“لاقينا في الفترة اللي فاتت إن الأفراد بيسحبوا مبالغ من البنوك وهما في غير احتياج ليها.. استخدامات الأفراد من النقد المصري تضاعفت في الـ3 أسابيع اللي فاتوا من غير احتياج.. سحبوا 30 مليار جنيه في 21 يومًا.. إحنا عايزين انضباط ولازم نفكر في الآخرين”، تصريح صادم لمحافظ البنك المركزي المصري، طارق عامر، أثار موجة من الجدل داخل الشارع المصري.
ترجع حالة الصدمة من هذا التصريح لتزامنها مع قرار البنك المركزي المفاجئ بفرض حد أقصى لسحب الأفراد من حسابهم في البنوك المصرية يبلغ 10 آلاف جنيه، و50 ألفًا للشركات في اليوم الواحد، وحد يومي لعمليات الإيداع والسحب النقدي من ماكينات الصراف الآلي بواقع 5 آلاف جنيه مصري.
المركزي برر هذا القرار بأنه يأتي بهدف ضمان الحماية وتجنب التزاحم والتجمعات خاصة في فترات صرف الرواتب والمعاشات، والتزامًا بتعليمات الصحة والوقاية والمسافات الآمنة، وما أقرته منظمة الصحة العالمية بشأن الوقاية من فيروس كورونا الجديد، وفي ضوء رصد البنك ومتابعته اليومية لحركة التعاملات مع البنوك.
انتقادات لاذعة قوبل بها القرار، لا سيما في هذا التوقيت الحساس، الأمر الذي سينجم عنه المزيد من البلبلة والاضطراب في حركة السوق، فضلًا عما يتضمنه من تعزيز الضغوط على المصريين، ويصعد حجم القلق لديهم في وقت تسعى فيه كل الدول لطمأنة شعوبها بحزمة إجراءات اقتصادية واجتماعية تحاول التقليل من آثار تداعيات تفشي الوباء قدر الإمكان.
التوقيت يثير القلق
خبراء اقتصاديون أشاروا إلى أن توقيت القرار غير مناسب، فمن المستغرب أن يصدر في ظل جائحة فيروس كورونا التي تجتاح البلاد وتصيب الناس بعدم الاطمئنان، وفق ما أشار رئيس المركز العربي للدراسات الاقتصادية، الدكتور أحمد مطر، الذي أشار إلى أن السوق العالمي ومنه المصري “يعيش حالة من عدم اليقين، ومناخ الاقتصاد عالميًا ومحليًا مهدد، وتجارة الخدمات جميعها شبه متوقفة، وعلى رأسها السياحة والمطاعم والفنادق والنقل والطيران، وكل الأنشطة المرتبطة بهذا القطاع الكبير”.
وأضاف رئيس المركز العربي للدراسات الاقتصادية في تصريحات صحفية له أن “أصحاب تلك المهن والأعمال وهذه القطاعات يعيشون حالة من القلق والبطالة، ولذا فمن الغريب أن يصدر مثل هذا القرار في هذا التوقيت”، لافتًا إلى أن القرار “يزيد النار اشتعالًا ويؤجج القلق ويثير الذعر والتخوف بين الناس ويفاقم حالة عدم الثقة”.
فمن المفترض في ظل هذه الظروف أن تلجأ الحكومات إلى بث الطمأنينة، من خلال تقديم حزمة إجراءات اقتصادية للحفاظ على حالة الثقة واليقين داخل السوق، بحسب الخبير الاقتصادي الذي أوضح أن القرار من حيث الصياغة يأتي “مخيفًا جدًا، فالصياغة غير مناسبة للظرف، وتقول للمودعين، إن من يملك منكم 2 أو 3 ملايين جنيه – مبلغ ليس كبيرًا – إذا أردت أن تشتري شقة مثلًا، فستظل تسحب هذا الرقم 10 آلاف جنيه بعشرة آلاف جنيه”.
ويتفق معه في الرأي الخبير الاقتصادي المصري الدكتور أحمد ذكر الله، الذي يعتبر القرار “متسرعًا للغاية، وأنه بالفعل سيثير البلبلة لحد كبير في أوساط المصريين، وسيزيد من درجة المخاوف من أزمة كورونا لديهم”، مؤكدًا أنه جاء لتدعيم الشكوك والمخاوف التي أصابت المصريين الفترة الماضية، بأن هناك أرقامًا غير معلنة عن كثافة انتشار هذا الوباء بين المصريين، وتداعيات ذلك الاقتصادية على مصر المرحلة المقبلة.
كما أشار إلى عدم وجود أي مبررات حقيقية لمثل هذه القرارات التي تعكس وجود أزمة ربما يكون لها تداعياتها السلبية على السوق المصري، منوهًا أن حيثيات هذه الخطوة غير مقنعة، حيث إن “ودائع البنك المركزي وودائع الأفراد بالبنوك بالجنيه المصري، تتزايد بصورة كبيرة الفترة الماضية”.
