تغير الأزمنة الاستثنائية أبعادًا مختلفةً من العالم الذي نعيشه، بدءًا من الناحية الاجتماعية وامتدادًا إلى النواحي الفكرية والاقتصادية والسياسية، وذلك إيذانًا بظهور مفاهيم وإيديولوجيات وقوى جديدة على مستوى العالم.
لم تتوقف الإرهاصات المؤذنة بحدوث تغيرات كبرى في العالم منذ مطلع الألفية الجديدة، ولعل أبرزها سياسيًا بروز الصين كقوة اقتصادية ذات طموحٍ كبيرٍ لمنافسة الولايات المتحدة على قيادة الاقتصاد العالمي من خلال نموها المطرد وتغلغلها الاستثماري في عدد من الدول الإفريقية والأوروبية، بالتوازي مع انطلاق أحداث الربيع العربي وآثاره المختلفة في نسيج الشرق الأوسط، مرورًا بالأزمة الوبائية الحاليّة التي نعيشها ويشير العديد من علماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد إلى حتمية صدور آثار كبيرةٍ عنها تغير مفاهيم ونظمًا مختلفة في شكل ومضمون عالمنا الحاليّ.
مدخل لمعضلة العربة
طرحت الفيلسوفة البريطانية فيليبا فوت معضلة العربة أو القطار، إلا أن تعديلات مختلفة على بنية المعضلة نظريًا اقترحها مفكرون عديدون أبرزهم الفيلسوفة الأمريكية جوديث تومسون التي حاولت تفكيك المسألة وعرضها على احتمالات عديدة من وجهات نظر متعارضة.
نظريًا فالمعضلة كالآتي: تخيل أنك تقف قرب مقبضٍ التحويل في سكة القطار وعلى أحد فروع السكة يقف شخصٌ مقيدٌ على السكة، وعلى مسار آخر يقف خمسة عمال مقيدون أيضًا، وحينها يأتي قطارٌ مسرع ولديك أمرٌ بأن تغير طريق القطار إلى أحد الطريقين، وترك الاختيار لك، فهل ستختار مسار الشخص الوحيد أم الأشخاص الخمس؟
وضعت جوديث افتراضات مختلفة لحل المعضلة ويتفرع عن كل خيار مناقشات وخيارات أخرى، كأن يكون الأشخاص الخمس عمالًا ويكون الآخر عالمًا مهمًا، أو أن يكون الخمسة مسؤولين والآخر إنسانًا فقيرًا، أو يكون الخمسة في التسعين والوحيد طفلًا لم يتجاوز عامًا، أو أن الخمسة من دين آخر والشخص الآخر أخ لك أو زوجتك.
تقوم مقاربة الإيطالية – إن جاز التعبير – على بذل الجهود لوقف انتشار الوباء إلا أن الواقع يجبر الأطباء على ارتكاب ما يسمى “أقل الضررين”
ما الذي يتغير هنا؟
لقد حيرت معضلة العربة علماء الأخلاق عقودًا طويلة، وباتت نقطةً محورية في علم النفس الأخلاقي، نظرًا لتألفها من مشكلتين مرتبطتين ارتباطًا وثيقًا، إحداهما معيارية والأخرى وصفية، حيث تمتزج في معضلة العربة عدة معضلات أخلاقية، يندرج في أغلبها معضلة “المقايضة” لروح تجاه أرواح أخرى، أو مقايضة أرواح في سبيل بقاء روح أخرى، وتكمن المشكلة الوصفية في البحث عن تفسير سبب ميل الناس للقبول بالتضحية بروحٍ واحدة في سبيل إنقاذ العديدٍ من الأرواح في حالات معينة دون أخرى، وتكمن المشكلة المعيارية في تعليل القبول بمبدأ المقايضة، وبطبيعة الحال فإن اقتراح أي حل لهاتين المشكلتين سيكشف عن مبادئ أخلاقية عامة كما أنها ستنطوي في الآن ذاته على مناقضات لمبادئ أخلاقية أخرى.
الطبابة في زمن الوباء.. التجلي الجديد للمعضلة
بعد مناقشات وتجارب طويلة في القرن الماضي ومطلع القرن الحاليّ يمكن القول إن هناك فجوة كبيرة بين الطريقة التي نجيب بها على هذه الأسئلة افتراضيًا والخيار الذي يمكن تطبيقه في الواقع، نظرًا لاختلاف قناعاتنا الشخصية والقيم التي يستمدها الشخص من الفضاء الفكري المحيط به.
في عام 2012 ضرب إعصار ساندي مدينة نيويورك وكان من جملة الأضرار توقف المولدات الأساسية للكهرباء في مشفى بلفيو، وكان لزامًا على مديرة الوحدة الطبية الاختيار في توزيع مصادر الطاقة على بعض المرضى دون غيرهم، وقد كان الاختيار بناء على قائمة تضم أسماء الأشخاص وسنهم ليكون كبار السن هم الضحايا.
تشهد إيطاليا والولايات المتحدة الآن – على سبيل المثال – انفجارًا وبائيًا وربما سيكون واجبًا على أطباء ومديري المشافي الخضوع لمعضلة القطار بشكل عملي، فيكون عليهم اتخاذ قرارات مؤلمة بشأن استخدام الموارد المتاحة والتفضيل في أولوية العلاج بين جنس الشخص وعمره وقيمته الاجتماعية.
