جاء النظام الجديد بسلسلة من الإجراءات لتحويل المجتمع المسلم إلى علماني، كحظر الأذان والسفر للحج لسنوات طويلة وفرض اللباس الغربي ومنع لبس القبعة العثمانية ومنع التعليم الديني، وانقسم المجتمع التركي هنا إلى قسمين: قسم تناغم مع الأفكار الجديدة وإلغاء المظاهر الإسلامية، وقسم لم يتناغم أبدًا معها.
يقول يوجر عن هذا القسم من المجتمع، إنهم تم إجبارهم على المبادئ العلمانية بقساوة، ولكنهم انتهجوا أسلوب المقاومة والتغيير الناعم، فمثلًا كان بعض العلماء يدرسون الأطفال القرآن في الجبال والغابات، ورغم إغلاق الزوايا، فإن المنتسبين للطرق استمروا في نشاطاتهم الدينية بشكل منفرد، وأعطوا دروسًا دينية في المساجد بأوقات الصلاة، وفي الأسواق وأماكن العمل.
أدى هذا الإصرار إلى استمرار احترام الفضائل الدينية بين الناس – خصوصًا – في الأرياف، لكن مع تجنب الصدام المباشر مع مؤسسات الدولة العلمانية، واستمروا في ممارسة التقاليد الإسلامية وإنشاء المؤسسات الدينية الخاصة بهم سرًا.
لا شك أن هذا الانقسام في المجتمع التركي، ولد حالة من غياب الهوية عند قسم منه، فمنذ ذلك الوقت، حتى الربع الأخير من القرن الماضي، كانت الدولة العلمانية تسيطر على كل البلاد، وحدثت الصدامات بين المجتمع المتدين والآخر العلماني، ونتج عنها أزمة الشرق المحافظ والغرب المتطلع لانفتاح أوروبا، وأصبح الأتراك في حالة من العزلة الطويلة عن العالم، المصاحبة لانقلابات متعددة.
عودة الإسلام بقوة.. لكن برؤية معاصرة
في تسعينيات القرن الماضي، عادت بعض مظاهر الإسلام في المجتمع التركي، بوصول أحزاب جديدة تمثل أصوات المجتمع الإسلامي والمحافظ الذي يبحث عن هويته الدينية، ولكنها لم تكن قادرة على خلق تغييرات جوهرية في المجتمع والاقتصاد، بسبب عوامل عديدة.
لكن في عام 2002، فاز حزب العدالة والتنمية، صاحب الرؤية الدينية والسياسية المعاصرة، بالانتخابات البرلمانية وكسب ثقة غالبية المجتمع التركي الذي أراد أن يسترجع هويته الدينية الشرقية، بعد عقود من العلمانية والنزعة العسكرية والقومية، وجاء برؤية واضحة متصالحة مع الهوية الإسلامية.
يؤكد أحمد حسن علي في بحثه أن الحزب بدأ في إجراء إصلاحات هيكلية، مثل المزيد من الديمقراطية وتعزيز الرقابة المدنية على قوات الأمن وإعادة النظر في النموذج الأمني لمجتمع التركي وتحسين حالة حقوق الإنسان.
وبطبيعة الحال، فإن الاقتصاد أحد أهم عوامل التأثير في أي مجتمع، حقق الحزب منذ عام 2002-2007، نجاحًا كبيرًا في النهوض بالاقتصاد التركي، عن طريق سلسلة من الإصلاحات نحو الديمقراطية الليبرالية، كمبادرات السلام التي أطلقها تجاه الأكراد ومفاوضات عضوية الاتحاد الأوروبي، لينظر العالم إلى المجتمع التركي بقيادته، كنموذج طيب عن العالم الإسلامي.
ومضى أردوغان في رؤيته، إلى تعزيز الممارسات الإسلامية في الحياة اليومية تدريجيًا، بالتوازي مع دمج المجتمع بثقافات الشعوب الأخرى، بعد سنوات طويلة من العزلة وسياسة الانغلاق، فعمل على توقيع الاتفاقيات التجارية والثقافية والاجتماعية الانفتاحية متعددة الاتجاهات مع جميع الدول المجاورة والدول غير المجاورة، حتى أصبحت تركيا من أهم الدول السياحية والاقتصادية على مستوى العالم، فضلًا عن أنها أصبحت لاعبًا محوريًا في سياسات المنطقة.
وهنا يمكننا القول، إن المجتمع التركي لم يكن معتادًا على مخالطة غيره، فلم يشهد حركة السياحة قبل وصول العدالة والتنمية بهذا الشكل، ولم يكن مسموحًا للأتراك بتعلم واستخدام لغات غير اللغة التركية، لذلك فإن أمر تعاملهم مع الأجانب ليس بالأمر السهل عليهم.
اليوم، على الرغم من التأثير القوي الذي جاء بفعل رؤية أردوغان الإسلامية الإصلاحية، من الممكن ملاحظة حالة تيه الهوية عند بعض الأتراك، فهل هم مع الشرق المحافظ تمامًا، أم مع الغرب المنفتح؟ وبكل بساطة تولد هذا الشعور عندهم، بفعل كثافة الأحداث والتغييرات التي شهدها هذا المجتمع على مدار مئة عام فقط!