فوضى أسعار الفائدة
وفي المقابل هناك من يرى أن قرار تقييد مبالغ السحب النقدي أو عن طريق الصراف الألي لأصحاب الحسابات المصرفية هو أحد توابع قرار تخفيض أسعار الفائدة الصادر في 16 من مارس الحاليّ، حيث تم تخفيض سعر الأساس لعمليات البنك المركزي تم بمقدرار ثلاث نقاط مئوية مرة واحدة إلى 9.75%.
الخبير الاقتصادي المصري إبراهيم نوار، يعتبر أن مثل هذا القرار سيكون له تأثير كبير على السيولة في البنوك، لافتًا إلى أن كل البنوك باستثناء بنكي “الأهلي” و”مصر” اضطرت إلى إعلان تخفيض أسعار الفائدة على الودائع الجديدة والفوائد على حسابات التوفير، تماشيًا مع التخفيض الذي أعلنه البنك المركزي.
وأوضح في مقال له على صفحته الشخصية على فيس بوك أن البنك الأهلي لم يفعل، بجانب إصدار بنك مصر شهادة إيداع جديدة لعملائه بعائد سنوي يبلغ 15%، وعليه بات في سوق الإيداع المصري 3 أسعار للعوائد على الأقل، 15% لدى بنك مصر، 13% لدى البنك الأهلي (ضمن سلة متنوعة من العائد على شهادات الإيداع لآجال مختلفة)، ثم سعر ثالث أو أكثر يقل عن سعر الأساس للبنك المركزي.
ونتيجة لهذا الوضع بدأ الهجوم من جانب المودعين لدى البنوك الأخرى العاملة في مصر، لسحب إيداعاتهم من أجل توظيفها في شهادات ذات عائد أعلى لدى بنك مصر (25%) أو لدى البنك الأهلي (13%)، مشيرًا إلى أن هذا أمر طبيعي، لأن المودع يبحث عن أعلى عائد، كما أن رجل الأعمال يبحث عن أقصى ربح، ومثل وزارة المالية التي تبحث عن أقصى الإيرادات.
وكشف الخبير المصري أن السحب بتلك الكميات الكبيرة يؤدي إلى حدوث نقص في السيولة لدى البنوك باستثناء البنكين سالفي الذكر، وهو الأمر الذي تطلب ضرورة تدخل محافظ البنك المركزي الذي أصدر قراره بفرض قيود على السحب والإيداع “لفترة مؤقتة” كما جاء في نص القرار.
لا شك أن قرار كهذا يضر بمصالح المودعين في استثمار أموالهم على الشكل الذي يرغبون به داخل البنوك أو خارجها، كما أنه أيضًا يعطل مصالحهم اليومية ويعرضهم لزحام لا مبرر له للحصول على مصروفاتهم المختلفة التي قد تتضمن طارئًا يحتاج لأكثر من عشرة آلاف جنيه (وهو سقف السحب النقدي اليومي من فروع البنوك)، وإذا أراد مودع الحصول على أكثر من هذا المبلغ لأداء دين أو قضاء مصلحة أو المساهمة في مشروع أو خلافة فإن القرار يقيد حريته في التصرف في أمواله.
واختتم الاقتصادي مقاله بأن الحل يتمثل في ضرورة إلغاء القرار الذي لا يتسم بالشفافية، وتنسيق سياسة أسعار الفائدة بين جميع البنوك حتى لا تكون هناك فروق في تكاليف الاقتراض أو عائد الإيداع بالدرجة التي تدفع أصحاب الأموال إلى سحب أموالهم من بنك لغرض إيداعها في بنك آخر.
وأمام حدة الانتقادات التي وجهت للبنك المركزي جراء هذا القرار، كشفت بعض المصادر الخاصة لـ”نون بوست” أن هناك توجهًا داخل البنك لتعديل حد الإيداع بداخل الفروع والبالغ 10 آلاف جنيه في اليوم حسب التعليمات الصادرة أمس، وجعل الإيداع مفتوحًا دون حد كما كان قبل القرار، فيما توقع آخرون تعديل آخر بشأن حد السحب خلال الساعات المقبلة.
ربما يرى البعض أن إدارة الحكومة المصرية لأزمة كورونا جيدة إلى حد ما حتى كتابة هذه السطور فيما يتعلق بمساعي تطويق الوباء والحيلولة دون انتشاره بالشكل المقلق، وهو ما تؤكده البيانات والتصريحات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، غير أن الأداء الاقتصادي لم يكن مرضيًا للجميع، ولعل حالة البلبلة التي خيمت على الشارع المصري خلال الساعات الماضية تعكس حجم الفشل في إدارة الأزمة من الناحية الاقتصادية وهو ما يحمل في ثناياه قنابل موقوتة إن لم يتم تداركه اليوم قبل الغد.