بذات المنطق يعترض آخرون بأن المسن قدم قوته وجهوده لخدمة الإنتاج ولديه من الخبرة ما ليس لدى الشباب، مما يعني أن أي أن المجتمع ما زال بحاجة إليه
دعا الدكتور جياكومو غراسيلي من جامعة ميلانو العالم إلى تجنب “السيناريو الإيطالي” من الآن، حيث إن بلاده تعيش خطر الانهيار الحقيقي وأن الموارد لن تكون كافية للجميع، وحينها سيكون الطبيب مجبرًا لإعطاء الأولوية في وحدات العناية للمرضى الذين لديهم “أعلى فرصة للبقاء على قيد الحياة”.
تقوم مقاربة الإيطالية – إن جاز التعبير – على بذل الجهود لوقف انتشار الوباء إلا أن الواقع يجبر الأطباء على ارتكاب ما يسمى “أقل الضررين”، إلا أن السؤال الملح هو: كيف تقلل الوفيات إلى أدنى حد؟ وما معيار الاختيار بين المرضى الذي يتعارض أصلًا مع جوهر فلسفة الطب “العناية للجميع”.
في دراسة بمجلة “The New England Journal of Medicine”، يحاول باحثون ترتيب أولوية المرضى، وأهمهم الطواقم الطبية ثم الأشخاص القادرون على العيش مدة أطول.
إن المنطق الذي يقف خلف هذا التمييز قائم على البراغماتية، فأولوية الطبيب هنا عائدة لما يستطيع تقديمه في زمن الوباء لا لإنسانه أو شخصه، إلا أن سؤالاً لا بد من التأكيد عليه في المقابل وهو: ما المغزى من منح الدواء والأجهزة الطبية لشابٍ على حساب المسنين؟
تعود الفكرة إلى المنطق الاقتصادي في تقديم أولوية الشاب بأن إنقاذ الشخص المنتج والمساهم في تطور الاقتصاد أولى من الشخص المتقاعد المستهلك الذي لن يساهم في خدمة البشرية أكثر مما فعل لمدة أطول.
بذات المنطق يعترض آخرون بأن المسن قدم قوته وجهوده لخدمة الإنتاج ولديه من الخبرة ما ليس لدى الشباب، مما يعني أن المجتمع ما زال بحاجة إليه، خاصة إن كان عالمًا أو مفكرًا أو إداريًا أو سياسيًا ناجحًا.
تشير توجيهات وزارة الصحة في الولايات المتحدة إلى أن فرق الفرز في ظل ظروف الأزمة لا بد أن تفكر في نقل المرضى خارج المستشفيات أو على رعاية المريض بهدف تسكين الألم إذا كان ممن يتسم بضعف البدن والإدراك والصحة العامة في حال “لم يكن هناك ما يكفي من موارد الطاقة”.
كل إنسان يتحيز للنماذج المعرفية التي تنتشر في فضائه الثقافي، ولذا فإنه يتصارع معها حين تأتي بضرر يؤذيه
الفرز وقضية التحيز
يذكر لنا التاريخ أن أبرز تطبيقات الفرز الصحية ظهرت في معارك نابليون من خلال طبيبه دومينيك جان الذي رأى أنه يجب على الأطباء الذهاب للمصابين الأشد خطورة أولًا، وفي وقت لاحق أضاف الأطباء معايير أخرى للفرز الجماعي كالرتبة والمقام واحتمال بقاء الشخص على قيد الحياة بعد العلاج.
يخفي الفرز نوعًا من “التحيز” ضد الشخص المستبعد من الاستمرار في تلقي العلاج، نظرًا للمعيار الذي قد يطبق عليه، بالتوازي مع رؤى الشخص المنفذ ذاته في تحديد أولوية الفرز.
يذكرنا هذا بالدكتور عبد الوهاب المسيري في أثناء تشريحه للحضارة الغربية بوصفها حضارة قائمة على التحيز المعرفي، فبحسب المسيري فكل إنسان يتحيز للنماذج المعرفية التي تنتشر في فضائه الثقافي، ولذا فإنه يتصارع معها حين تأتي بضرر يؤذيه، وهو ما نراه في أزمة كورونا، فالناس اليوم ينتقدون معايير الفرز بينما تقتضي الفلسفة البراغماتية التصرف على هذا النحو كونها النموذج المعرفي المهيمن في الغرب.
السؤال مقدمة للبحث عن الإجابة
جائحة كورونا ليست وباءً جسديًا فحسب، بل هي دروسٌ دقيقةٌ في مناحٍ مختلفة من حياتنا، ولن تقتصر آثارها على جوانب قطاع الصحة والاقتصاد وإنما ستمتد لتغير نظريات مختلفة في الأخلاق وعلم الاجتماع، نظرًا للكم الهائل من الإشكالات التي أفرزتها وتتطلب نقدًا وتفكيكًا شاملاً.
هذا الانتقال المنتظر سيبدأ بأطر التفكير المعهودة، وعلى اعتبار أن الدرس التاريخي أبرز ما نستطيع متابعته، فإن اختبارات تاريخنا المعاصر وتحليل الماضي على ضوء الجائحة الحاليّة سترتد علينا بأسئلة لن تنتهي، مما يفترض أن نسعى في سبيل تقديم إجابات من شتى الأطراف حولها، وهذه مهمة عامة ينبغي أن يسهم فيها جميع المتخصصين في مختلف الحقول المعرفية والإنسانية والاقتصادية، كما ينبغي أن تسهم فيها مراكز الأبحاث الأكاديمية والفكرية، فالسؤال قادح شعلة التفكير دومًا فهل نحن مستعدون للبحث عن الإجابات؟